الأسباب الحقيقية وراء الفرقة بين أهل السنة المعاصرين
بقلم / الشيخ مختار الطيباوي
الحمد لله وحده، و الصلاة و السلام على من لا نبيّ بعده، وبعد....
احتار كثير من العقلاء في أحوال أهل السنة المعاصرين، كيف وصل بهم الحال إلى التفرق و التشتت و التناحر، الذي بلغ درجة تدخل الشك في النفوس، فقد فاقوا الطوائف المخالفة تفرقا و تناحرا.
وليس هذا من خصائص، ولا من مميزات أهل السنة عبر العصور،بل قد انحط بعضهم حتى لم يبق فيه من السنة إلا الاسم بلا معنى، فلا هو من الدعاة إلى التوحيد و إقامة الدين، ولم يشارك بأي مجهود في ذلك.
ولا هو من المدافعين عن التوحيد،ولا هو من الدعاة إلى الله بالوعظ و الإرشاد، ولا هو ترك الدعاة إلى الله يعملون لله.
بل إننا عندما نتفحص منهج هؤلاء نجده منهجا قد جمع شواذا من الكلمات، وهفوات علمية، وفلتات لسانية، يزعم أنها منهج أهل السنة و الجماعة!
وقد لا يشعر المتسببون في هذه الحالة المزرية بهذا الأمر لأنهم يعتقدون اعتقادا جازما أنهم على الحق فيما يفعلون، وغيرهم هو الضال المنحرف !
لكن كيف يكونون على الحق و غيرهم على ضلال، وهو يشاركهم في المصادر و المرجعيات و الأصول و القواعد و العلماء، ولم يقدروا على أن يقيموا عليه حجة صحيحة ،فلزم أن جزمهم باعتقادهم جزم هوى و ليس جزم علم؟!
وحتى نفهم هذه الحالة بصورة علمية تأصيلية مستمدة من الكتاب و السنة نفهم بها سبب هذا الذي يحدث ،و ما هو علاجه أقول:
ينشأ الاختلاف بين العلماء لأسباب كثيرة ، لعل من أهمها أن مسائل الدين منها الجليّ الذي يجب اتباعه، و منها الخفي الذي يجوز الاجتهاد فيه،وعندما يقع الخلاف فيه فلا يعتبره أهل العلم المعتبرين تفرقا، بله أن يعتبروه بدعا و ضلالات.
وهنا يقع إشكالان بالنسبة لبعض الناس :
الإشكال الأول:
عدم تمييز واضح لمسائل الاتفاق عن مسائل الاختلاف ،فيجعلون موارد الاجتهاد من قسم المتفق عليه أو مما يجب التسليم لهم فيها، فتراهم يدخلون مسائل من مصطلح الحديث كـ : "تعارض الجرح و التعديل"، و "الجرح المفسر مع الجرح المجمل"، ومسائل من أصول الفقه كـ : "حمل المجمل على المفصل" ـ وهي لا تختلف عن مسألة حمل المطلق على المقيد أو تقييد العموم بالخصوص ـ في قسم المتفق عليه، ثم يرجحون فيها رأيا هو في غالب الأحيان رأي شاذ أو ضعيف ليس له من المرجحات العلمية إلا أنه يوافق نفوسهم ومنهجهم، ثم يبدعون و يضللون من يخالفه، وهذه بدعة ضخمة.
ومن أمثلة اختلاط المسائل عليهم وعدم تمييزهم بينها: خلطهم الفاحش بين رد خبر الثقة ورد رأي الثقة ـ إذا سلمنا أنه ثقة يستجمع صفة العدالة و الضبط ـ فجعلوا رد رأي الثقة ـ المختلف فيه ـ في الجرح و التعديل من رد خبر الثقة!
و معلوم أن المقصود من خبر الثقة: الحديث النبوي لا رأي تقديري لعالم من العلماء، لأن جميع آراء العلماء العدول في جميع فنون العلم هي رأي ثقة، الإشكال هنا ليس في ثقتهم ولكن في الصواب و الخطأ لأنها آراء و اجتهادات وترجيحات، و ليست أخبارا مسندة استجمعت شروط التحمل و الأداء.
فمن يخلط هذا الخلط يجعل الكلام على الكفار كالكلام على المبتدعين، و يجعل البدع الغليظة كالبدع الخفيفة، وهذا منهج الخوارج لا منهج أهل السنة و الجماعة.
الإشكال الثاني:
أن كثيرا منهم ليسوا أهلا للخوض في هذه المسائل، فإذا نص بعض العلماء أن الأصوليين ليسوا من أهل الإجماع فكيف يؤخذ برأي من يجهل أصول الفقه في أصول الفقه؟!
فهل يسمح لهم مجرد النقل عن العلماء الخوض في هذه المسائل، و تحرير النزاع فيها، ثم ترجيح الرأي الأقوى؟!
هذا يشبه ترجيح قول الأخباري ـ في معاني النصوص ـ على قول الفقهاء.
إن الاجتهاد في هذا القسم الثاني لا يكون إلا من العلماء العدول،أي من جمع صفة العلم و العدالة ، فلا يصح اجتهاد إلا بعلم وقصد حسن،و لما اجتهد في الدين من لم يكمل عدة العلم ،أو فاته منه ما يحتاجه للإحاطة بمقاصد الشريعة.
وكذلك اجتهد فيه من لم يملك قصدا حسنا، بل كان قصده تقرير موروث ضعيف أو مذهب مرجوح، أو تأصيل باطل لنفسه أو لجهة من الجهات، اشتد تفرق الأمة حتى تفرق من ينتسبون للسنة، وظهر بينهم ما كان في غيرهم.
فمن كان عالما في الحديث حقيقة أو تجوزا، عاميا في علم الكلام و أصول الفقه كيف يجتهد في هذه المسائل الخارجة عن إدراكه، ويؤخذ برأيه فيها؟!
ولأن ميزة هذه الأمة التي فارقت بها غيرها من الأمم :الإسناد ، و لذلك كان الأصل عند أهل السنة إسناد المنقولات بخلاف المخالفين لهم، فإن منقولاتهم لا إسناد لها صحيح،فهم إما يتكلفون تحصيل ماهيات المطالب، و ترتيب الحدود لها اعتمادا على منطق الإغريق ومباحث اللغة المحدثة دفعا في نحر المنقولات الصحيحة.
وهؤلاء الذين نحن بصدد الحديث عنهم منقولاتهم ليست نصوصا بل مجرد أقوال لبعض العلماء، إما قيدوها في سياق حديثهم بشروط وعلل يستعملها هؤلاء في غير مواردها لمجرد الاشتراك اللفظي و اتساع العبارات لها، كمن يؤخذ قول ابن عمر رضي الله عنهما في غلاة القدرية المكذبين بالقدر، الذين حدثوا في زمانه: (( فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني )) رواه مسلم.
و ينزلها على جماعة التبليغ، دون اعتبار أن ابن عمر كان يتكلم عن طائفة من القدرية كافرة، تنكر علم الله السابق، قد نص الأئمة كمالك والشافعي وأحمد على تكفير منكر علم الله السابق، فيأتي هؤلاء و ينزلون كلامه على أصحاب البدع العملية سواء المتفق على أنها بدع أو المختلف فيها،وهذا اضطراب شديد.
وعندما ينقل البربهاري قول سفيان الثوري : (( البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ، المعصية يتاب منها ، والبدعة لا يتاب منها )) يشرح هذا القول، و يبيّن الجهة التي قصدها سفيان الثوري، لأن البدعة ليست أحب لإبليس من المعصية من كل الجهات، بل من جهة الشعور بالحاجة إلى التوبة من عدمه.
وهناك جهات أخرى في القضية تكون فيها المعصية أحب إلى إبليس من البدعة، فإن ما يؤاخذ عليه الله تعالى يوم القيامة أحب إلى إبليس مما يعفو عنه،و غرض إبليس إهلاك بني آدم بإدخالهم النار، و قد علمنا أن بعض المبتدعة يكون معذورا لأنه مجتهد قصد موافقة الحق، في حين أن بعض العصاة يجاهرون بمعصيتهم لله تعالى، فكيف نسوي بين من يقصد طاعة الله و أخطأ، و بين من اتبع شهوته وواجه الله تعالى بذنوبه؟!
فالبربهاري ـ رحمه الله ـ قال عقب كلمة سفيان الثوري :
(( واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات ، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه ))
فيأتي من يستشهد بهذه الكلمة فينزلها على بدع عملية، و أحيانا كثيرة على مسائل ليست من البدع إلا في فهمه، أو هي مسائل فقهية اختلف فيها أئمة السنة، فجعلها بعضهم بدعة مثل: استعمال السبحة فإن القول بأنها بدعة قول ضعيف جدا، لأن من أجازها من العلماء أكثر بكثير ممن منعها، و أجل منهم علما وقدرا.
ومن أجازها معه نصان، ومن منعها ليس معه إلا عدم فعل النبي صلى الله عليه و سلم مع أن إقراره التسبيح بالحصى و النوى ثابت عنه.
وكذلك مسألة القبض بعد الرفع من الركوع ، و الأخذ من اللحية كما يقوله الشيخ مقبل أو الإعفاء عنها كما يقوله الألباني ـ رحمهما الله ـ.
و العجيب أن بعضهم يرى قول الحسن البصري و عطاء ومالك و الطبري و القاضي عياض وغيرهم خطئا و مذهبا مرجوحا، لكنه لا يجرؤ على تبديعهم و تضليلهم و جرحهم به، ولكن من يقلدهم من العوام أو يعتبر بتعليلهم من العلماء يبدع و يضلل ويجرح، فأين العلم، و أين العلماء، و أين المنهج؟!
و عليه، وجب علينا عندما ننظر في الكلام العلماء التمييز بين استدلالهم وبين أحكامهم و آرائهم المجردة، فعندما يقول أحد المشهورين في مسألة إسبال الثوب : (( و لكن الشيطان يفتح لبعض الناس المتشابه من نصوص الكتاب و السنة ليبرر لهم ما كانوا يعملون)) فهذه كلمة منفلتة يجب إهدارها، لأننا لو تركناها على عمومها عادت عليه بالذم، فإن من قيّد الإسبال بالخيلاء علماء أجمعت الأمة على إمامتهم و تقواهم كـ :أحمد بن حنبل، و البخاري، وابن عبد البر، و الباجي، و النووي، و ابن تيمية، و الذهبي، و العراقي، وابن حجر، والشوكاني، و غيرهم كثير.
فلا شك أن الشيخ كان يقصد الشباب المتوسع في التأويل، أو الذي لم يقدر على صياغة حجته بشكل علمي مرتب، لكن الواجب علينا التمييز بين استدلال الشيخ و بين كلامه الآخر.
و لأن هؤلاء الذين نحن بصدد الحديث عنهم لا يميزون بين هذه المسائل، وجل خطئهم مبناه الاشتباه نقول:
شرط الاجتهاد: العلم و العدالة، أو العلم و القصد الحسن، فإنا نقصد بالعلم هنا العلم المبني على علم الرواية و الإسناد ،الذي هو شرط و سلم إلى علم الدراية و تفقه المعاني،فلا يجوز الاجتهاد لمن أخل بعلم السنة، كما لا يجوز لمن أخل بعلم المعاني و التفقه فيها على حد سواء.
ولست أتحدث عن شروط الاجتهاد المطلق فهذا كالإحالة و التناقض، و تعطيل العلم وسد باب التعليم، ولكني أتحدث عن شروط فهم النصوص، ومعرفة صحيحها، ومعرفة لغة العلماء و مقاصدهم، مما يحتاج إليه ليحكم بأن قوله هو مرادهم.
فما كان من اجتهاد في الخفي أو المختلف فيه بعلم وقصد حسن لا يسمى تفرقا،إذا اجتنبنا الغلو، و التعصب، و إكراه الغير عليه، قال الله تعالى:{ وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ }.
فإذا سبب التفرق الحاصل هو البغي، و ليس الاختلاف في موارد الاجتهاد،فإن الإسلام تكفل بهذا الاختلاف وقرر ضوابطه.
و البغي إما تضييع لحق كترك واجب، و إما تعد لحد كفعل محرم.
و أسباب الاجتماع و الألفة هو جمع الدين، و العمل به كله، و عبادة الله باطنا و ظاهرا.
ومتى تركنا حظا مما أمرنا به أي ضيعنا حقا بترك واجب، أو تعدينا حدا بفعل محرم ظهرت فينا الفرقة، قال تعالى:{ وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ }.
فما أسباب هذه العداوة و البغضاء بين أهل السنة ؟
هل هي اتباع القرآن، و إعمال النصوص النبوية أم تضييع الحقوق و الواجبات و تجاوز الحدود الشرعية؟
فلنذكرما هي الحقوق الشرعية على المسلمين لنتبيّن منها الواجبات الضائعة و الحدود المنتهكة.