النص الشعري التراثي
بين التنميط والتأوي القصيدة الرصافية
لعلي بن الجهم نموذجا
د. كامل الصاوي[(*)]
مدخل:
لقد أرادت الرؤية المنمطة التي طغت على التلقي العربي التراثي للنص الشعري العربي أن يكون حبيس لحظة مضت، وأن يكون قولا قيل من قبل، ولا أن يكون أبدا ابن لحظته وموقفه الإدراكي الذاتي أو السياقي. لكن السؤال الذي هو مبتغى هذا البحث هو: هل استسلم كل الشعراء للطوق؟ بل هل من طبيعة النص الإبداعي الحقيقي أن يستسلم في وعيه بالعالم وفي إدراكه للظواهر والعلاقات فيعيد تكرار الأنماط المكرسة نفسها والقوالب الجاهزة ذاتها؟ وكيف ينبغي أن تكون نظرتنا إزاء نص شعري عربي يراه البحث قد ظلم كثيرا حين حبس في طرائق التلقي التنميطي؟
منذ البدء يقر البحث بأن النص الشعري العربي يظل-رغم ما حوصر به-أكبر من كل ما قيل حوله، وأن قراءة شافية تعيد الاعتبار لنصوصنا-ربما-ما تزال طي الفقد.
فالنظرة التي فرضت على الشعر أدت إلى أن ينظر إليه نظرة فيها قدر غير يسير من العمومية، والشمولية، بل النظرة من خارج الشعر. ولعل مقولة أبي عمرو بن العلاء التي يقولها عن الأخطل، الشاعر الأموي المشهور: (لو أدرك الأخطل يوما واحدا من الجاهلية ما قدمت عليه أحدا)(1)؛ أي أنه مهما بلغ شعره يظل ناقصا معيبا عيبا من المستحيل تداركه، لأنه لم يعش-ولن يعيش هو ولا غيره-يوما واحدا في الجاهلية، أقول: لعل هذه المقولة توضح أن الشعر لم يكن هو المراد، بل الزمن الماضي؛ أي الأنماط الأصلية الأولى التي تشكلت من قبل. وكأنه قدر على ثقافتنا أن تكون أحلامها ماضيها!
من الطبيعي جدا أن يقول البحث إن نصوصنا الشعرية العربية حرمت من أن ينظر إليها على أنها "قيمة مضافة"-إن جاز للبحث استعارة المصطلح من حقل علم الاقتصاد.
إذن على من يتصدى للنص الشعري أن يراه قيمة تضيف إلى التراكم الشعري العربي ولو يسيرا من الإضافة. ونستعين هنا بنظرة "ويسمات" الذي يصف القصيدة بأنها "كلي متعين، وبنية مستقلة لمعنى ممتزج، تفرض الاحترام بسبب أسلوبها في الوجود"(2).
وإذ يرتضي البحث تلك النظرة، من ويسمات، فإنه يستعين أيضا برؤية "ديماك" التي فحواها "أن المقولات-بصدد شيء ما-أو أسلوب التعبير عنه-عرضة لتنقيح غير محدود، والتفاعل بينهما-أي الشيء وأسلوب التعبير عنه-يمكن أن يخضع لعدد لا يحصى "من التركيبات، والتحويلات، والزيادات"(3).
فإذا ما كانت الموضوعات، التي فرض على الشاعر القول في سياقها ثابتة، فإن هذه الموضوعات قوالب يصب فيها الشعر"-على حد تعبير محمد مندور(4).
ولشرح الفكرة يقول البحث: إن الغزل-مثلا-موضوع ثابت في ذاته. لكن كثرة التعبير عنه، وفيه، من قبل الشعراء المختلفين والمتعاقبين أيضا يجعل هذا الموضوع الثابت عرضة لتنقيحات، وإنتاج عدد لا يحصى من التركيبات والتحويلات في الأداء اللغوي حيال هذا الموضوع؛ والتي هي نتاج تفاعل الموضوع مع طريقة تناوله، وتفاعل الشاعر مع موضوعه ومعاناته أيضا. ومن ثم يتحول الموضوع من موضوع ثابت وعام إلى موضوع متحرك وخاص أيضا.
وربما يدعم رؤية البحث تلك ما يقول به فلاسفة اللغة من أن وجود الشيء هو وجود إدراكه من قبل مدركه"(5)، ومن ثم فإن طريقة إدراك الموضوع لا تتجلى إلا عبر طريقة التعبير عن الموضوع، ولعل فيما قاله "جورجياس"، قديما قيمة مهمة-هنا-حين قال: "المقولات-الكلام، أو الخطاب-نتيجة الانطباعات التي تتركها فينا الأشياء الخارجية"(6).
ومن ثم فإنه يمكن القول: كل موضوع شعري هو موضوع عام وموروث، لكنه يتحول لدى الشاعر إلى موضوع خاص، نتيجة الانطباع أو الحال الخاصة التي يعيش بها الشاعر موضوعه.
وإذا ما كان البحث يرتضي أن الشعر كيفية أداء لغوي خاصة، فإن الموضوع إذن هو أيضا ابن شرعي لطريقة التعبير الخاصة عنه. وذات تأمل لروسو ذهب إلى أن "الأفكار تصطبغ بصبغة-العبارة اللغوية"(7). ولعله من نافلة القول: أن الشعر هو أكثر الفنون اللغوية تأثرا بما يسمى "دلالة العوالم الممكنة"(8). ومن ثم فإن اللفظ الواحد يستخدم في نص بحساسية دلالية قد لا تكون بالقدر نفسه لدى استخدامه في نص آخر.
ولذا فإن البحث هنا يرى أنه إذا كانت نظرة تشومسكي حيال "الإبداعية في اللغة"، والتي مؤداها أن "اللغة البشرية تولد عددا غير محدود من الجمل انطلاقا من عدد محدد من العناصر اللغوية"(9) فإنه يمكن لبحثنا هذا أن يطوع الفكرة، فيقول: ثمة أوصاف، وصور حيال موضوع ما-سبق تحديدها وإنتاجها، وأرادت لها العقلية شيئا من رسوخ وثبات، ولكن الشاعر-شاء أو أبى-تولد مخيلته عددا يمكن ألا يكون محدودا من هذه الأوصاف أو الثوابت. وللأسف حاسبت الثقافة العربية الشاعر على حركية مخيلته، وأبت إلا الثبات قبلة ومحرابا.
حين حاول "جيرارد" أن يجيب عن سؤال: كيف تنشأ العبقرية؟ (10) جاء جوابه أنها (تنشأ من الخيال)، ثم استطرد قائلا: (ولكن الأهم كيف يعمل الخيال؟. إنه يعمل من خلال التداعي – من خلال ما يتذكر).
وكما دأب البحث-ويرى أن ذلك واجب وفرض-في تطويع المقولات، لما يخدم النص العربي، فإن البحث يرى ضرورة قراءة النص العربي ليس فقط من خلال كونه مستثمرا لإمكانات لغته وثقافته، بل أيضا بمد قانون الاستثمار إلى استثمار التداعيات، التي تثيرها استخدامات الشاعر وأداؤه اللغويان. وهنا يمكن خلق جدل تحليلي بين المعنى المعطى سلفا في ذاكرة الثقافة، ومعان أخر ربما-لم يكن في وسع المنظر الذي أجهد نفسه في وضع سنن المعاني العربية أن يحيط، أو يتنبأ بكنهها.
وكما يذهب "لرتوما" إلى القول: "أن ثمة طموحا عند الشاعر في استثمار كافة إمكانات اللسان، كأنه يستثمر إمكانات آلة يعزف عليها، ليستخرج منها أشد النبرات"(11)، فإنه-وكما يرى أيضا – "ثمة تعلق من كل كاتب ببعض الألفاظ"(12). لذا على البحث الذهاب بالفكرة خطوة مفادها أنه إذا كان تعلق الشاعر بألفاظ معينة إنما هو تعلق بعوالمها وتداعياتها في الذهن، فإنه معلوم أن العربية في باب العلاقات المتشعبة بين الألفاظ تعد لغة ثرية في ذلك. وهنا لا تجب قراءة الألفاظ في النص العربي وحدها؛ بل ينبغي قراءتها بعد الألفاظ مالكة لشبكات من العلاقات مع غيرها من الألفاظ من ناحية، ومن ناحية أخرى أن لكل لفظ مذكرات تفسيرية في ذاكرة المستخدم تتداعى إلى الذهن-شاء المستخدم، أم أبى، فالعربية تملك خاصتين مهمتين: الأولى: ثبات الجذر اللغوي مع تعدد دلالات الألفاظ المشتقة من هذا الجذر "التداعي الصوتي". والثانية: وهي مرتبطة بالأولى من حيث تداعي العوالم الحسية مع المعنوية (فالشرف مثلا بعده معنى معنويا إنما هو ذو علاقة بالشرف الذي هو قمة الجبل). وهنا نذهب، ومع لرتوما أيضا، إلى أن للألفاظ-كما يقول-"نكهات مثل النباتات العطرية ما تضعها في شيء حتى تصبح رائحتها هي الغالبة على ما حولها"(13).
هنا يمكن للبحث القول: أن ثراء عريضا امتلكته العربية، وامتلكه الشاعر العربي بدوره، لكن هذا المتسع العريض ضيقته النظرة الضيقة. هنا يصبح حتميا رد الاعتبار للنص، وإعادة إنتاج ما فيه، وما غفل الراؤون عن أن يروه فيه.
هنا فقط نفهم أمرين: أحدهما سؤال يطرحه البحث هو: هل استسلم كل الشعراء للنظرة المنمطة؟ الإجابة بالطبع لا؛ فكثيرون أولئك الذين أجادوا الوثب من فوق الحصار الذي أحكم حول الشعر ونصوصه.
وأما الثاني فهو الإقرار بأن القصيدة العربية هي بنت ماضيها، ولكنها أيضا بنت لحظتها وبنت شاعرها الذي أبدع، وليست بنت الشاعر الذي حفظ.
وعلى ضوء كل ما سبق فإن ما يتغيا هذا البحث الوصول إليه هو الاستدلال بنموذج نصي محدد، هو (القصيدة الرصافية) للشاعر العباسي علي بن الجهم(14)؛ وذلك للكشف في هذا النموذج عن الإضافة الإبداعية الخاصة لمكون دلالي هو في حد ذاته موضوعة عامة شائعة، ولكنها ترتدي في هذا النموذج النصي خصوصيتها. الإبداعية الفارقة، وأعني بذلك موضوعة (الحركة).
ولعله مما لا شك فيه أنه لا يكاد نص شعري يخلو من الحديث عن (الحركة). ومن ثم فإن تدليل البحث على أن ثمة خصوصية إبداعية في حديث النص الذي بين أيدينا عن الحركة يمثل استدلالا قويا على تلك الفرضية التي يريد هذا البحث إثباتها، وهي أن تكرار الموضوعة إنما هو تكرار لبنية سطحية سرعان ما تتوارى عند الحفر المعمق وصولا إلى البنية العميقة للنص: بنية التجربة.
وإذا بدا أن هذا القول نوع من إعادة الصياغة لعبارة الجاحظ الشهيرة "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والقروي، والبدوي. وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك. وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير" فإن ما يسعى إليه بحثنا هو أمر أكثر عمقا وأبعد غورا من مقولات تخير اللفظ و"جودة السبك" و"الصياغة" و"التصوير"...إلخ. إن ما يستهدفه هذا البحث هو الاستدلال على أن حركة النص الشعري إنما هي حركة في اللغة؛ أي حركة في الإدراك الذي هو حركة في التجربة؛ أو بمصطلح آخر: الإدراك الذي هو حركة في تجريب Experiencing العالم على حد ما تذهب إليه فلسفة الفيلسوف والمحلل النفسي الأمريكي المعاصر أوجين جيندلين(15) Eugene T. Gendlin.
النص:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
تشك بأطراف المثقفة السمر وقلن لنا نحن الأهلة إنم
تضيء لمن يسري بليل ولا تقري فلا بذل إلا ما تزود ناظر
ولا وصل إلا بالخيال الذي يسري أزحن رسيس القلب عن مستقره
وألهبن ما بين الجوانح والصدر فلو قبل أن يبدو المشيب بدأنني
بيأس مبين أو جنحن إلى الغدر ولكنه أودى الشباب وإنم
تصاد المها بين الشبيبة والوفر أما ومشيب راعهن لربم
غمزن بنانا بين سحر إلى نحر وبتنا على رغم الوشاة كأنن
خليطان من ماء الغمامة والخمر فإن حلن أو أنكرن عهدا عهدنه
فغير بديع للغواني ولا نكر خليلي ما أحلى الهوى وأمره
وأعلمني بالحلو منه وبالمر كفى بالهوى شغلا وبالشيب زاجر
لو أن الهوى مما ينهنه بالزجر بما بيننا من حرمة هل رأيتم
أرق من الشكوى وأقسى من الهجر وأفضح من عين المحب لسره
ولا سيما إن أطلقت عبرة تجري وما أنس م الأشياء لا أنس قوله
لجارتها ما أوله الحب بالحر فقالت لها الأخرى فما لصديقن
معنى وهل في قتله لك من عذر صليه لعل الوصل يحميه واعلمي
بأن أسير الحب في أعظم الأسر فقالت أذود الناس عنه وقلم
يطيب الهوى إلا لمنهتك الستر وأيقنتا أن قد سمعت فقالت
من الطارق المصغي إلينا وما ندري فقلت فتى إن شئتما كتم الهوى
وإلا فخلاع الأعنة والعذر على أنه يشكو ظلوما وبخله
عليه بتسليم البشاشة والبشر فقالت هجينا قلت قد كان بعض م
ذكرت لعل الشر يدفع بالشر فقالت كأني بالقوافي سوائر
يردن بنا مصرا ويصدرن عن مصر فقلت أسأت الظن بي لست شاعر
وإن كان أحيانا يجيش به صدري فما كل من قاد الجياد يسوسه
ولا كل من أجرى يقال له مجري صلي واسألي من شئت يخبرك أنني
على كل حال نعم مستودع السر وما أنا ممن سار بالشعر ذكره
ولكن أشعاري يسيرها ذكري وللشعر أتباع كثير ولم أكن
له تابعا في حال عسر ولا يسر وما الشعر مما أستظل بظله
ولا زادني قدرا ولا حط من قدري ولكن إحسان الخليفة جعفر
دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر فسار مسير الشمس في كل بلدة
وهب هبوب الريح في البر والبحر ولو جل عن شكر الصنيعة منعم
لجل أمير المؤمنين عن الشكر إذا نحن شبهناه بالبدر طالع
وبالشمس قالوا حق للشمس والبدر ومن قال إن البحر والقطر أشبه
نداه فقد أثنى على البحر والقطر ولو قرنت بالبحر شبعة أبحر
لما بلغت جدوى أنامله العشر ولا يجمع الأموال إلا لبذله
كما لا يساق الهدي إلا إلى النحر وفرق شمل المال جود يمينه
على أنه أبقى له أحسن الذكر إذا ما أجال الرأي أدرك فكره
غرائب لم تخطر ببال ولا فكر أغير كتاب الله تبغون شاهد
لكم يا بني العباس بالمجد والفخر كفاكم بأن الله فوض أمره
إليكم وأوحى أن أطيعوا أولي الأمر ولن يقبل الإيمان إلا بحبكم
وهل يقبل الله الصلاة بلا طهر ومن كان مجهول المكان فإنم
منازلكم بين الحجون إلى الحجر
قبل القراءة :
قبل الدخول إلى ساحة النص يقدم البحث بأشياء، يراها ضرورية، تمهيدا للتحليل. وهي أشياء تتعلق، أول ما تتعلق، بعلي بن الجهم، ومن ثم بنصه هذا.
أول هذه الأشياء أن عليا كان منحازا انحيازا كبيرا للثقافة العربية في صيغتها التقليدية، منصرفا عن مذهب أهل الاعتزال، معاديا لهم.
ذكرنا معاداته للمعتزلة لأمرين مهمين: أولهما أنه تربى في بيت أبيه مع شقيقه الأكبر محمد، الذي كان معتزليا نقل عنه الجاحظ، وكان يقال عنه (مصحفه كتب أرسطوطاليس). وعلى حبه الشديد لأخيه إلا أنه أخذ موقفا حادا من الاعتزال. وإن كان من المدهش علاقته التي ظلت حميمة مع أخيه، وكان علي-على ما يذكر صاحب "مختصر طبقات الحنابلة" يختلف إلى الإمام أحمد بن حنبل(16).
أما ثاني الأمرين فهو العذاب والعنت الذي لقيه في زمن الخليفة الواثق، الذي كان له موقف حاد من أهل الحديث، في زمن خلافته(17).
أما الشيء الثاني فهو مدهش حقا. فعلي منحاز للثقافة العربية في صيغتها التقليدية الصارمة. ولأنه كذلك فطبعي أن يأتي شعره على مذهب المطبوعين وعلى طريقة القدماء. لكن يبدو أن عليا يتصالح عنده الشيء وضده، فهو وإن كان "شعرا" على مذهب البحتري، فإنه لاحقا سيعادي البحتري-إنسانيا-ويراه أقل من أن يكون كفؤا لصداقته التي سعى البحتري كثيرا لنيلها(18). ولعل البحث يرى من الضروري الإشارة إلى روح التكبر وروح التعالي، اللتين غلفتا شخصية ابن الجهم، وهو أمر يثير جدلا آخر حول ما عرف عنه من شدة تدينه(19).
على النقيض تماما من موقفه من البحتري يأتي موقفه من "أبي تمام"، فابن الجهم يحكي كيف التقى أبا تمام، منذ جاء هذا الأخير إلى قبة جامع بغداد مستمعا، وعارضا بعض شعره على مجلس من الشعراء يتقدمهم "علي بن الجهم" وعندما طلب الغلام-المجهول لهم آنذاك-أن: يسمعوا شعره، كما سمع هو منهم، قبلوا ذلك، فأنشدهم:
فحواك عين على نجواك يا مذل
فسألوه لمن الشعر؟ فقال: لمحدثكم، ثم عرفهم بنفسه، ومنذ ذلك الاجتماع/ المصادفة يعلي "علي" من شأن أبي تمام، ويعلي أبو تمام من قدر علي بن الجهم، بل يمدحه في أكثر من قصيدة(20).
الأمر الأكثر إدهاشا هو أن أبا تمام-وكما هو معروف-مات شابا، ونظرا للعلاقة بين الشاعرين سيرثي ابن الجهم أبا تمام وهنا تأتي الدهشة؛ إذ تأتي مرثية ابن الجهم لأبي تمام، وهي بالطبع من شاعر على مذهب أهل الطبع-أقول تأتي على مذهب أبي تمام في الشعر إذ يقول(21):
فالأبيات السابقة لو قرئت مجهولة الشاعر لكان قائلها أبا تمام، أو واحدا ممن هم على مذهب الرجل-شعرا-ولكن الحقيقة هي أنه لكان ابن الجهم يترجل عن مذهبه الشعري، ويستقل مذهب الصديق الفقيد إكراما لروح شاعر رآه-وإن اختلفا في المذهب –شاعرا عظيما.
غاضت بدائع فطنة الأوهام
وعدت عليها نكبة الأيام وغدا القريض ضئيل شخص باكي
يشكو رزيته إلى الأقلام وتأوهت غرر القوافي بعده
ورمى الزمان صحيحها بسقام أودى مثقفها ورائض صعبه
وغدير روضتها أبو تمام
يصل البحث إلى خلاصة مفادها: إن صيغة علي بن الجهم "وجوديا" كانت الصيغة المثلى التي يمكن أن تكونها الثقافة العربية في مكوناتها الثرية، وأن التناقض والاختلاف كانا يمكن أن يقدما خيرا كثيرا، لو نشأ التفاعل الخلاق بينهما، لكن العقلية العربية ارتضت الاختلاف والصدام والتنميط شرعة ثقافية لها.
لعله من خلال حديث البحث عن صاحب النص، أجاب عن سبب اختياره هكذا نص، وهو نص إلى جانب، ما أحاط بصاحبه، لهجت به كتب الأدب(22)، إلى الحد الذي يقول فيه البحث إنه نص من النصوص التي كتبت لتكتب، ويعاد إنتاجها، وليس من النصوص العادية التي كتبت لتقرأ-كما هو تقسيم "بارت" في لذة النص، وغيره من كتبه.
يتبع