الموتُ.. والجهلُ.. والنِّسيانُ.. والعجزُ.. والسِّنَةُ.. والنَّومُ.. واللُّغوبُ.. والإِعياءُ.. والظُّلْمُ.
قالَ اللهُ تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ)
وقالَ عنْ موسى: (فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى)
وقالَ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ)
وقالَ: (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ)
وقالَ: (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)
وقالَ: (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ)(. وقالَ: (وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) .
وكلُّ صفةٍ نَفاهَا اللهُ تعالى عنْ نفسِهِ فإنَّها مُتضَمِّنَةٌ لشَيْئَيْنِ:
أحدُهُمَا: انتفاءُ تلكَ الصِّفةِ.
الثّاني: ثبوتُ كمالِ ضِدِّهَا.
ألاَ ترى إلى قولِهِ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً)
فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا نَفَى عنْ نفسِهِ العَجْزَ بَيَّنَ أنَّ ذلكَ لكمالِ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ.
وعلى هذَا فنَفْيُ الظُّلْمِ عنْ نَفْسِهِ، متَضَمِّنٌ لكمالِ عدْلِهِ.
ونفيُ اللُّغوبِ والعيِّ، متَضَمِّنٌ لكمالِ قوَّتِهِ.
ونفيُ السِّنَةِ والنَّوْمِ، متَضَمِّنٌ لكمالِ حياتِهِ وقيُّوميَّتِهِ.
ونفيُ الموتِ، متَضَمِّنٌ لكمالِ حياتِهِ.
وعلى هذَا تَجري سائرُ الصِّفاتِ المنْفِيَّةِ.
ولاَ يُمكِنُ أنْ يكونَ النَّفْيُ في صِفاتِ اللهِ – عزَّ وجلَّ – نفياً محْضاً، بلْ لا بدَّ أنْ يكونَ لإِثباتِ كمالٍ
وذلكَ للوجوهِ التَّاليةِ:
الأوَّلُ: أنَّ اللهَ تعالى قالَ: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) أي الوصفُ الأكملُ وهذَا معدومٌ في النَّفْيِ المحْضِ.
الثَّاني: أنَّ النَّفْيَ المحضَ عدَمٌ محْضٌ، والعدَمُ المحْضُ ليْسَ بشيءٍ، ومَا ليسَ بشيْءٍ فكيفَ يكونُ مدْحاً وكمالاً.
الثَّالِثُ: أنَّ النَّفْيَ – إنْ لمْ يَتضَمَّنْ كَمالاً – فقدْ يكونُ لعدمِ قابليَّةِ الموصوفِ لذلكَ المنفيِّ أوْ ضدِّهِ، لا لكمالِ الموصوفِ كمَا إذَا قيلَ: "الجدارُ لا يَظْلِمُ" فنفْيُ الظُّلمِ عنِ الجدارِ ليسَ لكمالِ الجدارِ، ولكنْ لعدمِ قابليَّةِ اتِّصافِهِ بالظُّلْمِ أو العدلِ، وحينئذٍ لاَ يكونُ نفيُ الظُّلْمِ عنْهُ مدْحاً لهُ ولاَ كمالاً فيهِ.
الرَّابعُ: أنَّ النَّفْيَ – إنْ لمْ يَتضمَّنْ كمالاً – فقدْ يكونُ لنقْصِ الموصوفِ لعَجْزِهِ عنْهُ كمَا لوْ قيلَ عنْ شخصٍ عاجزٍ عنِ الانتصارِ لنفسِهِ ممَّنْ ظَلَمَهُ: "إنَّهُ لا يَجْزِي السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئةِ" فإنَّ نفيَ مجازاتِهِ السَّيِّئَةَ بمثلِها ليسَ لكمالِ عفوِهِ ولكنْ لعجزِهِ عنِ الانتصارِ لنفسِهِ وحينئذٍ يكونُ نفيُ ذلكَ عنْهُ نقْصاً وذمًّا لاَ كمالاً ومدْحاً.
ألمْ تَرَ قولَ الحماسيِّ يَهْجُو قوْمَهُ:
بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَا
لوْ كنتُ منْ مَازنٍ لمْ تَسْتَبِحْ إبِلي
إلى أنْ قالَ:
لَيْسُوا منَ الشَّرِّ في شيْءٍ وإنْ هانَا
ومنْ إساءَةِ أهْلِ السُّوءِ إحْسَاناً
لكنَّ قومِي وإنْ كانُوا ذَوِي عَدَدٍ
يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أهْلِ الظُّلْمِ مغفرةً
يريدُ بذلكَ ذمَّهُمْ ووصفَهُمْ بالعجْزِ لاَ مدْحَهُمْ بكمالِ العفوِ بدليلِ قولِهِ بعدُ:
شَنُّوا الإِغارةَ ركْبَاناً وفرْسَاناً
فليْتَ لي بِهِمُو قوماً إذَا رَكِبُوا
وبهذَا عُلِمَ أنَّ الَّذينَ لاَ يَصفُونَ اللهَ تعالى إلاّ بالنَّفْيِ المحضِ لم يُثْبِتُوا في الحقيقةِ إلهاً محمُوداً بلْ ولاَ موجوداً كقولِهمْ في اللهِ عزَّ وجلَّ "إنَّهُ ليْسَ بداخلِ العالمِ، ولا خارجِهِ، ولا مبايِنٍ، ولاَ مُحَايِثٍ، ولا فوْقَ، ولاَ تحتَ، ولا متَّصِلٍ، ولا منفصلٍ". ونحوِ ذلكَ.
ولهذَا قالَ محمودُ بنُ سبكتكين (لِمَنِ ادَّعى ذلكَ في الخالقِ جلَّ وعلاَ:
"ميِّزْ لنَا بيْنَ هذا الرَّبِّ الّذِي تُثْبِتُهُ وَبَيْنَ المَعْدُومِ". وَلَقَدْ صَدَقَ – رحِمهُ اللهُ – فإنَّهُ لنْ يُوصَفَ المعدومُ بوصْفٍ أبلَغَ منْ هذَا الوصْفِ الذِي وَصَفُوا بهِ الخالقَ جلَّ وعلاَ.
فمنْ قالَ: لاَ هوَ مبايْنٌ للعالَمِ، ولاَ مداخلٌ للعالمِ فَهُوَ بمنزلةِ منْ قالَ: لاَ هُوَ قائمٌ بنفسِهِ، ولا بغيْرِهِ، ولا قديمٌ، ولا مُحْدَثٌ، ولا مُتَقَدِّمٌ على العالمِ، ولا مقارنٌ لَهُ.
ومَنْ قالَ: ليْسَ بحيٍّ، ولاَ سميعٍ، ولا بصيرٍ، ولا متكلِّمٍ، لَزِمَهُ أنْ يكونَ ميِّتاً، أصمَّ، أعْمَى، أبْكَمَ