فصل:
قال " الشيخ عبد القادر " قدس الله روحه : " افن عن الخلق بحكم الله وعن هواك بأمره وعن إرادتك بفعله لحينئذ يصلح أن تكون وعاء لعلم الله".
قلت : فحكمه يتناول خلقه وأمره أي : افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة الله والتوكل عليه، فلا تطعهم في معصية الله تعالى ولا تتعلق بهم في جلب منفعة ولا دفع مضرة . وأما الفناء عن الهوى بالأمر وعن الإرادة بالفعل بأن يكون فعله موافقا للأمر الشرعي لا لهواه، وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل الله لا لإرادة نفسه . فالإرادة تارة تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات .
فالأول " يكون بالأمر، و " الثاني " لا تكون له إرادة . ولا بد في هذا أن يقيد بأن لا تكون له إرادة لم يؤمر بها، وإلا فإذا أمر بأن يريد من المقدورات شيئا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته سواء كان موافقا للقدر أم لا . وهذا الموضع قد يغلط فيه طائفة من السالكين، والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الإرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور .
قال الشيخ : " فعلامة فنائك عن خلق الله انقطاعك عنهم ، وعن التردد إليهم ، واليأس مما في أيديهم " .
وهو كما قال . فإذا كان القلب لا يرجوهم ولا يخافهم لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم، وهذا يشبه بما يكون مأمورا به من المشي إليهم لأمرهم بما أمر الله به ونهيهم عما نهاهم الله عنه كذهاب الرسل وأتباع الرسل إلى من يبلغون رسالات الله، فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد; ليكون عابدا لله متوكلا عليه، وإلا فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر به ; فقد يكون ما أضاعه من الأمر أولى به مما قام به من التوكل أو مثله أو دونه، كما أن من قام بأمر ولم يتوكل عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب; بل قد يكون ما تركه من التوكل والاستعانة أولى به مما فعله من الأمر أو مثله أو دونه .
قال الشيخ : " وعلامة فنائك عنك وعن هواك : ترك التكسب ، والتعلق بالسبب في جلب النفع ، ودفع الضر فلا تتحرك فيك بك ، ولا تعتمد عليك لك ولا تنصر نفسك ولا تذب عنك لكن تكل ذلك كله إلى من تولاه أولا فيتولاه آخرا، كما كان ذلك موكولا إليه في حال كونك مغيبا في الرحم وكونك رضيعا طفلا في مهدك " .
قلت : وهذا لأن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها ، ودفع ما تبغضه ويضرها، فإذا فني عن ذاك بالأمر فعل ما يحبه الله وترك ما يبغضه الله، فاعتاض بفعل محبوب الله عن محبوبه وبترك ما يبغضه الله عما يبغضه ، وحينئذ فالنفس لا بد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة فيكون في ذلك متوكلا على الله .
و " الشيخ رحمه الله " ذكر هنا التوكل دون الطاعة ; لأن النفس لا بد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة، فإن لم تكن متوكلة على الله في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل الأمر مطلقا ; بل لا بد أن تعصي الأمر في جلب المنفعة ودفع المضرة، فلا تصح العبادة لله وطاعة أمره بدون التوكل عليه، كما أن التوكل عليه لا يصح بدون عبادته وطاعته; قال تعالى : { فاعبده وتوكل عليه } وقال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وقال تعالى : { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } .
و ( المقصود ) أن امتثال الأمر على الإطلاق لا يصح بدون التوكل والاستعانة، ومن كان واثقا بالله أن يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره، وإلا فنفسه لا تدعه أن يترك ما يقول إنه محتاج فيه إلى غيره.
قال الشيخ - رضي الله عنه - : " وعلامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط فلا يكن لك غرض ولا تقف لك حاجة ولا مرام ; لأنك لا تريد مع إرادة الله سواها بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة الله تعالى وفعله ، ساكن الجوارح ، مطمئن الجنان ، مشروح الصدر ، منور الوجه ، عامر الباطن ، غنيا عن الأشياء بخالقها تقلبك يد القدرة ، ويدعوك لسان الأزل ، ويعلمك رب الملك ويكسوك نورا منه والحلل ، وينزلك منازل من سلف من أولي العلم الأول فتكون منكسرا أبدا . فلا تثبت فيك شهوة ولا إرادة : كالإناء المتثلم - الذي لا يثبت فيه مائع ولا كدر فتفنى عن أخلاق البشرية فلن يقبل باطنك ساكنا غير إرادة الله، فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات فيرى ذلك منك في ظاهر العقل والحكم، وهو فعل الله تبارك وتعالى حقا في العلم، فتدخل حينئذ في زمرة المنكسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية وأزيلت شهواتهم الطبيعية واستوثقت لهم إرادات ربانية وشهوات إضافية . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { حبب إلي من دنياكم : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة } " فأضيف ذلك إليه بعد أن خرج منه وزال عنه تحقيقا لما أشرت إليه وتقدم، قال الله تعالى : " { أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي } " وساق كلامه . وفيه : " { ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل } " الحديث .
قلت : هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - وحقيقته أنه لا يريد كون شيء إلا أن يكون مأمورا بإرادته، فقوله : علامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط; أي لا تريد مرادا لم تؤمر بإرادته، فأما ما أمرك الله ورسوله بإرادتك إياه فإرادته إما واجب وإما مستحب، وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص .
وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين فيظنون أن الطريقة الكاملة ألا يكون للعبد إرادة أصلا، وأن قول أبي يزيد : " أريد ألا أريد " - لما قيل له : ماذا تريد ؟ - نقص وتناقض ; لأنه قد أراد ، ويحملون كلام المشايخ الذين يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة مطلقا، وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين، وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقا فإن هذا غلط ممن قاله; فإن ذلك ليس بمقدور ولا مأمور، فإن الحي لا بد له من إرادة، فلا يمكن حيا ألا تكون له إرادة، فإن الإرادة التي يحبها الله ورسوله ويأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب لا يدعها إلا كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة، وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركا لما هو خير له . والله تعالى قد وصف الأنبياء والصديقين بهذه " الإرادة " فقال تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } وقال تعالى: { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } وقال تعالى : { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } وقال تعالى : { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } ..
ومثل هذا كثير في القرآن ; يأمر الله بإرادته وإرادة ما يأمر به وينهى عن إرادة غيره وإرادة ما نهى عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه }
فهما " إرادتان " : إرادة يحبها الله ويرضاها، وإرادة لا يحبها الله ولا يرضاها; بل إما نهى عنها وإما لم يأمر بها ولا ينهى عنها.
والناس في الإرادة " ثلاثة أقسام " :
قوم يريدون ما يهوونه فهؤلاء عبيد أنفسهم والشيطان .
وقوم يزعمون أنهم فرغوا من الإرادة مطلقا ولم يبق لهم مراد إلا ما يقدره الرب وإن هذا المقام هو أكمل المقامات، ويزعمون أن من قام بهذا فقد قام بالحقيقة وهي الحقيقة القدرية الكونية ; وأنه شهد القيومية العامة ويجعلون الفناء في شهود توحيد الربوبية هو الغاية ; وقد يسمون هذا : الجمع والفناء والاصطلام ونحو ذلك . وكثير من الشيوخ زلقوا في هذا الموضع .
وفي " هذا المقام " كان النزاع بين الجنيد بن محمد وبين طائفة من أصحابه الصوفية ; فإنهم اتفقوا على شهود توحيد الربوبية وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وهو شهود القدر ; وسموا هذا " مقام الجمع " فإنه خرج به عن الفرق الأول وهو الفرق الطبيعي بإرادة هذا وكراهة هذا ، ورؤية فعل هذا وترك هذا، فإن الإنسان قبل أن يشهد هذا التوحيد يرى للخلق فعلا يتفرق به قلبه في شهود أفعال المخلوقات ; ويكون متبعا لهواه فيما يريده، فإذا أراد الحق خرج بإرادته عن إرادة الهوى والطبع ثم شهد أنه خالق كل شيء فخرج بشهود هذا الجمع عن ذاك الفرق، فلما اتفقوا على هذا ذكر لهم الجنيد بن محمد " الفرق الثاني " وهو بعد هذا الجمع وهو الفرق الشرعي; ألا ترى أنك تريد ما أمرت به ولا تريد ما نهيت عنه، وتشهد أن الله يستحق العبادة دون ما سواه، وأن عبادته هي بطاعة رسله فتفرق بين المأمور والمحظور وبين أوليائه وأعدائه ، وتشهد توحيد الألوهية فنازعوه في هذا " الفرق " ومنهم من أنكره . ومنهم من لم يفهمه..
وأفضل الأنبياء بعده " إبراهيم " كما ثبت في الصحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم " { أن إبراهيم خير البرية } " وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبة الجمعة : خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم } " . وكذلك كان عبد الله بن مسعود يخطب بذلك يوم الخميس كما رواه البخاري في صحيحه . وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " { ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله } " . { وقال أنس : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي : أف قط وما قال لي لشيء فعلته لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته ؟ وكان بعض أهله إذا عنفني على شيء قال : دعوه فلو قضي شيء لكان } " .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلائق وسيد ولد آدم وله الوسيلة في المقامات كلها ولم يكن حاله أنه لا يريد شيئا ولا أنه يريد كل واقع، كما أنه لم يكن حاله أنه يتبع الهوى بل هو منزه عن هذا وهذا، قال الله تعالى : { وما ينطق عن الهوى } { إن هو إلا وحي يوحى } وقال تعالى : { وأنه لما قام عبد الله يدعوه } وقال تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } وقال : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } .
والمراد بعبده عابده المطيع لأمره ; وإلا فجميع المخلوقين عباد بمعنى أنهم معبدون مخلوقون مدبرون . وقد قال الله لنبيه : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } قال الحسن البصري: لم يجعل الله لعمل المؤمن أجلا دون الموت، وقد قال الله تعالى له : { وإنك لعلى خلق عظيم } قال ابن عباس ومن وافقه كابن عيينة وأحمد بن حنبل : على دين عظيم . و " الدين " فعل ما أمر به . وقالت عائشة : { كان خلقه القرآن } " رواه مسلم . وقد أخبرت أنه لم يكن يعاقب لنفسه ولا ينتقم لنفسه لكن يعاقب لله وينتقم لله، وكذلك أخبر أنس أنه كان يعفو عن حظوظه وأما حدود الله فقد قال : " { والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها } " أخرجاه في الصحيحين . وهذا هو كمال الإرادة ; فإنه أراد ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان والعمل الصالح وأمر بذلك وكره ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان ونهى عن ذلك; كما وصفه الله تعالى بقوله : { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } .
وأما لحظ نفسه فلم يكن يعاقب ولا ينتقم بل يستوفي حق ربه ، ويعفو عن حظ نفسه وفي حظ نفسه ينظر إلى القدر . فيقول : " { لو قضي شيء لكان } " وفي حق الله يقوم بالأمر فيفعل ما أمر الله به ويجاهد في سبيل الله أكمل الجهاد الممكن، فجاهدهم أولا بلسانه بالقرآن الذي أنزل عليه كما قال تعالى : { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا } { فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا } . ثم لما هاجر إلى المدينة وأذن له في القتال جاهدهم بيده ..
وهذا الذي كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم وهديه هو أكمل الأمور .
فأما من أراد ما يحبه الله تارة وما لا يحبه تارة، أو لم يرد لا هذا ولا هذا فكلاهما دون خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن على واحد منهما إثم كالذي يريد ما أبيح له من نيل الشهوة المباحة والغضب والانتقام المباح كما هو خلق بعض الأنبياء والصالحين فهو وإن كان جائزا لا إثم فيه فخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل منه . وكذلك من لم يرد الشهوات المباحة وإن كان يستعان بها على أمر مستحب، ولم يرد أن يغضب وينتقم ويجاهد إذا جاز العفو وإن كان الانتقام لله أرضى لله، كما هو أيضا خلق بعض الأنبياء والصالحين فهذا وإن كان جائزا لا إثم فيه فخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل منه . وهذا والذي قبله إذا كان شريعة لنبي فلا عيب على نبي فيما شرع الله له . لكن قد فضل الله بعض النبيين على بعض ، وفضل بعض الرسل على بعض ، والشريعة التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الشرائع ; إذ كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين وأمته خير أمة أخرجت للناس ..
فصل:
فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشايخ أهل الاستقامة - رضي الله عنهم -; بأنه لا يريد السالك مرادا قط وأنه لا يريد مع إرادة الله عز وجل سواها، بل يجري فعله فيه فيكون هو مراد الحق; إنما قصدوا به فيما لم يعلم العبد أمر الله ورسوله فيه، فأما ما علم أن الله أمر به فعليه أن يريده ويعمل به، وقد صرحوا بذلك في غير موضع . وإن كان غيرهم من الغالطين يرى القيام بالإرادة الخلقية هو الكمال وهو " الفناء في توحيد الربوبية " وأن السلوك إذا انتهى إلى هذا الحد فصاحبه إذا قام بالأمر فلأجل غيره أو أنه لا يحتاج أن يقوم بالأمر; فتلك أقوال وطرائق فاسدة قد تكلم عليها في غير هذا الموضع .
فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف : مثل الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطي والجنيد بن محمد وغيرهم من المتقدمين ، ومثل الشيخ عبد القادر والشيخ حماد والشيخ أبي البيان وغيرهم من المتأخرين . فهم لا يسوغون للسالك ولو طار في الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يفعل المأمور ويدع المحظور إلى أن يموت، وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف .
وهذا كثير في كلامهم : كقول الشيخ عبد القادر في كتاب فتوح الغيب : " اخرج من نفسك وتنح عنها وانعزل عن ملكك، وسلم الكل إلى الله - تبارك وتعالى - وكن بوابه على باب قلبك ، وامتثل أمره - تبارك وتعالى - في إدخال من يأمرك بإدخاله وانته نهيه في صد من يأمرك بصده . فلا تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه وإخراج الهوى من القلب بمخالفته ، وترك متابعته في الأحوال كلها وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته فلا ترد إرادة غير إرادته - تبارك وتعالى - وغير ذلك منك غير وهو وادي الحمقى وفيه حتفك وهلاكك وسقوطك من عينه - تبارك وتعالى - وحجابك عنه . احفظ أبدا أمره وانته أبدا نهيه وسلم إليه أبدا مقدوره ولا تشركه بشيء من خلقه فإرادتك وهواك وشهواتك خلقه فلا ترد ولا تهوى ولا تشته لئلا يكون شركا .
قال الله تعالى : { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ليس الشرك عبادة الأصنام فحسب ; بل هو أيضا متابعتك لهواك وأن تختار مع ربك شيئا سواه من الدنيا وما فيها والآخرة وما فيها فما سواه - تبارك وتعالى - غيره فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به غيره فاحذر ولا تركن وخف ولا تأمن وفتش ولا تغفل فتطمئن ولا تضف إلى نفسك حالا ولا مقاما ولا تدع شيئا من ذلك " .
وقال الشيخ عبد القادر أيضا :
" إنما هو الله ونفسك وأنت المخاطب والنفس ضد الله وعدوته ; والأشياء كلها تابعة لله فإذا وافقت الحق في مخالفة النفس وعداوتها كنت خصما له على نفسك - إلى أن قال - : " فالعبادة " في مخالفتك نفسك وهواك قال تعالى : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } إلى أن قال : والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي - رحمه الله تعالى - لما رأى رب العزة في المنام فقال له : كيف الطريق إليك ؟ فقال : اترك نفسك وتعال قال أبو يزيد : فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها .
فإذا ثبت أن الخير كله في معاداتها في الجملة في الأحوال كلها فإن كنت في حال التقوى فخالف النفس بأن تخرج من إجرام الخلق وشبههم ومنتهم والاتكال عليهم والثقة بهم والخوف منهم ; والرجاء لهم والطمع فيما عندهم من حطام الدنيا فلا ترج عطاءهم على طريق الهدية أو الزكاة أو الصدقة أو الكفارة أو النذر فاقطع همك منهم من سائر الوجوه والأسباب فاخرج من الخلق جدا واجعلهم كالباب يرد ويفتتح وكالشجرة يوجد فيها ثمرة تارة وتحيل أخرى كل ذلك بفعل فاعل وتدبير مدبر ، وهو الله تبارك وتعالى .
فإذا صح لك هذا كنت موحدا له - تبارك وتعالى - ولا تنس مع ذلك كسبهم لتتخلص من مذهب الجبرية وأعتقد أن الأفعال لا تتم لهم دون الله - تبارك وتعالى - لكيلا تعبدهم وتنسى الله تعالى ولا تقبل فعلهم دون الله فتكفر وتكون قدريا . ولكن قل : هي لله خلقا وللعباد كسبا . كما جاءت به الآثار لبيان موضع الجزاء من الثواب والعقاب ، وامتثل أمر الله فيهم وخلص قسمك منهم بأمره ولا تجاوزه فحكمه قائم يحكم عليك وعليهم فلا تكن أنت الحاكم وكونك معهم قدر والقدر ظلمة فادخل في الظلمة بالمصباح وهو " الحكم " : كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تخرج عنهما . فإن خطر خاطر أو وجدت إلهاما فاعرضهما على الكتاب والسنة فإن وجدت فيهما تحريم ذلك مثل أن تلهم بالزنا أو الربا أو مخالطة أهل الفسوق والفجور وغير ذلك من المعاصي فادفعه عنك واهجره ولا تقبله ولا تعمل به واقطع بأنه من الشيطان اللعين وإن وجدت فيهما إباحته كالشهوات المباحة من الأكل والشرب واللبس والنكاح فاهجره أيضا ولا تقبله واعلم أنه من إلهام النفس وشهواتها وقد أمرت بمخالفتها وعداوتها " .
قلت : ومراده بهجر المباح إذا لم يكن مأمورا به كما قد بين مراده في غير هذا الموضع . فإن المباح المأمور به إذا فعله بحكم الأمر كان ذلك من أعظم نعمة الله عليه وكان واجبا عليه ، وقد قدمت أنه يدعو إلى طريقة السابقين المقربين ; لا يقف عند طريقة الأبرار أصحاب اليمين .
قال : " وإن لم تجد في الكتاب والسنة تحريمه ولا إباحته بل هو أمر لا تعقله مثل أن يقال لك ائت موضع كذا وكذا الق فلانا الصالح ; ولا حاجة لك هناك ولا في الصالح ; لاستغنائك عنه بما أولاك الله تعالى من نعمه من العلم والمعرفة فتوقف في ذلك ولا تبادر إليه . فتقول : هل هذا إلهام إلا من الحق فاعمل به ؟ بل انتظر الخير في ذلك وفعل الحق بأن يتكرر ذلك الإلهام ، وتؤمر بالسعي أو علامة تظهر لأهل العلم بالله تبارك وتعالى يفعلها العقلاء من أولياء الله والمؤيدون من الأبدال . وإنما لم تبادر إلى ذلك لأنك لا تعلم عاقبته وما يؤول الأمر إليه وربما كان فيه فتنة وهلاك ومكر من الله وامتحان فاصبر حتى يكون عز وجل هو الفاعل فيك فإذا تجرد الفعل وحملت إلى هناك واستقبلتك فتنة كنت محمولا محفوظا فيها ; لأن الله تعالى لا يعاقبك على فعله وإنما تتطرق العقوبات نحوك لكونك في الشيء " .
قلت : فقد أمر - رضي الله عنه - بأن ما كان محظورا في الشرع يجب تركه ولا بد، وما كان معلوما أنه مباح بعينه لكونه يفعل بحكم الهوى لا بأمر الشارع فيترك أيضا، وأما ما لم يعلم هل هو بعينه مباح لا مضرة فيه أو فيه مضرة مثل السفر إلى مكان معين أو شخص معين والذهاب إلى مكان معين أو شخص معين فإن جنس هذا العمل ليس محرما ولا كل أفراده مباحة ; بل يحرم على الإنسان أن يذهب إلى حيث يحصل له ضرر في دينه، فأمره بالكف عن الذهاب حتى يظهر أو يتبين له في الباطن أن هذا مصلحة ; لأنه إذا لم يتبين له أن الذهاب واجب أو مستحب لم ينبغ له فعله، وإذا خاف الضرر ينبغي له تركه، فإذا أكره على الذهاب لم يكن عليه حرج فلا يؤاخذ بالفعل . بخلاف ما إذا فعله باختياره أو شهوته ; وإذ تبين له أنه مصلحة راجحة كان حسنا .
وقد جاءت شواهد السنة : بأن من ابتلي بغير تعرض منه أعين ، ومن تعرض للبلاء خيف عليه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة " { لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها } " ومنه قوله : " { لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا } " . وفي السنن " { من سأل القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده } - وفي رواية - وإن أكره عليه " وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال في الطاعون : " { إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ; وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه } " وعنه أنه صلى الله عليه وسلم " { نهى عن النذر } " ومنه قوله : " { ذروني ما تركتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم . فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه . وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } "