خطبة فقهية عن الحج والعمرة

د. محمد بن علي بن جميل المطري


الحمدُ لله على نِعَمِهِ الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، الحمدُ لله الذي شرع لنا الصلاةَ والزكاة والصيام، والحجَّ إلى الكعبةِ البيتِ الحرام، الحمدُ لله الذي يسَّر على عباده، وبيَّن لهم الأحكام في كتابه وسنة رسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يخلق ما يشاء ويختار، ويُفضِّل ما يشاء من الأزمنة والأمكنة، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه؛ أما بعد:
فالحج ركن من أركان الإسلام؛ قال الله سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالحَجِّ))، واتفق العلماء على مشروعية المبادرة بالحج لمن استطاع إليه سبيلًا، فقد أمر الله نبيَّه إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يبني الكعبة التي هي أول بيت وُضِعَ للناس لعبادة الله، وأمره أن يُعلِمَ الناس بوجوب الحج عليهم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا - أي مشاة على أرجلهم - وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ - أي على راكبين على كل جملٍ قد ضمر من طول السفر ومشقته - يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 26 - 29]، وكل الأنبياء بعد إبراهيم حَجُّوا البيت إن استطاعوا إليه سبيلًا، ويُشرع لمن حج أو اعتمر أن يُلبِّيَ فيقول:
(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك)، والتلبية شعار الحج، وهي إشارة إلى إجابة دعوة إبراهيم حين أمر الناس بالحج، ومعنى لبيك: أي أُجيبك - يا ألله - إجابة بعد إجابة، وأقيم على طاعتك، أمرتني بالصلاة فصليت، وأمرتني بالصيام فصمت، وأمرتني بالزكاة فزكيت، وأمرتني بالحج إلى بيتك فحَجَجْتُ، فأنا أجيبك إجابة بعد إجابة، وأقيم على طاعتك حتى ألقاك، وقد جعل الله في الحج والعمرة منافع عظيمة للعباد، في دينهم ودنياهم؛ قال الله تعالى: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ﴾ [المائدة: 97]، والأصح أن العمرة واجبة، وهي الحج الأصغر؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 196]، فلا بد من الإخلاص في أداء الحج والعمرة، ولا بد من إتمامهما بعد الشروع فيهما ولو كانت تطوعًا، وإنما يجب الحج والعمرة في العمر مرة، وما زاد فهو تطوع.

وقد وقَّت النبي صلى الله عليه وسلم مواقيت مكانية لمن أراد الحج أو العمرة، فوقَّت لأهل المدينة ذا الحُليفة، ولأهل الشام الجُحفةَ، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَمَ؛ وقال: ((هُنَّ لهُنَّ، ولمن أتى عليهِنَّ من غيرهِن ممن أراد الحج والعمرة))، ومن كان طريقه يمينًا أو شمالًا من هذه المواقيت، فإنه يُحرِم حين يحاذي أقرب المواقيت إليه، ومن كان في طائرة، فإنه يُحرِم إذا حاذى الميقات من فوقه.

أيها المسلمون، العمرة تُشرَع في جميع أيام السنة، أما الحج فلا يُشرع إلا في أشهر الحج؛ وهي شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة؛ قال الله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ [البقرة: 197]، فيجوز الإحرام بالحج مفرِدًا ولو في شوال، ويبقى مُحْرِمًا إلى يوم العيد، والأيسر لمن أراد الحج أن يُحرم في أشهر الحج بعمرة متمتعًا بها إلى الحج، ثم يُحرم بالحج في اليوم الثامن من ذي الحجة.

وأعمال العمرة أربعة: الإحرام من الميقات، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير.

فمَنْ أراد العمرة يُستحَب له أن يغتسل في الميقات، ثم يلبس ثياب الإحرام، وهما إزار ورداء للرجل، والأفضل أن يكونا أبيضين، وتُحرِم المرأةُ فيما شاءت من الثياب الساترة لها من غير تبرُّج ولا إظهار زينة، ويُستحب أن يكون الإحرام بعد صلاة فريضة أو نافلة، فإذا فرغ من الصلاة نوى الإحرام، وقال: لبيك عمرة، ثم يُلبِّي، وإذا دخل المسجد الحرام يطوف بالكعبة سبعة أشواط وهو على طهارة، ويبتدئ الطواف من أمام الحجر الأسود، ويقول: الله أكبر، ويُشير إلى الحجر الأسود بيده، والأفضل ألَّا يُزاحم الناس على الحجر الأسود فيؤذيهم ويتأذى بهم، ويُكثر حال طوافه من ذكر الله ودعائه، ولو أحدث أثناء الطواف توضَّأ وبنى على طوافه من حيث أحدث، ولا تطوف الحائض ولا تدخل المسجد الحرام حتى تطهُرَ، فإذا أتم الطواف سبعة أشواط صلى خلف مقام إبراهيم ركعتين إن وجد مكانًا فارغًا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125]، وله أن يصلي الركعتين في أي مكان من المسجد.

ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ [البقرة: 158]، فيبدأ بالصفا، ذهابه من الصفا إلى المروة شوطٌ، ورجوعه من المروة إلى الصفا شوط آخر، حتى يكمل سبعة أشواط، ويختم الشوط السابع في المروة، ويقول في سعيه ما أحب من ذكرٍ ودعاءٍ وتلاوة، ويجوز أن يستريح أثناء السعي، ويجوز الطواف والسعي في الدور الثاني وعلى السطح، ويجوز لمن يشق عليه المشيُ لكِبرِ سنٍّ أو مرضٍ أن يطوف ويسعى راكبًا عربية ونحوها، ولا حرج.

فإذا أتم الرجل سعيَهُ بين الصفا والمروة حَلَقَ جميع رأسِه أو قصَّره، والمرأة تُقَصِّر من كل ضفيرة قدر طرف الأصبع، وبهذا تنتهي العمرة.

أيها المسلمون، سُمِّيتِ الكعبةُ البيتَ الحرام لأن الله عظَّمها وشرَّفها، وحرَّم القتال والاصطياد في حرمِ مكة، وجعل الحرم آمنًا؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [آل عمران: 96، 97]، وقال سبحانه: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30].

أيها المسلمون، يجب على من حجَّ أو اعتمر أن يتجنب محظورات الإحرام التي لا يجوز للمُحْرِم بالعمرة أو بالحج فِعْلُها، فلا يجوز للرجلِ المحرِم لُبْسُ القميص والسراويل، والخفين والجوربين والقفازين، وغير ذلك من اللباس الذي يُحيط ببدنه أو بعضوٍ منه، ولا يغطي رأسَه وأذنيه، ولا يجوز للمرأةِ المحرمةِ سترُ وجهِها بنقابٍ وبُرقعٍ ونحو ذلك، ولا تَلْبَس القفازين، ويَجوزُ للمرأة الـمـُحْرِمة أن تغطي وجهها بثوبٍ تَسْدُلُه من رأسها على وجهها، من غير أن تشُدَّه عليها عند الرجال غير المحارم، ولو في الطواف والسعي، ولها أن تستر يدَيها بغير القفَّازين، ولا يجوز للمحرمِ والمحرمةِ إزالةُ الشعر والظفر، ولا استعمالُ العطور والبخور، وأعظم المحظورات الجِماعُ، ولا يجوز في حال الإحرام وفي الحرم قتلُ صيد البر وأخذُه وتنفيرُه؛ مثل الحمامِ والأرانب والجراد، ويتأكد على المحرِم تركُ المعاصي، وتركُ الجِدال؛ قال الله تعالى: ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197]، ولا يجوز للمحرمِ استعمالُ الدهانِ والزيوتِ المعطَّرة، والأفضل له تركها وإن لم تكن معطَّرة، فيكون أشعثَ أغبرَ متواضعًا لله في عمرته وحَجِّه.

ويجوز للمُحْرِم أن يستظلَّ، وأن يحُكَّ رأسه وبدنه، ويجوز له أن يقتل القَمْل والقُمَّل، والذباب والبعوض، وغيرها من الحشرات المؤذية، وليس عليه فدية.

أيها المسلمون، أعمال الحج تكون في ستة أيام هي: يوم التَّرْوِيَة، وهو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، ويوم عرفةَ، وهو اليوم التاسع، ويوم النَّحر، وهو اليوم العاشر، وهو يوم عيد الأضحى، والأيام الثلاثة بعد يوم العيد، وهي أيام التشريق.

ففي يوم التروية يُحرِم المتمتع بالحج من مكانه الذي هو نازلٌ فيه في مكة، ويقول عند إحرامه: (لبيك حجًّا)، ويُلَبِّي، ويتجه الحجاج من مكة إلى مِنًى، فيُصَلُّون في مِنًى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر، قصرًا من غير جمع، فإذا طلعت الشمس يوم عرفة ساروا من منى إلى عرفات، فإذا زالت الشمس صلوا في عرفات الظهر والعصر قصرًا وجمعًا جمعَ تقديم، ويتأكد على الحجاج في عرفة أن يُكثروا من ذكر الله ودعائه وحده لا شريك له، ويجوز للحاج في عرفة أن يجلس وأن يضطجع، ولا ينبغي للحاج أن يُفرِّط في ذلك الموقف العظيم بلهوٍ أو حديثٍ أو نوم، وحيث وقف في عرفات أجزأه، ولا يُستحب الصعود على جبل الرحمة الذي في وسط عرفات؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصعد عليه في حجِّه.

فإذا غربت الشمس يوم عرفة سار الحجاج إلى مُزْدَلِفَةَ، وهي بين عرفات ومنًى، فيصلون في مزدلفة صلاة المغرب والعشاء جمع تأخير، ويبيتون ليلة العيد بمزدلفة في أي مكان منها، ثم يصلون الفجر يوم العيد في مزدلفة، وهو المشعر الحرام، فيُوحِّدون اللهَ ويُكَبِّرونه، ويُهَلِّلونه ويدعونه إلى قبل طلوع الشمس؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة: 198]، ثم يخرجون من مزدلفة إلى منًى، فإذا وصلوها رمى كل حاج جمرة العقبة بسبع حصيَات متعاقبات واحدة بعد الأخرى، يُكبِّر الله مع كل حصاة.

فإذا فرغ من الرمي ذبح هديَه إن كان معه هَدْيٌ، وله أن يوكِّل من يذبح عنه، ويحلِق الرجل رأسه أو يُقَصِّره، وتُقَصِّر المرأة شيئًا يسيرًا من شعرها، ثم يذهب الحاج إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، ويسعى للحج، وهذه هي أعمال يوم العيد: الرمي والذبح والحلق والطواف والسعي، والأفضل ترتيبها هكذا، ويجوز أن يقدَّم بعضها على بعض إلا الحلق لا يُقدَّم على الرمي، فإذا رمى وحلق وطاف، يحِلُّ له كلُّ ما حرُم عليه من محظورات الإحرام، ومن لم يكن معه هديٌ، صام ثلاثة أيام في الحج، وسبعةَ أيامٍ إذا رجع إلى أهله؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 196].

أيها المسلمون، وبعد أن يطوف الحاجُّ طواف الإفاضة يوم العيد يرجع إلى مِنًى فيبيت بها ليالي أيام التشريق الثلاثة، وهي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة، ويرمي الجمرات الثلاث في كل يوم من أيام التشريق بعد زوال الشمس، ويرميها مرتبة، فيرمي أولًا الجمرة الأولى بسبع حصيات، يكبِّر الله مع كل حصاة، ثم يرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات، يُكبِّر الله مع كل حصاة، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات، يُكبِّر الله مع كل حصاة.

وأيام التشريق هي الأيام المعدودات؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203]، فللحاج أن يتعجَّل في يومين، فيكتفي برمي الجمرات في اليوم الحادي عشر والثاني عشر، ثم ينصرف من مِنًى إلى مكة قبل غروب الشمس، وإن شاء تأخر إلى اليوم الثالث عشر، ويرمي الجمرات الثلاث بعد الزوال لا قبله.

فإذا أراد الحاج الخروجَ من مكة، طاف طواف الوداع قبل سفره، وليس بعد طواف الوداع سعيٌ، ويجعل طواف الوداع آخرَ ما يعمله في مكة، والمرأة إذا كانت حائضًا أو نُفَساء، فليس عليها طواف وداع.

نسأل الله أن يوفِّق الحُجَّاج لأداء المناسك، وأن يتقبل منا ومنهم، وأن يوفقنا للحج والعمرة، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه؛ أما بعد:
ففي الحج مناسكُ كثيرةٌ لم تُذكَر في القرآن الكريم، وهي ثابتةٌ في السنة النبوية، وقد أمرنا الله بطاعته وطاعة رسوله في آيات كثيرة، وطاعة الله باتباع القرآن، وطاعة الرسول باتباع السنة النبوية التي تبين لنا أحكام القرآن؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]، وقال عز وجل: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، وقال سبحانه: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾ [النور: 54]، ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 71]، ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].

فمن المناسك التي بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم لأُمَّتِهِ في الحج، وليست مذكورة في القرآن: التلبيةُ، وعددُ الطواف بالكعبة وبين الصفا والمروة، وبيانُ ما لا يلبسه المحرم والمحرمة، وبيانُ المواقيت المكانية، ورميُ الجمرات الثلاث، وعدد الحصى التي تُرمى بها كل جمرة، وطوافُ الوداع، وتفسير الفدية التي جاءت مجملة في القرآن: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ [البقرة: 196]، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد صومُ ثلاثة أيام، أو صدقةٌ على ستة مساكين، أو ذبحُ شاة.

أيها المسلمون، يجب على المسلم أن يرجع فيما يُشكِل عليه إلى أهل العلم، ليبينوا له الأحكام الشرعية؛ قال الله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، وعلى من يريد الحج أو العمرة أن يتفقه في أحكام الحج والعمرة سؤال أهل العلم، وقراءة بعض الكتب الفقهية المختصرة؛ وفي الحديث: ((من يُرِدِ الله به خيرًا، يُفقِّهه في الدين)).

أيها المسلمون، من الأحكام المهمة في الحج والعمرة ما يلي:
لا يجوز للمحرِم أن يستعمل صابونًا فيه رائحةٌ عطريةٌ في الاغتسال وغسل الثياب، ولا يستعمل مُزِيل العرَق المعطَّر، ولا المناديل المعطَّرة، سواءً كانت مُبلَّلة أو جافة، ولا بأس بالمناديل التي ليست معطَّرة، وإن كانت رائحتها طيبةً بغير عطر.

يُكره للمحرم بالحج أو العمرة تمشيط شعره، ويحرم عليه إذا جزم بتساقط بعض الشعر بسبب امتشاطه، سواء كان رجلًا أو امرأة.

يُشترط لصحة الطواف والسعي أن يكون كل منهما سبعة أشواط، فإن أنقص الطائف والساعي شوطًا واحدًا، لم يصح طوافه ولا سعيه حتى يأتي به، ومن شكَّ أثناء الطواف أو السعي في عدد الأشواط، بنى على اليقين، وهو الأقل.

إذا أُقِيمت الصلاة وهو يطوف أو يسعى، فعليه أن يدخل في صلاة الجماعة، ثم يبني طوافه وسعيه من حيث وقف.

مكةُ المكرمة بجميع حدودها حرمٌ لا يجوز الصيدُ فيه، ويَحرُمُ أيضًا قطعُ شجرِ الحرم المكي وشوكِه ونباتِه، الذي لا يستنبته الناس، ويجوز قطعُ ما يزرعه الناس من الزروع والرياحين وغيرها، ويحرم أيضًا صيدُ المدينةِ النبوية، ولا يجوز قطعُ شجرها إلا بقدر الحاجة.

المسلمون يطوفون بالكعبة عبادةً لله سبحانه الذي أمرهم بالطواف بها، لا عبادة للكعبة، وهم يُعظِّمون الكعبة المشرفة؛ لأن الله عظَّمها وشرَّفها، وشرع لهم تعظيمها والصلاة عندها، وأمرهم باستقبالها في صلاتهم، ودعاءُ الكعبةِ شركٌ أكبر، ولا يجوز سؤال الله بها، ولا التوسلُ بشيء من المخلوقات، وقد أمرنا الله بدعائه وحده لا شريك له، وأن نتوسل إليه بأسمائه الحسنى.

يُستحَبُّ التطوع بالطواف في أي وقت ولو في غير الحج والعمرة، ولا يُشرع التطوع بالسعي بين الصفا والمروة، وإنما يُشرع السعيُ في العمرة أو الحج.

يستحب الشربُ من ماء زمزم، ولا بأس بالوضوء منه، والاغتسالُ للشفاء؛ فإنه ماء مبارك، ويستحب الدعاء عند شربه بما شاء العبد من الخير.

يُستحب استلام الحجر الأسود باليد وتقبيله؛ تعبُّدًا لله سبحانه بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في استلامه وتقبيله، وفي استلامه وتقبيله أجرٌ وفضلٌ لمن تيسر له ذلك، والحجر الأسود لا يضر ولا ينفع، ولا تُطلَب منه البركة، ولا يجوز الطوافُ بغير الكعبة.

من سنن الطواف الاضطباعُ؛ وهو أن يجعل الرجل وسط ردائه داخل إبطه الأيمن، وطرفيه على كتفه اليسرى، ويكشف مَنْكِبَه الأيمن، ومن أخطاءِ بعضِ الحُجَّاج والمعتمرين الاضطباع عند الإحرام في الميقات، أو عند صلاة ركعتي الطواف، أو في السعي بين الصفا والمروة، وبعض الحجاج يبقى مضطبِعًا في مِنًى وعرفة ومزدلفة، وإنما الاضطباع خاص بطواف القدوم، أو طواف العمرة فقط، ثم يُغطي منكبيه بعد الطواف.

ومن أخطاءِ بعضِ الحجاجِ والمعتمرين: التلبيةُ الجماعيةُ بصوت واحد، والمشروع أن يُلبِّيَ كلُّ إنسانٍ بمفرده.

ومن الأخطاء: الدعاءُ والذِّكر الجماعي حال الطواف والسعي أو عند الوقوف بعرفة، وفي ذلك تشويش على الآخرين، والمشروع أن يدعو المسلمُ ربه، ويذكره بمفرده من غير رفع صوت؛ قال الله تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأعراف: 55]، وقال سبحانه: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ [الأعراف: 205]، وقال سبحانه مُثنيًا على نبيه زكريا: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴾ [مريم: 3]، وبعض الحجاج والمعتمرين يقرأ أدعية خاصة بكل شوط، ولم يثبت في السنة النبوية أدعيةٌ خاصةٌ بكل شوط، بل يدعو الله في طوافه وسعيه بما شاء من خير الدنيا والآخرة، ولا يوجد دعاءٌ خاصٌّ بالوقوف بعرفة، ولا بالمبيت بمزدلفة، ولا بالمبيت بمنى، ولا تحت ميزاب الكعبة ولا أمام بابها.

ومن الأخطاء: التمسُّح بجدران الكعبة، أو كسوتها، أو مقام إبراهيم، وغير ذلك من أجزاء المسجد الحرام، أو المسجد النبوي، بنية التعبُّد لله أو التبرُّك، ولا حرج أن يمس جدار الكعبة بلا تعبُّد ولا تبرُّك، إلا أن يكون في جدارها طِيبٌ فلا يمسها إن كان محرمًا، فإن مسَّها وعلِق بيده شيءٌ من طِيبها، فليبادر بإزالته.

ومن الأخطاء: الصعود إلى غار جبل حراء، وغارِ جبل ثور في مكة المكرمة، وجبل أُحُد في المدينة النبوية بنية التعبُّد لله أو التبرك.

ومن الأخطاء: تقبيل الركن اليماني، وإنما المشروع تقبيل الحجر الأسود فقط إن تيسر ذلك، أما الركن اليماني فقد مسحه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ومن اقتدى فقد اهتدى.

ومن الأخطاء: رمي الجمرات بالنِّعال ونحوها، وسبُّ الشيطان عند الرمي، والمشروع رميها بالحصى مع التكبير، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، ومن حكمةِ مشروعيةِ رميِ الجمرات: إقامةُ ذكر الله بالتكبير، والاقتداءُ بالنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، وتذكُّرُ ما وقع لإبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لما أتى إبراهيم عليه السلام المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له في الجمرة الثالثة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض))، وفي رمي الجمرات ترغيمٌ للشيطان الرجيم، وإغاظةٌ له حينما يرى المسلمون يرجمون المكان الذي اعترض فيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفي الرمي إشارة إلى عداوة الشيطان للإنسان، وأن المسلم مأمور بإظهار عداوته، فالرمي عبادة وشعيرة من شعائر الحج العظيمة.

ومن أخطاءِ بعضِ الحجاجِ والمعتمرين: الانشغال بالمكالمات الهاتفية بلا حاجة أثناء أداء المناسك، والانشغال بالتصوير حال أداء العمرة والحج عن الذكر والدعاء، وربما كان التصوير سببًا للرياء.

ومن الأخطاء في الحج والعمرة: تبرُّجُ بعضِ النساءِ بزينتهن، وإطلاقُ بعض الرجال النظر، والواجب على المعتمر والحاج أن يحرص على التقوى والبعد عن المعاصي؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)).

أيها المسلمون، يُستحَبُّ زيارة المسجد النبوي للصلاة فيه قبل الحج أو بعده، ولا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجدِ الحرام، والمسجدِ النبوي، والمسجدِ الأقصى، وزيارةُ المسجد النبوي لا تتعلق بالحج، فمن حجَّ ولم يذهب إلى المسجد النبوي فلا إثم عليه، وينبغي للحاج والمعتمر أن يحرص على السفر إلى المدينة النبوية للصلاة في المسجد النبوي الشريف، فقد ثبت أن الصلاة في المسجد النبوي خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وأن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، ويُستحب أن يصلي في الروضة التي بين مكان منبر النبي صلى الله عليه وسلم وحجرته التي فيها قبره عليه الصلاة والسلام، ويُستحب أن يزور قبر النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويُسلِّم عليه بقوله: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ثم يسلم على أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولا يُكرِّر السلام، وليحذر أشدَّ الحذر من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام أو أحدًا من الخلق؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18]، وفي الحديث الصحيح: ((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ))، ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، ومن دعا نبيًّا، أو مَلَكًا، أو رجلًا صالحًا فيما لا يقدر عليه إلا الله، واستغاث به، فقد عبده مع الله، ووقع في الشرك المحبطِ للأعمال الصالحة؛ قال الله تعالى: ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 65، 66]، فلا يستحقُّ الاستغاثة به والالتجاء إليه إلا الله وحده الذي يسمع الدعاء، ويُجيب المضطرَّ إذا شاء، وهو القادر القدير، الفعَّال لما يريد؛ قال الله سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 5، 6].

أيها المسلمون، ويستحب لمن كان في المدينة النبوية أن يزور مقبرة البقيع ومقبرة شهداء أُحُد، ويُسلِّم عليهم ويدعو لهم، ويصلي في مسجد قباء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي فيه.

اللهم بلِّغنا حجَّ بيتك، ويسِّرْ لمن لم يحجَّ أداءَ فريضةِ الحج والعمرة بفضلِك، اللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم فقِّهنا في دينك، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، وتوفَّنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم ارزقنا طاعتك وطاعة رسولك صلى الله عليه وسلم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونستغفر الله من الذنوب والسيئات، اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم، اللهم وفِّق الحجاج لأداء المناسك، ويسِّر لهم الخير برحمتك، وردَّهم سالمين غانمين، مغفورًا لهم تائبين.

عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد، وعلى أهل بيته وأزواجه وذريته، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، واجعلنا من الذين اتبعوهم بإحسان، برحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.