السـلـــف والحـــج



في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه. أي أن ذنوبه تُغفر كلها. وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. متفق عليه.
فالحج -إذاً- عبادة من أفضل العبادات التي شرعها الله تعالى، جعل الله فيها الشيء الكثير من لذة العبادة رغم المشقة الظاهرة فيه، قال العلامة ابن القيم –رحمه الله-: وَأما الْحَج فشأن آخر لَا يُدْرِكهُ إِلَّا الحنفاء الَّذين ضربوا فِي الْمحبَّة بِسَهْم، وشأنه أجل من أَن تحيط بِهِ الْعبارَة، وَهُوَ خَاصَّة هَذَا الدّين الحنيف؛ حَتَّى قيل فِي قَوْله تَعَالَى {حنفَاء لله غير مُشْرِكين} (الحج:31). أَي حجاجا وَجعل الله بَيته الْحَرَام قيَاما للنَّاس؛ فَهُوَ عَمُود الْعَالم الَّذِي عَلَيْهِ بِنَاؤُه، فَلَو ترك النَّاس كلهم الْحَج سنة لخرت السَّمَاء على الأَرْض، هَكَذَا قَالَ ترجمان الْقُرْآن ابْن عَبَّاس فالبيت الْحَرَام قيام الْعَالم فَلَا يزَال قيَاما مَا زَالَ هَذَا الْبَيْت محجوجا؛ فالحج هُوَ خَاصَّة الحنيفة، ومعونة الصَّلَاة، وسر قَول العَبْد لَا إِلَه إِلَّا الله؛ فَإِنَّهُ مؤسس على التَّوْحِيد الْمَحْض والمحبة الْخَالِصَة، وَهُوَ استزارة المحبوب لأحبابه ودعوتهم إِلَى بَيته وَمحل كرامته؛ وَلِهَذَا إِذا دخلُوا فِي هَذِه الْعِبَادَة فشعارهم لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك إِجَابَة محب لدَعْوَة حَبِيبه؛ وَلِهَذَا كَانَ لِلتَّلْبِيَةِ موقع عِنْد الله، وَكلما أَكثر العَبْد مِنْهَا كَانَ أحب إِلَى ربه وأحظى؛ فَهُوَ لَا يملك نَفسه أَن يَقُول لبيْك لبيْك حَتَّى يَنْقَطِع نَفسه 0 وَأما أسرار مَا فِي هَذِه الْعِبَادَة من الْإِحْرَام وَاجْتنَاب العوائد وكشف الرَّأْس وَنزع الثِّيَاب الْمُعْتَادَة وَالطّواف وَالْوُقُوف بِعَرَفَة وَرمى الْجمار وَسَائِر شَعَائِر الْحَج فمما شهِدت بحسنه الْعُقُول السليمة وَالْفطر المستقيمة، وَعلمت بِأَن الَّذِي شرع هَذِه لَا حِكْمَة فَوق حكمته. (مفتاح دار السعادة 2/4).
لهذا وغيره اجتهد السلف في الحج والعمرة أيما اجتهاد، وبلغوا من علو همتهم في الحج مبلغاً عظيماً، وكتب في ذلك كثير من أهل العلم عنهم، ومن ذلك ما نقله الشيخ الكريم سيد حسين العفاني في كتابه الماتع (صلاح الأمة في علو الهمة)، حيث ذكر نماذج متعددة على عناية السلف بكثرة الحج والعمرة وكيف كان حالهم فيها؟ فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال عنه نافع: سافرت مع ابن عمر بضعاً وثلاثين حجة وعمرة.
وحج الحسن بن علي رضي الله عنهما خمس عشرة مرة.
وأحرم أنس بن مالك رضي الله عنه من ذات عرق فما تكلم إلا بذكر الله حتى حلَّ.
وقال مجاهد: ما كان باب من العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلفه ابن الزبير، ولقد جاء سيل طبّق البيت فطاف سباحة.
وحج الأسود بن يزيد النخعي ثمانين ما بين حج وعمرة.
وحج عمرو بن ميمون ستين مرة، ما بين حجة وعمرة، وفي رواية مائة مرة.
وقال سعيد بن المسيب: حججت أربعين حجة.
وكان سعيد بن جبير يحرم في كل سنة مرتين، مرة للحج، ومرة للعمرة.
وأحرم علي بن الحسين فلما أراد أن يُلبي قالها، فأُغمي عليه وسقط من ناقته.
وكان مسلم بن يسار يحج كل سنة، ويحجج معه رجالا من إخوانه تعودوا ذلك.
وقال ابن حبان: كان طاووس من عباد أهل اليمن، ومن سادات التابعين، مستجاب الدعوة، حج أربعين حجة.
قال ابن أبي ليلى: عن عطاء بن أبي رباح: حج زيادة عن سبعين حجة.
وعن هشام بن حسان أن أيوب السختياني حج أربعين حجة.
وقال سليمان بن أيوب: سمعت سفيان بن عيينة يقول: شهدت ثمانين موقفاً.
وقسّم ابن وهب إمام أهل مصر دهره ثلاثاً، ثلثاً في الرباط، وثلثاً يعلم الناس بمصر، وثلثاً في الحج. وذكر أنه حج ستاً وثلاثين حجة.
وكان عبد الرحمن بن مهدي يحج كل عام.
واشتهر عن هارون الرشيد أنه كان يغزو عاماً ويحج عاماً. حتى قال فيه الشاعر:
فمن يطلب لقاءك أو يرده
فبالحرمين أو أقصى الثغور
وكان -رحمه الله- إذا حج أحجّ معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة السابغة والكسوة التامة.
وقال جعفر بن محمد بن نصير الخُلدي: وقفت بعرفة ستاً وخمسين موقفاً.
وقال أبو الفرج الإسفراييني عن الخطيب البغدادي: كان الخطيب معنا في الحج، فكان يختم كل يوم ختمة قراءة ترتيل، ثم يجتمع الناس عليه وهو راكب يقولون: حدثنا، فيحدثهم.
وهذا ابن قيم الجوزية يقول عنه الحافظ بن رجب: «وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراُ يُتعجب منه. ولقد ألّف كتابه القيم (مفتاح دار السعادة) بمكة. يقول ابن القيم: «وكان هذا من بعض النزول والتحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً، فما خاب من أنزله به حوائجه، وعلق به آماله، وأصبح ببابه مقيماً وبحماه نزيلاً».
ومات الحافظ البرزالي صاحب التاريخ والمعجم الكبير بخُليص محرماً في ثالث ذي الحجة، سنة 738هـ، ولقد حكى بعض المشايخ أنه كان إذا قرأ الحديث، ومر به حديث ابن عباس في قصة الرجل الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات.... الحديث، وفيه: “فإنه يُبعث يوم القيامة ملبياً”، فكان إذا قرأه يبكي، ويرق قلبه، فمات محرما بخليص.
وفقنا الله وإياكم لحج بيته الحرام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



اعداد: وليد دويدار