إياكم ومحقرات الذنوب
الحمد لله لم يزل عليًّا، ولم يزل في علاه سميًّا، قطرة من بحر جوده تملأ الأرض ريًّا، نظرة من عين رضاه تجعل الكافر وليًّا، الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًّا والنار لمن عصاه ولو شريفًا قرشيًّا، أنزل على نبيه ومصطفاه قولًا بهيًّا {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63].
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثاتها بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
اللهم لا تعذب جمعًا التقى فيك ولك، ولا تعذب ألسنًا تخبر عنك، ولا تعذب قلوبًا تشتاق إلى لذة النظر إلى وجهك الكريم.
إخوة الإسلام ومعاشر الصائمين، حديثنا عن أمر ربما يستهين به كثيرٌ منا، ويحسبه هين، وقد يوصله إلى الأمور العظام التي تفسد على العبد منا دينه ودنياه وآخرته، إنها محقرات الذنوب....
محقرات الذنوب تحتمل معان:
الأول:ما يفعله العبد من الذنوب، متوهمًا أنه من صغارها، وهو من كبار الذنوب عند الله تعالى.
الثاني: ما يفعله العبد من صغائر الذنوب دون مبالاةٍ بها، ولا توبة منها، فتجتمع عليه هذه الصغائر حتى تُهلكه.
الثالث: ما يفعله العبد من صغائر الذنوب، لا يبالي بها، فتكون سببًا لوقوعه في الكبائر المهلكة؛ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، إياك ومُحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالبًا» [1].
في هذه الوصية التي تكشف له عن أمر من الأمور خطير لا يبالي به كثيرٌ من الخلق ويتهاونون به، ويحسبونه هينًا وهو عند الله تعالى عظيم، ألا وهو الاستهانة بصغائر الذنوب والإكثار منها، ويقوله لقمان الحكيم لابنه: (ولا تَحقِرنَّ من الأمور صغارها، فإن الصغار غدًا تصير كبارًا)، وذلك أمر يجب أن يحذَر منه، وأن تُكشَفَ حقيقته للأبناء والبنات، وذلك من باب الرحمة والوقاية لهم من عذاب الله؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ» [2]، وعن عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ نَزَلُوا بِأَرْضٍ قَفْرٍ مَعَهُمْ طَعَامٌ لَا يُصْلِحُهُمْ إِلَّا النَّارُ، فَتَفَرَّقُوا فَجَعَلَ هَذَا يَجِيءُ بِالرَّوْثَةِ، وَيَجِيءُ هَذَا بِالْعَظْمِ، وَيَجِيءُ هَذَا بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا مِنْ ذَلِكَ مَا أَصْلَحُوا بِهِ طَعَامَهُمْ، فَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْمُحَقَّرَاتِ ، يَكْذِبُ الْكَذْبَةَ، وَيُذْنِبُ الذَّنْبَ، وَيَجْمَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ[3].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِالْمُحَقَّرَا تِ» »[4].
خَلِّ الذُّنُوبَ حَقِيرَهَـــا ** وَكَثِيرَهَا فَهُوَ التُّقَـــــــى
كُنْ مِثْلَ مَاشٍ فَوْقَ أَرْ ** ضِ الشَّوْكِ يحْذَرُ مَا يَرَى
لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيـــــــرَة ً ** إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَــى
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر، وإن كنا لنَعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات[5]، وعن بلال بن سعد قال: لا تنظر إلى صِغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عِظَم مَن عصيت)[6]؛ يقول ابن القيم: إذا يئس الشيطان من إيقاع الإنسان في ارتكاب الكبائر، فإنه يدعوه إلى ارتكاب الصغائر التي إذا اجتمعت على الإنسان ربما أهلكته[7].
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أخطأ نُكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا نزَع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تَعلو قلبَه، وهو الران الذي ذكر الله» : {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14][8].
قال ابن حجر العسقلاني: رُوي عن أسد بن موسى في الزهد، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: إن الرجل ليعمل الحسنة، فيثق بها وينسى المحقرات، فيلقى الله وقد أحاطت به، وإن الرجل ليعمل السيئة فلا يزال مشفقًا حتى يلقى الله آمنًا.
قال ابن بطال: المحقرات إذا كثرت صارت كبارًا مع الإصرار[9].
قال ابن القيم: ولا يزال الشيطان يُسهل على الإنسان محقرات الذنوب حتى يستهين بها، فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالًا منه[10].
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه، فقال به هكذا - أي بيده - فذبَّه عنه[11].
وقد ذكر أهل العلم أن الصغيرة قد يَقترن بها من قلة الحياء وعدم المبالاة، وترك الخوف من الله، مع الاستهانة بها - ما يُلحقها بالكبائر، بل يجعلها في رُتبتها، ولأجل ذلك لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
ونقول لمن هذه حاله: لا تنظر إلى صِغر المعصية، ولكن انظر إلى عِظَم مَن عصيت.
إنها محقرات الذنوب:
التي حملت مَن قبلنا على ترك دينهم، والانسلاخ من عقيدتهم، قيل لحُذَيْفَةَ بن اليمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أفِي يَوْمٍ وَاحِدٍ تَرَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ دِينَهُمْ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ تَرَكُوهُ، وَإِذَا نُهُوا عَنْ شَيْءٍ رَكِبُوهُ، حَتَّى انْسَلَخُوا مِنْ دِينِهِمْ كَمَا يَنْسَلِخُ الرَّجُلُ مِنْ قَمِيصِهِ[12].
إياك إياك ومحقرات الذنوب:
قَالَ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: يَا مَغرُورًا بِالأَمَانيِّ، لُعِنَ إِبلِيسُ وَأُهبِطَ مِن مَنزِلِ العِزِّ بِتَركِ سَجدَةٍ وَاحِدَةٍ أُمِرَ بها، وَأُخرِجَ آدَمُ مِنَ الجَنَّةِ بِلُقمَةٍ تَنَاوَلَهَا، وَحُجِبَ القَاتِلُ عَنهَا بَعدَ أَن رَآهَا عِيَانًا بِمَلءِ كَفٍّ مِن دَمٍ، وَأُمِرَ بِقَتلِ الزَّاني أَشنَعَ القِتلاتِ بِإِيلاجِ قَدرَ الأَنمُلَةِ فِيمَا لا يَحِلُّ، وَأُمِرَ بِإِيسَاعِ الظَّهرِ سِيَاطًا بِكَلِمَةِ قَذفٍ أَو بِقَطرَةٍ مِن مُسكِرٍ، وَأَبَانَ عُضوًا مِن أَعضَائِكَ بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ، فَلا تَأمَنْهُ أَن يَحبِسَكَ في النَّارِ بِمَعصِيَةٍ وَاحِدَةٍ مِن مَعَاصِيهِ {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15] [13].
[1] صحيح ابن ماجه 3421.
[2] أخرجه أحمد في المسند (331/ 5) بسند صحيح.
[3] صحيح: أخرجه معمر في جامعه (20278)، وابن أبي شيبة (13/ 289).
[4] إسناده صحيح: أخرجه أحمد (2/ 368).
[5] البخاري ج5، ح 6127.
[6] سير أعلام النبلاء، 5-91.
[7] التفسير القيم ص613.
[8] صحيح الترمذي 2654.
[9] فتح الباري ج11، ص 337.
[10] التفسير القيم ص613.
[11] أخرجه أحمد (1/ 383) (3629، 3627)، والبخاري، (8/ 83)، ومسلم، (8/ 92)، وأخرجه عبدالله بن المبارك في الزهد، (68)، و( 69 )، والترمذي (2497)، وأبو نعيم في الحلية، 4/ 129، والبيهقي في 10/ 188 - 189 وفي شعب الإيمان له ( 7104 ).
[12] الداء والدواء (ص: 50).
[13] الفوائد لابن القيم (ص: 63).
منقول