ما هي شروط العلماء لتفسير القرآن تفسيرا علميا يتناسب مع روح العصر؟
الشيخ عطية صقر (رحمه الله )
9 ـ إن من قواعد المنهج السليم لتفسير القرآن أن تستقصى آياته فى الموضوع الواحد فهى تفسر بعضها بعضا ، وخير ما فسرته بالوارد، فقد يكون العام أو المطلق أو المبهم فى آية مخصصا أو مقيدا أو مبينا فى آية آخرى ، وهكذا ، على أن يراعى السباق والسياق فى فهم المراد من الآية . والخطأ الذى يقع فيه كثير من الباحثين الآن - وكثير منهم غير أهل للتفسير- أساسه عدم مراعاة هذا المنهج ، فهم يبترون الآية بترا ويقطعونها عن سابقتها ولاحقتها ويفسرونها كما يريدون ، وهم لا ينظرون إلى مثل هذه الآية فى موضع آخر من القرآن حتى يستعينوا بها على تفسيرها ، فلهذا يخطئون كثيرا فيما يزعمون . روى البخارى ومسلم أنه لما نزل قول الله تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } [الأنعام : 82 ] قال بعض الصحابة : يا رسول الله وأينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ” ليس بذلك ، ألا تسمع إلى قول لقمان { إن الشرك لظلم عظيم } . فالظلم الذى نزلت به هذه الآية عرف المراد منه بما نزل فى الآية الأخرى، وهو الشرك .
ومن مظاهر الخطأ فى التفسير لعدم اتباع هذا المنهج أن بعض الباحثين - ولا أقول المفسرين - أراد أن يبرهن على أن الأرض تتحرك وتسير وليست ثابته ، فأورد قوله تعالى : { وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب } [النمل : 88 ] فمرور الجبال كالسحاب دليل على أن الأرض تتحرك ، هكذا يقول . وقد نسى أن الآيات التى اكتنفت هذه الآية تتحدث عن النفخ فى الصور وعن محاسبة الناس على حسناتهم وسيئاتهم ، فالجو كله فى يوم القيامة سباقا وسياقا . وليس ذلك فى عالم الدنيا . ونسى أيضًا أن الحديث عن ظاهرة مرور الجبال يوم القيامة ورد فى آيات أخرى من سور القرآن قال تعالى : { يوم تمور السماء مورا {.
وتسير الجبال سيرا . فويل يومئذ للمكذبين } [ الطور: 9 - 11 ] وقال { إذا الشمس كوِّرت . وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيِّرت..} [التكوير: 1 ـ 3 ] والمقام كله فى يوم القيامة .
10 ـ وهذه بعض الكشوف العلمية التى حاول الكاتبون أن يستدلوا عليها بالقرآن :
1 ـ فى غزو الفضاء قالوا : يدل عليه قوله تعالى: { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان } [ الرحمن : 33 ] فالسلطان هو العلم وبواسطته نفذ الإنس من الأقطار. ويرد عليه بأن هذه الآية تتحدث عن يوم القيامة ، وتبين قدرة الله على محاسبة كل من الإنس والجن ومجازاته لا يستطيع أحد أن ينجو منه إلا بسلطان ، أى قدرة عظيمة أو ملك قوى، وليس ذلك لأحد إلا لله. أو تتحدث عن القضاء بالموت على كل حي لا يهرب منه أحد فكل من عليها فان ، لا ينجو منه إلا بالسلطان المذكور وهو لا يملكه .
وقال ابن عباس فى تفسيرها : إن استطعتم أن تعلموا ما فى السموات وما فى الأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان أى ببينة من الله ، ومعنى هذا أن الغيب لا يعلمه إلا الله ، الذى يطلع عليه من يشاء من عباده . فلو فرض أن المراد بالسلطان هو العلم كما يشير إليه قول ابن عباس ، فإن هذه الآية ليست نصًّا فى الزعم الذى يقوله المتحدثون . وعلى ذلك لا تصح دليلا لهم ، على أنه لو كان ذلك صحيحًا فما المانع أن يطلع الله بعض الناس على علوم الكون بسلطان العلم ، ولكن هل نفذ الإنس بعلمهم من أقطار السموات أيضا ، أو نفذوا فقط - إلى الآن - من أقطار الأرض وجاذبيتها ، وبقيت السموات حجرًا محجوراً ؟ إن كل ما أمكن الوصول إليه من معلومات عن طريق الآلات الحديثة لا يعدو أن يكون فى سماء الدنيا، فإن الكشوف الفلكية والكواكب وأبعادها وسرعة ضوئها ودورانها ما زالت فى إحدى السموات وهى الدنيا ، الشمس تبعد عن الأرض 93 مليون ميل كما قال تعالى : { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب } [ الصافات : 6 ] فهل يستطيعون أن ينفذوا من أقطار السماء الدنيا كلها ثم يتطلعون إلى بقية السموا ت ؟ على أن المقام ، كما ذكرت ، هو مقام الحساب والجزاء بدليل السباق والسياق ، فأولى أن يحمل اللفظ على ما يليق به ، ولا داعي للتعسف وطلب دليل من القرآن ، فكم من حقائق علمية ثبتت بغير الاستدلال عليها من الكتاب الكريم ، ولا ضير فى ذلك أبدًا ، على ما علمت من مهمة القرآن في الهداية والإعجاز .
استدل بعض العامة من الناس على كروية الأرض بالآية السابقة قائلا إن التعبير بالأقطار يثبت كروية الأرض وكروية السموات ، لأن القطر هو الخط الموصل بين نقطتين على المحيط ماراًّ بمركز الدائرة ، والأقطار لا تكون إلا للدوائر وهذا بالتالي يثبت الكروية . ويرد عليه بأن القطر الذى يتحدث عنه هذا الشخص اصطلاح هندسي لم تعرفه العرب فهم يعرفون القطر بأنه الجهة والناحية لا الخط المذكور، والنفاذ من الأقطار يكون بالخروج من الجهات والمنافذ لا من الخطوط التى يتصورها المهندسون .
إن كروية الأرض حقيقة ثابتة ، وحياة الناس وتطورها مبنى عليها ، والدليل على ذلك ليس من القرآن ، ولا داعي لالتماسه منه أبدًا ، على ما علمت من مهمته فى الإعجاز وهداية الناس .
ج - دور الرياح فى تلقيح النبات بحمل مادة الذكورة إلى مكانها الذى تلتقى فيه بمادة الأنوثة فيكون الإخصاب ، على ما هو مقرر فى علم النبات . استدل عليه البعض بقوله تعالى : {وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه }[ الحجر: 22 ] فاللواقح جمع لاقح بمعنى حاملة للقاح ، أو ملقحة لغيرها بما تحمله ، إن دور الرياح فى نقل اللقاح معروف ، ولكن فى أخذه من هذه الآية تعسف وتكلف ؛ ذلك أنه لو كان المراد تلقيح النبات لجاء عقبها ما يتحدث عن النبات فيقال مثلا: فزكا الزرع وخرج الثمر ولكن الذى حدث أن الذى جاء بعدها قوله تعالى: { فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه } وهذا يشير إلى أن المعنى أن الرياح المحمَّلة ببخار الماء ؛ يرسلها الله فتتجمع السحب ويتكاثف البخار ويبرد فى الطبقات الجوية الملائمة فينزل الماء ، وهذا هو التنسيق المعقول بين إرسال الرياح اللواقح وإنزال الماء من السماء لسقى الناس . فأولى أن تحمل الآية عليه ، ولا يتعسف بحملها على ما يثبت دورها فى تلقيح النبات ، فذلك مشاهد بالملاحظة والنظر لا حاجة إلى الدليل النقلي عليه .
د - قالوا : إن حدود الكون تتسع وتمتد ؛ واستدلوا على ذلك بقوله تعالى :{ والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون } [ الذاريات : 47 ] ؛ لكن العلماء قالوا : إن لفظ { موسعون } مأخوذ من أوسع الرجل إذا صار ذا سعة وغنى ؛ ومنه قوله تعالى { ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } [البقرة : 236] فالآية تدل على قدرة الله ، وقدرته تتجلى فى أشياء كثيرة، ولا مانع أن يكون منها توسيع حدود الكون ، فهو الذى خلقه بقدرته وعلمه . فلا ينبغى قصر معنى السعة على هذا الذى يريده علماء الفلك والطبيعة .
هـ - قالوا : إن كل شىء فى السماء يعتريه ازدياد مفاجئ فى حرارته وحجمه وإشعاعه بدرجة لا تتصورها العقول ، وعند ذلك يتمدد السطح بما حوى من لهب ودخان ، حتى يحصل على توازنه الدائم ، والشمس لم تمر بهذا الدور بعد، فإذا مرت به وتمدد سطحها الخارجى حتى وصل القمر يختل توازن المجموعة الشمسية كلها، وذلك يوم القيامة ، ويدل عليه قوله تعالى { فارتقب يوم تأتى السماء بدخان مبين } [الدخان : 10 ] قال المفسرون : إن هذا الدخان من علامات الساعة كما فى صحيح مسلم ، وقيل إن الدخان هو ما أصاب قريشًا من الجوع بسبب دعاء النبى صلى الله عليه و سلم عليهم ؛ كما رواه البخارى فى حديث يصور هذا الجوع جاء فيه : فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله {فارتقب...} وجاء فيه : أن النبى استقى لهم فسقوا ولكن استمروا على عنادهم فقال الله تعالى :{يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } يعنى يوم بدر، وقيل إنه غبار الجيش يوم فتح مكة .
و – قالوا أيضًا مما يشير إلى قلة الأوكسجين فى الطبقات الجوية العليا قوله تعالى :{ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجا كأنما يصَّعَّد فى السماء } [الأنعام : 125 ] وظاهرة ضيق الصدر تحصل عند الارتفاعات العليا ، ومثل هذا واضح لا شك فيه ، ويفيد فى تصور المعنى المراد دون أن يمس قدسية القرآن .
كما قالوا : إن الأبعاد والمسافات الشاسعة بين النجوم والتى لا يمكن حساب بعضها يشير إليه قوله تعالى { فلا أقسم بمواقع النجوم } [الواقعة : 75 ] فإن مجموعات النجوم التى تكون أقرب مجرات السماء منا تبعد عنا بنحو 700 ألف سنة ضوئية، والسنة الضوئية تعادل عشرة ملايين الملايين من الكيلو مترات للضوء يقطع فى العام نحو 88, 5 مليون ميل أى نحو 6 مليون ميل ( مجلة العربى يوليو 1970 م - الضوء يقطع فى الثانية 186000 ميل ) 000 ، 300 ك م فهذه الأبعاد الشاسعة جديرة بأن يقسم الله بها لعظمها، وهذا وجه من وجوه العظمة وقد يكون منها دقة مساراتها وعدم تصادمها وتحديد الجاذبية فى كل منها ، فالآية شاملة وعامة .
وقالوا أيضًا : مما يدل على قوة الاستدلال ببصمات الأصابع على شخصية صاحبها قوله تعالى :{بلى قادرين على أن نسوِّى بنانه } [القيامة : 4 ] لأن دقة الخطوط واتجاهاتها وعددها لا يكاد يتفق فيها شخصان ، فتسويتها يوم القيامة على ما كانت عليه بعد أن كانت ترابًا منثوراً موزعا فى أماكن قاصية دليل قدرة الله تعالى، وهذا وجه من وجوه قدرة الله على بعث الناس يوم القيامة بأجسامهم المشخصة لهم بعد فنائها .
مثل هذه الأمثلة الأخيرة لا يضر توضيح آيات القرآن به أبدا ، ولكن الممنوع قصرها على هذه المكتشفات ، أو التعسف فى التأويل الذى يخرج به اللفظ عن أصل وضعه اللغوى واستعماله العرفى عند العرب الذين نزل القرآن بلغتهم.
وبعد، فهذا عرض موجز لموقف القرآن من الكشوف العلمية الحديثة رأينا فيه تشجيعه للبحث والنظرة ورأينا دقته حين يعرض لشىء علمى كشف عنه البحث أخيرا ، وهذا دليل صدقه وأنه من عند الله وحده أيَّد به رسوله محمدًا صلى الله عليه و سلم . والمقررات العلمية الثابتة ستزيد معانى القران وضوحًا ، وهذه صورة من صور التعانق بين العلم والدين ، أى العلم الثابت الأكيد ودين الله الذى أنزله هداية للناس جميعًا {سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أوَ لم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد} فليكن فهمنا له على ضوء لحقائق الثابتة لا النظريات الفجه ، ولنحفظ له قدسيته فلا نقول على الله بغير علم ، ولا نجعله حمى مستباحا لكل كاتب يجيل فيه قلمه بما ترمي به الأفكار الشاردة ، ، فليس كل مجال تباح فيه الحرية للجائلين {ألا إنهم فى مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شىء محيط} [ فصلت : 54 ] .
وردت بعض الأحاديث فى مسائل علمية لم يوافق عليها العلم إلى الآن كحديث الذباب إذا وقع فى الإناء والأمر بغمسه كله لأن فى أحد جناحية داء والآخر دواء ، وأحاديث أخرى واردة فى الطب.
ويرى ابن خلدون أن الطب المنقول فى الشرعيات ليس من الوحى فى شىء فإن النبى صلى الله عليه و سلم لم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات وقد وقع له فى شأن تلقيح النخل ما وقع فقال أنتم أعلم بأمور دنياكم . وعلى هذا يجوز أن يكون رأى النبى صلى الله عليه و سلم فى مثل هذه الأمور محتملا للخطأ لأنه من أمور الدنيا . لكن لا ينبغى الحكم بذلك إلا بعد البحث الصحيح لمعرفة الرأى الحق العلمى اليقيني فى مثل هذه الأمور.