بيت المقدس نموذج (1) تسامح الإسلام مع النصارى
سطر التاريخ مواقف خالدة من تسامُح الإسلام مع نصارى القدس في زمن الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ففيما يسمى بـ (العهدة العمرية) التركيز على حقوق النصارى، وواجباتهم في بنودها، وتسامُح الإسلام فيها، والحفاظ على كنائسهم وأديرتهم، بل وحمايتهم من أي اعتداء في ظل دولة الإسلام.
وقد وضع الدين الإسلامي مجموعة من القوانين؛ لضبط العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب، فلم يقبل من مسلم أن يتجاوز تلك القوانين التي خطها القرآن الكريم، وحددت السنة النبوية معالمها الدقيقة، فأدلة القرآن الكريم على التعايش عديدة، {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (سورة الممتحنة 8)؛ فالتعايش ينطلق من الثقة والاحترام المتبادلين، ومن الرغبة في التعاون لخير الإنسانية، وفيما يمس حياة الإنسان، وفق مبادئ كرامة الإنسان، والعدل ورفع الظلم، والحرية الدينية.
العهدة العمرية
فالعهدة العمرية كفلت لنصارى القدس حقوقهم الشخصية، من حفظ النفس والمال، وحقوقهم الدينية، من عدم إكراههم على الدخول في الإسلام، والحفاظ على أماكن عبادتهم، وحقوقهم الاقتصادية، ومن حقهم في التملك والكسب، وهذا دليل قاطع على سماحة الإسلام مع النصارى في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.زيارة كنيسة القيامة في القدسكما أنّ المسلمين سمحوا للنصارى بزيارة كنيسة القيامة في القدس، وكنيسة المهد في بيت لحم، وكان ذلك بعد عقد صلح الرملة سنة 588هـ/ 1192م بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد (ملك إنجلترا)، ونصّت هذه المعاهدة على أن يكون للفرنج والحجّاج النصارى حرّية الحجّ إلى بيت المقدس دون دفع أيّ ضريبة.
وأعلن صلاح الدين «أنّ الصلح قد تمّ فمن شاء من بلادهم أن يدخل في بلادنا فليفعل، ومن شاء من بلادنا أن يدخل في بلادهم فليفعل» وذكر المؤرّخ أبو شامة أنّ الحجّاج النصارى أقبلوا على بيت المقدس، فدبّ النشاط التجاري في البلاد.تعيين رجال الدين الكاسوليككما سمح صلاح الدين بتعيين اثنين من رجال الدين الكاثوليك في كلّ من: كنيسة القيامة وكنيسة بيت لحم وكنيسة الناصرة، إلى جانب ما كان في تلك الكنائس من رجال الدين الأرثوذكس والسريان واليعاقبة. (ابن منقذ، الاعتبار، ص 119).
أعظم دليل على التسامحولعل أعظم دليل على التسامح، هو وجود (70) كنسية في البلدة القديمة مقابل (13) مسجداً، ثم إن الأحياء الإسلامية والمسيحية ليست مقصورة على أتباعها، بل إن هناك اختلاطا بين السكان المسلمين والمسيحيين، ولكن سُمي كل حي بما غلب عليه من السكان.
تفاهم تاموفي أواخر العصر العباسي زار القدس العالم المعروف (برنارد الحكيم)، ووصفها وصفاً دقيقاً، فقال: «إن المسلمين والمسيحيين فيها على تفاهم تام، وإنَّ الأمن العام مستتب للغاية حتى إنّ المسافر ليلا يفرض عليه أن تكون بيده وثيقة تثبت هويته، وإلاّ زج في السجن حتى يحقق في أمره، وإذا سافرت من بلد إلى بلد ونهق جملي أو حماري وتركت أمتعتي مكانها وذهبت لاكتراء دابة من البلدة المجاورة عدت فوجدت كل شيء على حاله لم تمسه يد».
وظلّ هذا التسامح الديني ساريًا في عصر دولة المماليك الأولى (البحرية)، فالسلطان قلاوون سمح بأن تكون كنيسة الناصرة وأربعة بيوت من أقرب البيوت للكنيسة مخصّصة للزائرين النصارى وغيرهم من الزائرين ومن جميع الجنسيات الأوروبية، وأن يتمتّع القساوسة والرهبان بحرّية العبادة في هذه الكنيسة، وأن يكونوا آمنين على أرواحهم سواء في توجّههم إليها أم عند مغادرتهم لها، وألا يتعرّض القساوسة والرهبان لأي مكروه، وارتضى المسلمون والنصارى أن تكون مفاتيح كنيسة القيامة، مؤتمنة منذ أجيال عديدة بيد عائلتين مسلمتين هما: نسيبة وجودة، وذلك بناء على طلب جميع الطوائف المسيحية.معاملة النصارى والفرنج معاملة حسنةوتطوّر هذا التسامح الديني فيما بعد في عصر دولة المماليك الأولى والثانية، فأصدروا المراسيم التي تنصّ على ضرورة معاملة النصارى والفرنج والزائرين معاملة حسنة، وألغوا الرسوم التي كانت تفرض عليهم في أثناء زيارتهم للمقدّسات المسيحية، وأمروا بعدم التعرّض للرهبان برًّا وبحرًا بأيّ سوء.
بل سمح السلطان برقوق لهم سنة 813هـ /1410م ببناء كنيسة في بيت لحم، وأصبح للنصارى في بلاد الشام بطركان اثنان، الأوّل في أنطاكية والثاني في القدس، وكانت بطريركية بيت المقدس تحكم نصارى فلسطين وشرق الأردن. (ابن منقذ، الاعتبار، ص181).العلاقات الإنسانيةوكانت العلاقات الإنسانية على مستوى الملوك والسلاطين، فعندما مرض ريتشارد قلب الأسد (ملك إنجلترا)، أرسل إلى صلاح الدين الأيّوبي يطلب منه إرسال أحد الأطبّاء لمعالجته، فأرسل صلاح الدين أحد أطبّائه فظلّ إلى جانبه يعالجه حتّى شفي، وأوصى الطبيب أن يتناول الملك ريتشارد بعض الفاكهة ويكثر منها، فأمر صلاح الدين بأن يزوّد الملك بالفاكهة المطلوبة من غوطة دمشق وأنحاء أخرى من الشام.
التأثر بالحضارة العربية الإسلاميةلقد طالت إقامة الآخر الفرنجي في بلاد الشام وبلغت 200 سنة، فاختلط هؤلاء بالسكان الأصليين ونشأ جيل على الأرض الفلسطينية والساحل الشامي متأثّر بالحضارة العربية الإسلامية، فتحدّثوا اللغة العربية، وارتدوا الألبسة العربية، وتذوّقوا بالذوق العربي مأكلاً ومشربًا وعادات وتقاليد.
وأصبح هؤلاء بعد أجيال جزءًا مهما من سكّان فلسطين والساحل الشامي، فخفّت لديهم روح التعصب والبغضاء التي كانت لدى الأجداد الأوائل عندما قدموا إلى بلاد الشام في أواخر القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي. لقد تعايش هؤلاء مع السكّان الأصليين لبلاد الشام، وتزاوج الطرفان النصرانيان «السوريون والفرنج»، وقسم كبير منهم أصبح نتاج هذا الاختلاط، ومع الزمن لم يعرفوا غير فلسطين والساحل الشامي وطنًا لهم، فاحتضنهم المجتمع الشامي واستوعبهم وهضمهم فأصبحوا جزءًا منه.
وباعتراف الباحثين كانت الحضارة العربية الإسلامية أعظم حضارة شهدها العالم أجمع خلال فترة العصور الوسطى، والسِّرَّ في ازدهارها إنما يرجع إلى روح التسامح التي عرف بها الإسلام والمسلمون.
عيسى القدومي