التوكل قيمة كبرى مفقودة
خطبة الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
كلما استغرقَت الأمة في المادية احتاجت إلى تذكيرٍ بقيمها التي ترتبط من خلالها بالغيب.
وما الذي يُفرِّق بيننا وبين الرعيل الأول؟
هم قرؤوا القرآن ولم يكن وقتَها مُزخرَفًا بين الدفتين ومجموعًا في الصحف ويجده الإنسان في كل مسجد وبيت، ونحن اليوم نقرأ القرآن مُزخرَفًا بين دفتين، وتتنافس آلاف المطابع لتطبع حروفه المباركة.
هم قرؤوا القرآن وعانَوا جهدًا في قراءته، ونحن قرأنا القرآن وما نجد إلا يُسرًا وسهولة، فلماذا كانوا أقمار العالَم؟ ولماذا خَفَتَ الضياء في هذه الأمة التي تقرأ القرآن؟
إنها أزمة الماديّة التي أشار إليها ربّنا تبارك وتعالى بقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7]
والتي أشار إليها قوله: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 30]
والذي يُميّز خاصة هذه الأمة أنها أمة ترتبط بالله، وتستمد قوتها من الله، وتعيش حالة الوَصل والقُرب، وتعيش حالة الأُنس والمجالسة بين يديّ ربّها، في حين ينقطع أهل المادة عن الاستعانة والاستمداد..
والذي يُميّز خاصة هذه الأمة عن أهل المادة أنهم عاشوا وأرواحُهم موصولة بأنوار الله، تشعر بقُربه، وتأنس بمواصلته، وتلتذ بمناجاته... أما أهل المادة فإنهم مشغولون بلذات الحِسّ ورغبات النفس، مقطوعون عن كمال حضرة القُدس.
من هنا أحببت في ساعة الجمعة المباركة - التي فيها يُقبِل العِباد، وفيها تُفتَح أبواب السماء، وفيها تُوزّع شهادات القَبول، وفيها ينقلب العُصاة إلى تائبين، ويصبح الخطّاؤون من الأوابين.. - أحببت في هذه الساعة المباركة أن أقف مع حضراتكم في قيمة كبيرة من قِيَمِنا التي بها تتميّز هويتنا، وهي قيمة التوكُّل على الله، هذه القيمة التي كادت تصبح مفقودة في زمن نهشت الماديّة فيها القلوب.
ولا يمكن أن يعيش الإنسان حالة التوكُّل على الله، والتي هي الاعتماد بالكلية عليه، والاستناد بالجملة إليه، إلا إذا عرف عظمة المُتوكَّل عليه، وعرف أنه الله الملك المُنفَرِد في عزّه وسلطنته، فهذه المعرفة تُنتج اعتمادًا عليه.
وطالما أن قلبه لا يعرف من هو الله، بل يعرف الأشياء والأسباب والأشخاص، وغافل وغائب عّمَّن بيده الأشياء والأسباب والأشخاص، لهذا يعتمد على الآلة والأداة وينسى تلك اليد التي تُحرّك الآلة والأداة.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء: 81] فإذا عرفت من هو الله، فمعرفتك بعظمته تجعلك متوكلاً عليه، وغفلتك وغيبتك عن جلال سلطانه تجعلك مُعتمِدًا على سواه.
وقال رجل لأبي تراب النخشبي رحمه الله: ألك إليّ حاجة؟ فأجابه أبو تراب: لو كان لي إليك وإلى أمثالك حاجة لم يكن لي إلى الله حاجة.
لكن كيف يمكن للإنسان أن يُحصِّل هذا المعنى الذي فقده كثيرٌ من المسلمين؟
وكما تعوّدنا في مثل هذه المباحث، لا يمكن لنا أن نخترع من آرائنا شيئًا، إنما في مثل هذه الموضوعات نرجع إلى كتاب الله لنستمد منه الجواب.
فمن أسباب التوكُّل ومقدماته:
1- ذكر الله وتلاوة القرآن: ونستمد هذا من قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]
فرتّب الله سبحانه وتعالى هذه المعاني ليُنبّهنا إلى المقدمات والنتائج، فذكر أولاً وَجَلَ القلب عند ذكره، وذلك حينما ينفعل القلب لذكر الله، ولا ينفعل القلب لذكر الله في مُبتدى أمر الذاكر، ولكن كما قال أهل المعرفة: "لا تتْرُكِ الذِّكْرَ لِعَدَمِ حُضُورِكَ مَعَ اللهِ فِيهِ، لأَنَّ غَفْلَتَكَ عَنْ وُجُودِ ذِكرِهِ أَشَدُّ مِنْ غَفْلَتِكَ في وُجُودِ ذِكْرِهِ، فَعَسَى أَنْ يَرْفَعَكَ مِنْ ذِكْرٍ مَعَ وُجُودِ غَفْلَةٍ إِلَى ذِكْرٍ مَعَ وُجُودِ يَقَظَةٍ، وَمِنْ ذِكْرٍ مَعْ وُجُودِ يَقَظَةٍ إِلَى ذِكْرٍ مَعَ وُجُودِ حُضُورِ، وَمِنْ ذِكْرٍ مَعَ وُجُودِ حُضُورٍ إِلى ذِكْرٍ مَعَ وُجُودِ غَيْبَةٍ عَمَّا سِوَى المَذْكُورِ".
فالمداومة على ذكر الله باللسان تنقل الإنسان إلى حالة الذكر القلبيّ الذي يكون معه وَجَلُ القلب.
فإذا كان القلب بهذا الوصف، انفعل للقرآن: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} لكنه إذا لم يكن من أصحاب وَجَل القلب لذكر الله، لم ينفعل قلبه للقرآن، إنما تبقى قراءة القرآن ممارسةً طَقسية حركيةً عملية لا أثر لها في القلب ولا في السلوك.
فذِكر الله يليه انفعال القلب لكلام الله، وعندها يُشرق في القلب تعظيم الله، وعندها لم يعتمد على سواه.
2- أن يوجد الأُسوةُ المُتوكِّلُ على الله المُذكِّرُ أصحابَه بالتوكُّل على الله: ونستمد هذا من قوله تعالى للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الأسوةِ الأعظم والإمامِ الأكرم:
{قُلْ} فأمره الله سبحانه وتعالى أن يقول لأصحابه وأن يقول لأمته.
{حَسْبِيَ اللَّهُ} فأنا الذي أكتفي بالله، وأستغني به عن سواه.
{عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُو نَ} [الزمر: 38]
فذكر أمرين اثنين:
أما الأمر الأول فهو: اكتفاؤه بالله وتوكله على الله.
وأما الأمر الثاني فإنه: التنبيه إلى أن هذا يندرج في منظومة المتوكلين على الله التي لا تنقطع في كل زمان، ففي كل زمان يوجد المتوكلون على الله ويوجد المعتمدون على سواه، أما المتوكلون على الله فإنهم يفوزون بإعانة الله، وأما المعتمدون على سواه فإنهم يخيبون ويخسرون.
ونقرأ في كتاب الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ مُوسَى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ، فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس: 84-85] وهكذا أثَّر قولُ المُتوكِّل وحالُه، فأنتجَ فيمن حولَه توكُّلاً.
أما العبارات التي تُنمَّق في أشكال بيانية فصيحة مُجرَّدة عن الحال فإنها لا تُنتج في الناس توكلاً.
3- الصبر: وهو أصل من أصولنا التي نتواصى بها، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3]
فالثبات على طريق الحقّ في الأقوال والأفعال والأحوال لابدّ له من صبر، لأن المغريات كثيرة، ولأن الأسباب التي تجعل الإنسان منحرفًا أو منصرفًا كثيرة، والمؤمن الذي لا يملك بيمينه هذا المُقوِّم والقيمة (الذي هو الصبر) في السراء والضراء فإنه سينجرّ وراء تلك المغريات والصوارف.
وقد بايع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامَهم وقائدَهم وقرّة أعينهم سيدَنا محمدًا صلى الله عليه وسلم على السمع الطاعة في المكره والمنشط والعسر واليسر.
وهكذا نقرأ في كتاب الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 42] فرتّب الله سبحانه وتعالى التوكُّل على الصبر، والذي لا صبر له لا توكل له، والمتعجّلون لا يصلون إلى حال التوكُّل أبدًا.
4- الإيمان بالغيب: فلا يصل إلى التوكُّل ماديٌّ، وهكذا قال سبحانه:
{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] فإن لم تكونوا مؤمنين فلا توكّل لكم، ولن تكون فيكم قيمة التوكُّل هذه أبدًا.
وقال سبحانه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن: 13]
5- التقوى: فلن يذوق التوكُّل أهل الفسوق الذين يقعون في المخالفات الشرعية، والذين ينحرفون عن طريق الاستقامة المُبيَّن بسلوك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتوجيهه.
واقرؤوا قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11]
فرتّب الله سبحانه وتعالى التوكُّل على التقوى، وبانعدام التقوى ينعدم التوكُّل، ومهما حاول الإنسان أن يُوهِم نفسه بعباراتٍ أنه متوكل فإنه واهم إن لم يكن من أصحاب التقوى.
6- العبادة: فلا يصل إلى التوكُّل مُعرِضٌ عن صلاة أو صيام أو زكاة أو حج، فهي ثوابت العبادة التي حينما يُقصِّر الإنسان فيها يتحول إلى ماديّ.
واقرؤوا قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] فإذا انعدمت العبادة ينعدم التوكُّل.
7- البراءة من أصحاب النفوذ الماديّ الذين يحاربون الله ورسوله: ولا يمكن أن يذوق التوكُّل مُداهِنٌ أو مُنافِق، فلا يجتمع في القلب تعظيمٌ لله وتعظيم لسواه، ولا يمكن أن يجتمع في القلب طمع في الله وطمع في سواه.
وقال الله سبحانه وتعالى وهو يُبيّن لنا هذه الحقيقة:
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ} وهكذا يتبرأ إبراهيم الفردُ من قومه الجماعةِ الكثيرة ومعهم الملك ذو السلطان، فإبراهيم والذين معه قِلة، وهو الفرد لأنه في حكم الأمة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] وَالَّذِينَ مَعَهُ أي الذين كانوا يستمدون الثبات في الموقف من حاله.
{إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} فإذا كانت مرجعيتكم ما أنـزل الله سبحانه وتعالى إلى البشرية في الهداية، فنحن وأنتم صفٌّ واحد، وإذا كانت مرجعيتكم المادية التي تنسى الله وهدايته وتُعرض عنه، فلا اجتماع بيننا وبينكم أبدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ.
{إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} وهو وعدٌ قطعه إبراهيم عليه الصلاة والسلام على نفسه أن يستغفر الله لأبيه، واستَغفَر له، وليس من شأن إبراهيم أن يضمن المغفرة، فهو قام بما أُمِر به من الاستغفار، أما مغفرة الذنوب فإنها أمر يختص بالله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 135].
ثم قال: {ربّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} [الممتحنة: 4] فرتّب ربّنا سبحانه وتعالى التوكُّل على البراءة من أعدائه.
وهكذا نرى تحديّ المُتوكِّل لعبيد الأغيار في مواضع متعددة في كتاب الله، واقرؤوا على سبيل المثال قوله تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} أي ذكِّرهم في هذه التلاوة بهذه المواقف التي تحدّى بها المتوكلون عبيد الأغيار.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71]
أي اجمعوا ما تستطيعون من قواكم المادية، أما أنا فإنني أستعين بالله وحده.
وهكذا أيضًا أجاب المسلمون المشركين في أُحُد عندما قالوا لهم: الله مولانا ولا مولى لكم.
ونقرأ مثل موقف نوح عليه الصلاة والسلام ما حكاه القرآن عن هود عليه الصلاة والسلام: {قَالُوا يا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} أي اجمعوا كيدكم وقوتكم ووجّهوها من أجل أن تكيدوني.
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 53-56] فأنا في يده وأنتم في يده، فإن أراد ربي أن يُعذّبني بكم فأنا مُستسلِمٌ لحكمه، وإن أراد أن ينصرني عليكم فلا رادَّ لأمره ولا غالب لأمره.
وأعجب من أحوال سَلَفِنا وأنا أقرأ في سِيَرهم، فها هو أحد المتوكلين على الله يدخل البادية من غير زاد، فقيل له: ماذا لو مِت؟! فأجابهم بقوةٍ وثبات: الديّة على القاتل، فقد خلقني وكفِل رزقي وضَمِنَه.
وهكذا قرر أهل المعرفة أن الذين يتحدثون في أسباب الرزق ثلاثة:
أ- الماديّون: الذين جعلوا عمل الإنسان سبب رزقه، وهم من فئة القَدَرية الذين يقولون: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه.
ب- وأهل العِلم الظاهر: الذين وقفوا مع ظاهر النص، حينما قرؤوا قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3] فتوهموا أن التقوى سببٌ للرزق.
ج- وقال أهل المعرفة: لا، بل إن سبب الرزق الخِلقة، فإذا خلقك فإنه تبارك وتعالى ضمينُ رِزقِك.
وسأل أحدُ العلماء بعضَ العارفين وهو يتحدّث عن زيدٍ من الناس، وقال له العالِم: من أين معاشه؟ فأجابه: لم أكن أشك في خالقه لأشك في رازقه.
فكم بيننا وبين هذه المعاني!!
قد خلطنا بين أمر الله لنا بالكَسب والرزق، فأمرُ اللهِ لنا بالكَسب أمرٌ شرعيٌّ تعبَّدَنا الله به، فنحن نخرج لطلب الرزق ونتحرّك بأجسادنا فيه امتثالاً لأمر الله، لأنه سبحانه وتعالى أمَرَنا بهذه الحركة، لكن الآفة والمعضلة تظهر عندما تتوهّم قلوبنا أن حركتنا هذه هي الرزاق، والرزاقُ لا يكون إلا الله.
وفرقٌ بين أن تتحرك في الأسباب لأنك بهذا تأتمر بأمر الله، وبين وهمك أن الأسباب ترزقك أو تعطيك، أو ترفعك أو تخفضك..
ورحم الله القائل:
أُرانيَ كالآلات وهو محرّكي
أنا قلم والاِقتدارُ أصابع
8- يقين المؤمن بمبدئه: قال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]
فإذا كان في قلبك شكٌّ بالمبدأ الذي أنت عليه، لا تصل إلى هذا التوكُّل أبدًا.
9- الاطمئنان إلى حكمة الله في شريعته: فإنه سبحانه وتعالى ما شرع لنا شريعة أو هديًا موجِّهًا للسلوك، إلا وفيه حكمة، سواءٌ أدركناها أم لم ندركها، فثقتنا بالمُشرِّع تجعلنا في ثقة تامّة بشريعته.
قال تعالى وهو يعلمنا: {وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12] أي هدانا بشريعته، والسُّبُل: الطرُق التي فيها نتحرك وفق أمره، وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]
وفي الخاتمة أذكر أربع نتائج من نتائج التوكُّل:
1- إذا تحقق قلبك بحال التوكُّل على الله، لا يستطيع الشيطان أن يهيمن على قلبك: قال تعالى:
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99] فتنتفي السلطنة الإبليسية على القلب بالتوكُّل.
قال حاتم الأصم: لي أربعة نسوة وتسعة أولاد ما استطاع الشيطان يومًا من الأيام أن يوسوس لي في رزقهم.
2- حصول الكفاية: قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] فلن تكون محتاجًا إلى غير الله، لأن الكفاية ستتحقق لك في حياتك.
3- وحدة الصفّ وانتفاء التنازع والتخاصم:
قال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} أي بالتخاصم والتنازع.
{وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} لأن الله سبحانه وتعالى تولّى أمرهما وكانوا من أصحاب التوكُّل على الله، فانتفى التنازع بسِر التوكُّل على الله، وهكذا قرر الله سبحانه وتعالى وهو يحكي هذه الحادثة سِرَّ ما حصل بقوله:
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] أي حتى ينتفي التنازع والتخاصم فيما بينهم.
4- النعيم الذي ينتظر أهل التوكُّل: والنعيمُ أعلاه النظرُ إلى وجه الكريم، وأدناه جنةٌ عرضُها السموات والأرض، قال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36]
اللهم اجعلنا من أهل التوكُّل عليك، واصرف عن قلوبنا هيمنة الأغيار، بمنّك وكرمك، فإنك أنت الواحد القهار، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.