طلب العلم في الصحراء
قال- الشيخ خالد السبت، لعلي أحدثكم عن تجربة في التعلم والتعليم، خرَّجَت علماء، ليكونَ ذلك جوابا لسؤالٍ دائما نسمعه ويتَردّد كثيرا، كيف نطلب العلم.
فنعطيكم نموذجا مطبقاً بشكل واضح في بلد من بلاد المسلمين، موريتانيا. فتلك البلاد خرَّجَت علماء أفذاذ ولا زالت تُخرِّج. إن الناس هناك يتعلمون العلم ويتلقون العلم بطريقة عجيبة، فالعالم- الرجل المتبحِّر في العلم المتحقق فيه الذي عبَّ منه وارتوي، نعم، يجلس في بادية الصحراء ولربما جلسَ في مدينة أشبه بالبادية، إن صَحَّ أن تسمي مدينة، يجلس هذا العالم في خيمة ويجلس حوله التلاميذ الذين جاءوا من أصقاعِ الأرض، من آسيا ومن أفريقيا، شمال أفريقيا وجنوبِ أفريقيا، ومن أوروبا وأمريكا يسكنون الخيام حول هذا العالم.
بعضهم جاء بأسرته وبعضهم جاء بمفرده، وبعضهم غيرَ متزوج. يبدأ الإنسان طلب العلم منذ أن يبدأ يدرك في الخامسة تقريبا، بأن يحفظ القرءان ولا يفوت سن السابعة عادة إلا قد حفظ القرءان كله; السابعة إلي الثامنة بإتقان. ثم يبدأ يحفظ بعضَ المتونِ في التجويد وفي قراءة نافع وأيضاً مباديء الفقه وفي مباديء العربية، وحينما نقول بعضَ المتون القصيرة يعني مئة وخمسين بيت، مئتي بيت- هذا لا شيءَ عندهم; فهذه يحفظها طلاب الكتاتيب الصغار.
والصغار هناك يكتبون بالألواح علي الطريقة القديمة التي يتعلم بها الناس، والمحبرة وشيء يُسَمُّونه القلم وهو عود مبري يكتبون فيه، ويتعلمون الرسم العثماني منذ الصغر ويحفظون نظما فيه. فهو يحفظ القرءان وبالرسم العثماني ويتقن قراءة نافع ويتقن التجويد ويتقن قراءة ورش- نعم، ثم بعد ذلك يحفظ متونا مختصرة في الفقه وفي مباديء العربية.
بعد ذلك ينتقل قليلا فيحفظ المعلقات ويحفظ أشياءَ في الأدب كالمقامات مثلا، ويحفظ أيضاً البيقونية في علوم الحديث ويحفظ بعض المنظومات في أصول الفقه ثمَّ ينتقل ويرتفع أكثر فيحفظ من الأشعار ما شاء الله، ويحفظ ألفية السيوطي في العلوم الثلاثـة في البديع والبيان وغيره، ويحفظ الكوكـب الساطع في أصول الفقه حوالي ألف وأربع مئة بيت أو يحفظ مراقي السعود قريبا من ألف بيت، ويحفظ ألفية العراقي في مصطلح الحديث ويحفظ مثلث الكلام قريبا
من ثلاثـة آلاف بيت. ويحفظ نَظْما في أصول الفقه أحيانا سبعة عشر ألف بيت في فقه الإمام مالـك. رأيناهم وهم شباب صغار، الشيخ- عالمهم هذا- ينظم الفقه في سبعة عشر ألف بيت ونراهم- هو لم يُطْبَع- يُمْلِي عليهم فيكتبونهُ ويحفَظونهُ ثم يأتون ويشرح لهم هذه الأبيات. بعضهم حفظ منه الآلاف وهي في طور النظم وبعضهم حفظ منها المئات، فيترددون عليه في كل يوم، انقطعوا من كل شيء إلا من العلم ويحفظون أشياء فوق ذلـك. يحفظ بعضهمالصحيحين، بعضهم يحفظ بلوغ المرام، أمّـا حفظ الأربعين النووية وألفية ابن مالك في النحو فهذه يكاد يحفظها الجميع.
إن حفظ القرءان وألفية ابن مالك هذا لا شيءَ بالنسبة لحفظِهِم، نعم هو قليل (كأن الشيخ يرد علي أحدهم) لكن منهم من يحفظ قراءات أخري، كثير من هؤلاء الذين يتقدمون يقرؤون بالقراءات العشر ومن طرقٍ كثيرة ولربما يصلي الواحد منهم في كل يوم في قراءة ومن طريقٍ آخر. قوم قد انقطعوا لهذا الأمر فحصَّلوا منه كثيرا كثيرا. وتجد العالم وحوله شباب صغار، أحيانا إذا رأيت الواحد منهم لربما تقول لا يحفظ "الفاتحة" من هيأته، هذا يحرك رجل الشيخ ويعمل له كما يقال تدليك والثاني يحك رأس الشيخ ويؤانسه والشيخ يشرح ومَن حوله إذا رأيتهم تقول هؤلاءِ لا يحفظون شيئا.
أما أعمارهم بين خمسة عشر، أربعة عشر ، ثلاثة عشر، عشرين وما شابهَ ذلك. والشيخ كلما يتكلم تأتي قضية تقول وقد نظمنا فيها بعضَ الأبيات امم،
فيأتي هذا ويكرّ الأبيات التي نظَّمها الشيخ ثم يذكر قضية ثانية يقول قد نظمنا فيها بعض الأبيات، فيكرّ أحدهم هذه الأبيات- وهكذا حول الشيخ شيء عجيب لايكاد يصدقه الإنسان.
وتراهم لا يحفظون الذي في الكتب فقط بل يحفظون ما قاله الشيخ في المناسبات، وأحيانا رثاء مثل رثاء الشيخ ابن باز رحمه الله أو رثاء للشيخ ابن عثيمين رحمه الله أو نحو ذلك; يسمعونَ ويحفظون. إن الواحد منهم يأخذ هذه الأبيات من ألفية ابن مالك مثلا يكررها سائر اليوم ولربما تأتيهِ النوبة في اليوم الثاني أو تأتيه في اليوم الثالث فهو جالس ليومين يكرر هذه الأبيات ويكرر شرحها.
تجدهُ يحفظ ألفية ابن مالك وألف بيت علي ألفية ابن مالك، وهي الإحمرار، ويحفظ شرحها لناظم الإحمرار وهو ابن بونة - يحفظ الشرح أيضا !
فأقول بهذه الطريقة، الإنقطاع للعلم، أورثهم هذا التحصيل الكبير. وهذه العلوم التي يتخرَّج منها الواحد منهم، يعني أن يحفظ مثلا ألفية العراقي بعد حفظ البيقونية، وأن يحفظ الإحمرار بعد حفظ الألفية وبعد حفظ الأجرومية أو نظم الأجرومية أو حفظ مُلْحَة الإعراب، وحفظ القراءات العشر بعدَ حفظ قراءة نافع مثلا وما شابه ذلك; أقول حينما يحفظ الإنسان هذه الأشياء ويتمها ولامية الأفعال يكون عمره قريب من سبعة عشر سنة - ويكون قد أتقنَ هذه الأشياء جميعا. بعد أن يبلغ هذا السن يبدأ يتفنن، يزداد، يحفظ مثلث الكلام (ثلاثة آلاف بيت)، يحفظ نظما طويلا في فروع مذهب الإمام مالك رحمه الله، يحفظ أشياء أخري يتخيَّرها كما يريد- هذا بعد السابعة عشر.
إذا وصَلَ عمره سبعة عشر سنة يستطيع أن يُدَرّس جميع هذه العلوم، وطريقتهم أنَّ الشيخ يأتي ويُدرِّس لهذا الطالب فهو يُدرِّس المتون التي دَرَسَها لصغارِ الطلبة ويراجعها لهم، وإذا أشكل عليهم شيء يراجعونه فيها. والشيخ يستقبل الجميع ويَقْرأ عليه كل من جاءت نوبتُهُ ويسمع منه، ولربما جاءت طفلة عمرها أربعة سنوات فقال أبوها أريد أن تقرأ عليك سورة من القرءان فتقرأ سورة قصيرة والشيخ يَسْمَع، فهو لا يرد أحدا. بل رأيتُ بعضَ الأعاجم لا يعرفون العربية والشيخ يعلمهم مباديء العربية وهو عالم كبير نحرير يصح أن تقول له عالم. فأقول هذا شيء عجيب وآية من آيات الله في خلقه- وليس
واحد أو اثنان أو ثلاثة . . كُثُر . أما الذين عندهم قدرة علي تدريس ألفية ابن مالك ولامية الأفعال ومراقي السعود، فهذا عامّة الطلبة الذين هم في المرحلة الأخيرة، في المرحلة الثالثة، عامتهم يدرسون هذه الأشياءَ جميعا; فهذه أشياء ليس فيها نُدْرة في الطاقات التي ممكن تُدَرِّسها أو قِلّة أو إعواز، وإنما هذه قضية منتشرة تمشي بينهم وعامة الطلبة ممكن أن يدرسون هذا، لكن كثير من الطّلاب يريدون العلو في التلقي والأخذ عن المشايخ الكبار. فأقول هذه طريقة وتجربة مطبقة أخرجت علماء ولا زالت. وأعظم سبب في ذلك أظن أنه الإنقطاعُ للعلم، فالعلم إذا أعطيته كُلّك، أعطاكَ بعضَهُ وإذا أعطيته بعضك لم يُعطِكَ شيئا. إن هؤلاء الناس تتعجب تسألهم لماذا تسكنون في الصحراء ولما تصرون علي البقاء في صحراءٍ، وهي صحراء قاحلة، فالجواب أنهم
يريدون الإنصراف عن شواغل المدن، وهي المدينة أو العاصمة بكاملها وتعد أشبه بهجرة كما يقال عندنا في البادية، فأي شواغل عندهم ! ومع ذلك يعتبرون هذا من الصوارف والشواغل وأنه أمر يُشوّش الذهن هذا جانب. الجانب الثاني: هو الحرص علي أكل الحلال. رأينا قوما يصلون الليل ويصومونَ
النهار وبعض علمائِهم لا يشرب إلا حليب الإبل التي ورثها من أجداده، هذا العالِم يقول" كل من أدركت وكل من حفظت وكل من نعرف في نسبنا هم علماء، يُدَرّسُونَ بهذه الطريقة فيتورّعونَ غاية الورع في المكاسب والمأكل والمشرب". فأينَ الذين لا يعرفون الورع، وأين الذين لا يحضرون إلا في منتصف العمل أو الدوام، وأين الذينَ يخرجون قبل نهاية وقت العمل وإذا نوقشوا فلهم كذا حجة وتبرير. أين الورع عند طلبة العلم وهم أولي الناس به.
وإذن الأمر الأول: قلنا الإنقطاع للعلم. والثاني: أكل الحلال والحرص عليه والورع. والثالث: وهو من الأول البعد عن الصوارف والشواغل والأمور التي تشغل، بمعني لو أنك أتيتَ بصبي عمره ست سنوات أو خمس ووضعته في هاذه التي يسمونها مَحْضَرة عند هذا العالِم في هذه البادية أو في هذه التي يُسَمُّونها المدرسة، وهي ليست مدرسة وإنما خيام . . وخيمة هذا العالم يأتون ويقرؤون عليه، فلو وضعتَ صبيا متفتح الذهن يستطيع أن يحفظ ويفهم، متوسط الذكاء، بحيث يسير سيرا صحيحا بإذن الله عز وجل فإنه لا يصل السنة السابعة عشر من عمره إلا وقد حفظَ مهمات العلم. يستكمل.
8:36 pm 6/9/2024