لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى،
فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه
ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني،
ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا،
إلا أنني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف،
ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى،
والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها،
عمت الخلائق، وخصت المسلمين،
فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم، إلى الآن، لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقا،
فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس،
وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعن من البلاد،
التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس،
وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا،
إلا يأجوج ومأجوج.
وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه،
وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون،
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


....
هذا ما لم يطرق الأسماع مثله،
فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشر سنين،
ولم يقتل أحدا،
إنما رضي من الناس بالطاعة،
وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه، وأكثره عمارة وأهلا، وأعدل أهل الأرض أخلاقا وسيرة، في نحو سنة،
ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم، ويترقب وصولهم إليه.
ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم،
فإنهم معهم الأغنام، والبقر، والخيل، وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومها لا غير،
وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها،
وتأكل عروق النبات لا تعرف الشعير، فهم إذا نزلوا منزلا لا يحتاجون إلى شيء من خارج.


....
ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم،
منها هؤلاء التتر، قبحهم الله، أقبلوا من المشرق، ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها،


ومنها خروج الفرنج، لعنهم الله، من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم، وقد ذكرناه سنة أربع عشرة وستمائة.


ومنها أن الذي سلم من هاتين الطائفتين فالسيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة على ساق

فإنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصرا من عنده، فإن الناصر، والمعين، والذاب، عن الإسلام معدوم، {وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} [الرعد: 11]