ضَـاعَ الـعِـلْـمُ بَـيْـنَ أَفْـخَـاذِ الـنِّـسـاءِ !!
وَهَـذَا الـكـلامُ أيُّـهـا الأفـاضـلُ لـيـسَ مِـن مَـقُـولِـي وإنَّـمـا هـو مِـنْ مَـنْـقـولِـي , فـهـذهِ كـلِـمـةٌ ذَائـعـةٌ شـائـعـةٌ مـنـسـوبـةٌ إلـى بـشـرِ بـنِ الـحـارِثِ الـحـافـي - رحـمـه الـلـهُ - قَـالَ : ضَـاعَ الـعِـلْـمُ بَـيْـنَ أَفْـخَـاذِ الـنِّـسـاءِ !! (1)
وَيُـرْوَى : ذُبِـحَ الـعِـلْـمُ بـيـن أفـخـاذِ الـنِّـسَـاءِ (2)
وَالـمَـعْـنـى أنَّ كـثـيـرًا مِـنْ طَـلَـبَـةِ الـعِـلْـمِ وَقَـفَ بِـهِـم الـزَّواجُ وَمَـا يَـتَّـصِـلُ بِـهِ مِـنْ مُـتَـعِـهِ أو مَـسْـئـولِـيَّ ـاتِـهِ وَمَـشَـاغِـلِـ هِ بـالـزَّوْجَـةِ وَالأولادِ عـنِ مُـتَـابَـعَـةِ الـعـلـمِ والإتـقـانِ والـنُّـبـوغِ فـيـهِ , فَـضَـمَـرَ الـعِـلْـمُ لَـدَيْـهِـم وبَـهَـتَ في نُـفُـوسِـهِـم (3)
وذكـر الـسَّـخـاوي في " الـضَّـوءِ الـلامـع " (4/18) في تـرجـمـةِ عُـبـادَةَ بـنِ عـلـيِّ بـنِ صـالـحٍ الـزَّرزَاريِّ : ... وَيَـقُـولُ مُـشـيـرًا لِـشـدَّةِ أَعْـبَـاءِ الـتَّـزويـجِ عـلـى سَـبـيـلِ الـمُـمَـاجَـنَ ـةِ : لَـو كـانَـتِ الـشَّـرِكَـةُ تَـصِـحُّ في الـزَّوْجَـاتِ لَـشَـارَكْـتُ في جُـزْءٍ مِـن أربـعـةٍ وَعـشـريـنَ جـزءًا !!
قـال الـسـخـاويُّ : وهـو مـسـبـوقٌ بـنَـحـوِهِ مـنَ الأوزاعـيِّ فـإنَّـهُ قـالَ لِـصـديـقٍ لَـهُ : إن اسـتـطـعـتَ أنْ تـكـتـفـيَ في هـذا الـزمـانِ بـنـصـفِ امـرأةٍ فـافـعـل !! ... إلـخ .
وذكـر الـخـطـيـب الـبـغـداديُّ في " تـاريـخِـهِ " (11/341 بـشَّـار ) وابـنُ الـجـوزيِّ في " الـمـنـتـظَـمِ " (6/287) والـذهـبـيُّ في " الـسِّـيَـرِ " (15/66) وفي " الـتـذكـرة " (3/28) وفي " الـعِـبَـر " (2/202) وابـنُ كـثـيـرٍ في " تـاريـخِـه " (11/211) في تـرجـمـةِ أبـي بـكـرٍ عـبـدِ الـلـهِ بـنِ مـحـمـدِ بـنِ زيـادٍ الـنَّـيـسـابـو ريِّ = عـن يـوسـفَ بـنِ عـمـرَ بـنِ مـسـروقٍ قـالَ : سـمـعـتُ أبـا بـكـرٍ الـنـيـسـابـوري َّ يـقـولُ : تـعـرفُ مَـنْ أقـامَ أربـعـيـنَ سـنـةً لـم يَـنَـمِ الـلـيـلَ , ويَـتَـقَـوَّتُ كُـلَّ يـومٍ بِـخَـمْـسِ حَـبَّـاتٍ , ويُـصَـلِّـي صـلاةَ الـغَـدَاةِ عـلـى طَـهـارَةِ الـعِـشَـاءِ الآخِـرَةِ ؟! ثُـمَّ قَـالَ : أنـا هـو , وهـذا كُـلُّـهُ قَـبْـلَ أنْ أعـرِفَ أُمَّ عـبـدِ الـرَّحْـمَـنِ , إيـش أقـولُ لِـمَـنْ زَوَّجَـنـي ؟! ثُـمَّ قـالَ : مـا أرادَ إلَّا الـخَـيْـرَ !!
وَلـيـسَ الـمـقـصـودُ مـن هـذِهِ الأخْـبـارِ ونَـظَـائِـرِهَ ـا الـتـزهـيـدَ في الـزَّواجِ لـطُـلَّابِ الـعِـلْـمِ , أو إظـهـارَ الـمُـنَـاقَـضَ ـةِ والـمُـعـارَضَـ ةِ بـيـنَ الـزَّواجِ وبـيـنَ الـجِـدِّ في طَـلَـبِ عـلـومِ الـشَّـريـعـةِ والـنُّـبـوغِ فـيـهـا , فـإنَّ هـذا قـولٌ عـاطِـلٌ وافـتِـعـالٌ بـاطِـلٌ (4) فـإنَّ الـنِّـكَـاحَ مـن سـنَـنِ الـمُـرْسَـلِـي ـن , وقـد لا يـسـتـقـيـمُ حـالُ طـالـبِ الـعِـلْـمِ ولا يـصـفـو ذِهـنُـهُ وتـهـدَأ نَـفْـسـهُ إلَّا بـعـد الـزَّواجِ خـصـوصـًا في أزمـانِـنـا ومـثـلِ أحـوالِـنَـا , ولـم تـقـعِ الـعُـزوبَـةُ في أعـيـانِ الـعُـلَـمَـاءِ إلَّا عـلـى سـبـيـلِ الـقِـلـةِ والـنُّـدرةِ .
ولـكـنَ الـمـقـصـودَ هـنـا هـو شَـحـذُ الـهِـمَـمِ الأَصـيـلـةِ وَحَـثُّ الـنُّـفـوسِ الـكَـريـمَـةِ عـلـى طَـلَـبِ عـلـومِ الـشَّـريـعـةِ والـجِـدُّ في تـحـصـيـلِـهـا والـتـضـحـيـةُ بـبـعـضِ الـمـتـعـةِ والـشَّـهـوةِ الـحـلالِ في سـبـيـلِـهـا , وبـذْلُ الـمُـهـجَـةِ مـن أجـلِ ذَلِـكَ .
قـالَ أبـو غـدَّةَ - رحـمـه الـلـهُ - في مـقـدِّمـةِ " الـعُـلَـمـاءِ الـعُـزَّابِ " ( ص/6) : وأرَدْتُ مِـنْ جَـمـعِ هـذِهِ الـصَّـفـحـاتِ وكِـتَـابَـةِ هـذِهِ الـكَـلِـمَـاتِ = أنْ يُـدْرِكَ شَـبَـابُـنَـا غَـلاءَ الـعِـلْـمِ عِـنْـدَ الآبَـاءِ والأجْـدَادِ , وشـدَّةَ تـعـلُّـقِـهـم بـه وفـنـائـهـم فـيـه - أيْ : تـفـانـيـهِـم في جـمـعـه وتـحـصـيـلِـهِ - , وعـظـيـمَ إيـثـارِهِـم لـه عـلـى مـا سـواهُ مِـنْ أُنْـسِ الـحـيـاةِ وتـلـبـيـةِ الاحـتـيـاجِ الـفِـطْـريِّ = فـيـعـرفـوا لـهـم فـضـلَـهـم , ويُـقَـدِّرُوا لـهـم قـدرَهُـم , ويـتـبـيَّـوا قـيـمـةَ الـعـلـمِ عـنـدَ أسـلافِـهِـم الـمـتـقـدِّمـي ـن فَـتَـتَـبَـارى فـيـهِ هـمـمُـهُـم , وتـتـنـافَـسُ في تـحـصـيـلِـهِ عـزائـمُـهُـم , فـيُـعـيـدُ الأحـفـادُ أمـجـادَ الأجـدادِ , ويـكـونُ مـن ذلـكَ الـخَـيْـرُ الـكـثـيـرُ لـلإنـسـانـيـةِ والـنَّـاسِ جـمـيـعًـا . اهـ
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــ
(1) " الـمـصـنـوع في مـعـرفـة الـحـديـث الـمـوضـوع " (120)
(2) " كـشـف الـخـفـاء " (1/476)
(3) انـظـر " الـعـلـمـاء الـعـزَّاب " لأبـي غـدَّةَ (ص/14)
(4) انـظـر مـقـدمـة " الـعُـزَّاب " لـبـكـرِ أبـي زيـدٍ " الـعـلـمـاء الـعـزَّاب " لأبـي غـدَّةَ.
كتبه: طارق عبد الرازق.