يا من ذقتم في رمضان حلاوة الإيمان ولذة الطاعة وتفكرون في ترك كل ذلك؛ خذوا وصية محب, إياكم أن يغلق الباب دونكم، فلعله بعدها لا يفتح:
لعلك أخي الحبيب ذقت في رمضان حلاوة الإيمان ولذة الطاعة، فتشعر بوحشة فقد الطاعات بعد رمضان، حين يخطر ببالك امتلاء المسجد في التراويح، وحين تعلق قلبك بكلام الله عز وجل عنت التلاوة من المصحف، فهذه أمارة خير, أن الله عز وجل شكر لك طاعتك وفرح وتبشبش بها، وأثابك ما أقله تلك اللذة والحلاوة الإيمانية، ولعلك بعد رمضان تفكر في ترك كل ذلك والعودة إلى حياتك الأولى، فانتبه, لمن تترك مكانك بعد ما فتح لك باب الإقبال على الملك الكريم الوهاب؟ وهل عندك ضمانات أن يفتح لك الباب مرة أخرى إن جئت، أم هان عليك العودة لقوافل المحرومين المطرودين، هؤلاء المحرومون المطرودون ينتظرون دورهم ليفتح لهم الباب، وما ذاقوا ما ذقت، وربما لو فتح لهم لسابقوا وسبقوا وأنت فتح لك الباب فلعلك لو تركت مكانك لا توفق لأن تعود.
{وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم}، {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه}، {نسوا الله فنسيهم}، {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون}، {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}، كم قرأت هذه الآيات وكم قرأتها معك، وظننا أنا أبعد الناس عنها لغفلتنا.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتين. ص180:
" ومن ذاق شيئًا من ذلك وعرف طريقًا موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على إرادته وراحاته وشهواته ولذاته وقع في آثار المعاطب وأودع قلبه سجون المضايق وعذب في حياته عذابًا لم يعذبه أحد من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن، وموته كدر وحسرة، ومعاده أسف وندامة، قد فرط عليه أمره وشتت عليه شمله، وأحضرت نفسه الغموم والأحزان، فلا لذة الجاهلين ولا راحة العارفين، يستغيث فلا يغاث ويشتكي فلا يشكى، فقد ترحلت أفراحه وسروره مدبرة وأقبلت آلامه، وأحزانه وحسراته مقبلة، فقد أُبدل بأُنسه وحشه وبعزه ذلًا وبغناه فقرًا وبجمعيته تشتيتًا،
وأبعدوه فلم يظفر بقربهم، وأبدلوه مكان الأنس إيحاشًا،
ذلك بأنه عرف طريقه إلى الله ثم تركها وناكبًا عنها مكبًا على وجهه، فأبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر، وأقبل ثم أدبر ودعي فما أجاب، وفتح له فولى ظهره الباب، قد ترك طريق مولاه وأقبل بكليته على هواه، فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشئونه فهو مقيد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد وميادين الأُنس ورياض المحبة وموائد القرب، قد انحط بسبب إعراضه عن إلهه الحق إلى أسفل السافلين، وحصل في عداد الهالكين فنار الحجاب تطلع كل وقت على فؤاده، وإعراض الكون عنه - إذ أعرض عن ربه - حائل بينه وبين مراده، فهو قبر يمشي على وجه الأرض فروحه في وحشة من جسمه وقلبه في ملال من حياته، يتمنى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه، حتى إذا جاءه الموت على تلك الحال والعياذ بالله فلا تسأل عما يحل به من العذاب الأليم بسب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق وإحداقه بنار البعد عن قربه والإعراض عنه".
وهكذا سيأتي من يأخذ مكانك ومكانتك، وتحاول الرجوع فلا تستطيع إلا إن أكرمك الكريم بفتح الباب مرة أخرى.