خطبة:فضائل عرفة وأحكام الأضحية

يحيى سليمان العقيلي

الحمد لله بكرمه بلِّغنا العشر، وبرحمته يَغفرُ لنا الوزرَ، وبفضله يُضاعفُ لنا الأجر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله هدانا للبر والخيرات، وأرشَدنا للفضائل وللمكرمات، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله الطاهرين وصحبه الطيبين، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واشكروه وتوبوا اليه واستغفروه، وارغبوا إليه في هذه العشر واعبدوه، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 4، 5].

معاشر المؤمنين، هذه أَيَّامٌ مُبَارَكَةٌ فَاضِلَة أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، عَظَّمَ اللهُ شَأْنَهَا، وخصَّ فضلها، وَرَفَعَ مَكَانَتَهَا، وَهِيَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ، قال نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ»، يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».

وروى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أعظمَ عند الله ولا أحبَّ إليه من العمل فيهنَّ من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد»؛ [مسند أحمد: 7/ 224].

وهذا الذكر يمتد طول أيام العشر وأيام التشريق مطلقًا، أما المقيَّد بعد الصلوات، فلغير الحاج يبدأ بعد صلاة فجر يوم عرفة إلى ما بعد صلاة العصر لليوم الثالث عشر.

ومن أفضلُ أيامِ العشر عباد الله يَوْمُ عَرَفَةَ، وهو يوم غدٍ السبت، ذَلِكَ الْيَوْمُ الْعَظِيمُ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ فِيهِ لنا الدِّينَ، وأتَمَّ علينا النعمة، وَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

أكمَل الدين بذلك الحج الذي تَمَّ على التوحيد، وأتَم النعمة بمغفرة الذنوب؛ كما قال الله تعالى لنبيه: ﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ [الفتح: 2].

يوْمُ عَرَفَةَ يَوْمٌ عَظِيمٌ، وهُوَ رُكْنُ الْحَجِّ الْأَعْظَمِ، مَنْ لَمْ يَقِفْ فيه مِنَ الْحُجَّاجِ فَلَا حَجَّ لَهُ، يومٌ تُغْفَرُ فِيهِ الزَّلَّاتُ، وَتُكَفَّرُ فِيهِ السَّيِّئَاتُ، وتُجاب فيه الدعوات، وَيَعْتِقُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ النَّارِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ».

قال ابن عبد البر: "وهو يدل على أنهم مغفورٌ لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب إلا بعد التوبة والغفران".

‏جاء عبدالله بن المبارك إلى سفيان الثوري ‏عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه، فقال له: من أسوأ هذا الجمعِ حالًا؟ ‏فقال وعيناه تذرفان: الذي يظن أن الله لا يَغفر له!

معاشر المؤمنين، يُشْرَعُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحُجَّاجِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ، فقد رُوِي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»؛ (الترمذي [برقم (3585)]، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (3/ 184)، وفي الأحاديث الصحيحة (4/ 6).

وَمِنَ السُّنَّةِ صيامُ يَوْمِ عَرَفَةَ لغَيْرُ الْحَاجِّ؛ لِأَنَّ صِيَامَهُ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ، أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حَيْثُ قَالَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فبادِروا عباد الله لهذا الفضل العظيم والثواب الجزيل، وأَوصوا مَن ولَّاكم الله أمرَهم بصيامه واغتنام ساعاته بالذكر والدعاء، فهو يوم النفحات والرحمات ويوم العطايا الربانية والمكرمات.

تقبَّل الله منا ومنكم الطاعات، وغفَر لنا ولكم السيئات، وأجاب لنا جميعًا وللمسلمين الدعوات، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
 الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَيمِ نِعَمِهِ وعِظمِ امْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، توقيرًا لأمره وتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وصفيه وَخَلِيلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
فمعاشر المؤمنين، ختام هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ الْمُبَارَكَةِ يَوْمُ النَّحْرِ، رَفَعَ اللهُ قَدْرَهُ، وَأَعْلَى ذِكْرَهُ، وَسَمَّاهُ: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَجَعَلَهُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ ، عيدَ الأضحى، يَتَقَرَّبُونَ فِيهِ إِلَى رَبِّهِمْ بِذَبْحِ ضَحَايَاهُمْ؛ اتِّبَاعًا لسنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، ومِلَّة أبينا إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين، والأُضحية شعيرةٌ من شعائر الله سبحانه؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].

وللأضاحي شُرُوطٌ وَأَحْكَامٌ، فَمِنْ شُرُوطِهَا: أَنْ تَبْلُغَ السِّنَّ الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا، فَفِي الْإِبِلِ: مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سَنَوَاتٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ: مَا تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ، وَمِنَ الْمَعْزِ: مَا تَمَّ لَهُ سَنَةٌ كَامِلَةٌ، وَمِنَ الضَّأْنِ: مَا تَمَّ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.

وَمِنْ شُرُوطِ الْأُضْحِيَةِ: أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ فِي الْأَضَاحِيِّ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرَةُ الَّتِي لَا تُنْقِي».

وَيَبْدَأُ وَقْتُ ذَبْحِ الْأُضْحِيَةِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِيدِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ، وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ ».

وَيَمْتَدُّ وَقْتُ ذَبْحِ الْأُضْحِيَةِ إِلَى ما قبل غروب الشَّمْسِ مِنْ ثَالِثِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.

فأتِمُّوا عباد الله عشرَكم هذه بصيام يوم عرفة، وبمواصلة الذكر والإحسان، وبتقديم الأضحية والقربان يوم عيدكم طيبةً بها نفوسُكم، ما كان منها هنا أو ما تحرَّيتُم به حاجةَ المسلمين في بلادهم ممن هم أحوج للإطعام والبر والإحسان، ختَمها الله لنا ولكم أيام العشر بالمغفرة والرِّضوان والعتق من النيران والفوز بالجنان، إنه هو الكريم المنَّان.