قضية الحس والذهن في النقد
شذا جعفر الشردوب
فالصورة عنده لا قيمةَ لها إذا كانت مجردَ تشبيهِ شيءٍ بشيءٍ، دون ربطِ هذه الصورة بالشعور الذي يعني ربطَ الصورة بالإدراك الذهني الذي يَجمَع بينها وبين الشعور الذي عكَسته في نفس الشاعر، والصورة إذا كانت على هذه الحال، فهي عنده الأبلغُ والأصدقُ والأعلى فنًّا.
وجدير هنا الوقوف عند قوله: "ولا يصِح بحال"، فهذه العبارة تَدُلُّ دلالةً واضحة على موقفه الحاسم الرافض للاكتفاء بالتصوير الحسي الصِّرف المجرَّد من العاطفة والإيحاء الذهني.
إذًا؛ هلال يقف مع فئة النقاد القليلة التي فضَّلت الصورة الذهنية أو المشتركة على الحسية، وجعَلت ذلك أعلى مرتبةً في الفن والإبداع.
أما جويو الناقد الغربي، فيقول: "إن الرسم والتصوير في الشعر والأدب، غير الرسم والتصوير في الفنون البصرية؛ فالصورة في الشعر نتيجةٌ لتعاون كل الحواس وكل الملكات، وليس الأمر على هذا في الفنون الأخرى"[13].
فهو يُفرِّق بين التصوير الأدبي والتصوير في الفنون البصرية الذي يَعتمد على الحاسة فقط، بينما يَعتمِد التصوير الأدبي على الحواس والملكات.
والملكات تَعتمد على العقل والقدرة على الفَهم والإدراك والاستنباط، بالإضافة إلى ما يَكتسبه المرءُ بالخبرة والتجربة.
إذًا هو ذو نظرة معتدلة في هذه القضية، ويرى أن الصورة يتعاون الحس والذهن في تَجليتها، ويقول في موضعٍ آخرَ: "لعل الجمالَ الشعري لا يكون إلا فيما نَرتاب فيه دون أن نراه، إن (الشاعر) يفضِّل أن يُحزِّر على أن يرى، وأن يتخيَّل على أن يَكتشف... ليست الطبيعة جميلة دون حجاب".
ويقول: "إن الظل حِليةُ الأشياء، إن أشعة القمر تجعل كلَّ الأشياء كأنها تَسبَح في سحاب شفاف ناعمٍ، وهذا السحاب هو الشِّعرُ عَيْنُه"[14].
نلاحظ في هذه العبارات مَيلَ جويو إلى الغموض المرتبط والمنعكس عن تغليب الذهن الذي يحتاج إلى إعمال العقل، لكنه غموضٌ يسير سهلُ الشرح والكشف كالسحاب الشفاف، وسببُ ميله إلى هذا هو المتعة والجمال اللذان لا يَجدهما في الكلام الواضح تمامًا، وهذا يذكِّرنا بقول الشافعي رحمه الله:
وتَمايُلي طَرَبًا لحَلِّ عَويصةٍ *** في الدرسِ أَشْهى مِن مُدامةِ ساقِ
ويقول جويو مؤيدًا هذا الميل: "ليس في وُسع كل نظريات الفلك أن تَمنَع منظر السماء اللانهائية من أن يُثير فينا نوعًا من القلق الغامض والتلهُّف الظامئ إلى المعرفة، وهذا هو الجمال الشعري الذي للسماء.
إن العلماء يُحاولون أن يُرضونا بالإجابة عن تساؤلاتنا، أما الشاعر فهو يأسِرنا بإثارة هذه التساؤلات"[15].
وهو في هذا الكلام يُعزز ميولَه إلى الغموض اللطيف الذي يرى أنه يُضفي جمالًا على الشعر، ولا يَنقُض النظرة المعتدلة لديه؛ إذ يقول مؤكدًا أهمية الحِسِّ: "إن كل أثرٍ رائع مِن آثار الفن، ليس إلا التعبير بلغةٍ حِسيَّة عن معنًى رفيعٍ"[16].
فهو هنا يؤكِّد أهميةَ الحس في تخليد المعاني الرفيعة والتعبير عنها، وربما يَسَعُنا القول: إنه يلتقي في نظرته هذه مع ابن الأثير الذي يرى أن أبلغَ أقسام التشبيه هو نقلُ معنًى إلى صورة، وأن ألْطفَها نقلُ صورة إلى غير صورةٍ[17].
خاتمة:
لو أردتُ تفسير الاختلاف في موقف النقاد من هذه القضية على اختلاف أزمنتهم وبُلدانهم، فإني أقول: إن ذلك مرجعُه إلى الجهة التي نظَر منها الناقدُ إلى الإنتاج الأدبي، وبناءً على هذه النظرة اتَّخذ موقفَه منها، فالناقد الذي وضَع نفسَه موضعَ المتلقِّي مالَ إلى الوضوح والفَهم السهل اللذين يَرتبطان بالحس، ورجَحتْ لديه وظيفةُ إيضاح المعنى على غيرها من وظائف الصورة الأدبية الأخرى، أما الناقد الذي وضع نفسَه موضع الشاعر والأديب المبدع، فقد مال إلى الغموض والذهن؛ لأن ذلك أكثر دلالةً على بَراعته وتفرُّده، فرجَحت لديه وظيفةُ التخييل على وظائف الصورة الأخرى.
وهذا يَردُّنا إلى تعريف البلاغة الذي استقرَّ في تراثنا الأدبي، والذي يربط الكلام بالموقف الذي قيلَ فيه: "البلاغة ملاءمةُ الكلام لمقتضى الحال"، والحِكمة الشهيرة "لكل مقامٍ مقالٌ".
فالموقف هو الذي يحدِّد العنصر الأهم في العملية التواصُلية، وبناءً على ذلك تَبرُزُ الوظيفة الأنسبُ للموقف من وظائف الصورة الأدبية، وتُحدد ما ينبغي التركيزُ عليه مِن حِسٍّ أو ذِهنٍ، أو كليهما معًا، وهذا في رأينا سببُ مَجيء الصورة مفتوحةً على كثير من الاحتمالات والخيالات التي تتنافس في الوصول لأعلى درجة مِن القبح والبشاعة لوصف شجرة الزقوم التي ذُكِرت في القرآن: ﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴾ [الصافات: 62 - 65].
المصادر والمراجع:
1- أسرار البلاغة؛ عبدالقاهر الجرجاني، تحقيق محمود شاكر، دار المدني، جدة، ط1، بلا تاريخ.
2- أصول النقد العربي القديم؛ عصام قصبجي، منشورات جامعة حلب، حلب، 1991م.
3- سر الفصاحة؛ ابن سنان؛ تحقيق علي فودة، مكتبة الخانجي، ط1، القاهرة، 1932م.
4- العمدة؛ ابن رشيق؛ تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، المكتبة التجارية، ط3، القاهرة، 1963م.
5- عيار الشعر؛ ابن طباطبا؛ تحقيق طه الحاجري، المكتبة التجارية، القاهرة، 1956م.
6- المثل السائر؛ ابن الأثير ضياء الدين، المطبعة البهية، القاهرة، 1312هـ.
7- مسائل فلسفة الفن؛ جان ماري جويو؛ ترجمة سامي الدروبي، دار اليقظة العربية، ط2، دمشق 1965م.
8- النقد الأدبي الحديث؛ محمد غنيمي هلال، دار الثقافة، بيروت، 1973م.
9- نقد الشعر؛ قدامة بن جعفر؛ تحقيق كمال مصطفى، مكتبة الخانجي، ط1، القاهرة، بلا تاريخ.
-------------------------
[1] أصول النقد العربي القديم، ص 141.
[2] نفسه، ص142.
[3] نقد الشعر، ص118.
[4] عيار الشعر، ص11.
[5] سر الفصاحة، ص235.
[6] العمدة، ج1، ص287.
[7] المثل السائر، ص25.
[8] المثل السائر، ص152.
[9] أسرار البلاغة، ص65-66.
[10] أسرار البلاغة، ص66.
[11] النقد الأدبي الحديث، ص451.
[12] نفسه، ص444.
[13] مسائل فلسفة الفن، ص90.
[14] نفسه، ص123-124.
[15] نفسه، ص125.
[16] نفسه، ص90.
[17] المثل السائر، ص152.