بسم الله الرحمن الرحيم هذا بحثٌ موجز مُيسر يبين للقارئ بداية تسلل الفكر الليبرالي العلماني إلى البلاد الإسلامية ، ويكشف أبرز الشخصيات التي اعتنقته ، وساهمت في نشره ، وهو يقتصر على البلاد المصرية بسبب أنها البوابة التي تنتقل منها الأفكار والتجارب الغربية إلى بقية دول العالم الإسلامي ؛ كما في التمثيل ، والمسرح ، والصحافة .. الخ . وهذا المبحث منقول بتصرف يسير من كتاب الدكتور بسام البطوش " الفكر الاجتماعي في مصر " ( ص 93-184) ؛ أنقله هنا ليعرف من خلاله القارئ كيفية التسلل الليبرالي ، وسيكتشف عند قراءته أن الأساليب التي استخدمها أتباع الغرب من الليبراليين المصريين هي نفسها ما يستخدمه الآن أشباههم في بلاد أخرى ؛ ومنها " المملكة العربية السعودية " حرسها الله ، وأدام عليها نعمة الإيمان والأمن ، والله الهادي .
كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي ؟
1-مفهوم الليبرالية:
مصطلح الليبرالية مذهب ينادي بالحرية الكاملة، وفي ميادين الحياة المختلفة، لاتقيدها أحكام الدين . والليبرالية كغيرها من المذاهب السياسية والاجتماعية تعدّ نمطاً فكرياً عاماً، ومنظومة متشابكة من المعتقدات والقيم، تشكلت عبر قرون عدة، منذ القرن السابع عشر[1].
وقد ساهم عدد كبير من المفكرين في صياغة الفلسفة الليبرالية كان من أبرزهم، جون لوك (1632-1704م)، وآدم سميث (1723-1790م) وجيرمي بنثام (1748-1832م)، وجون ستيوارت مل (1806-1873م)، وجان فرانسوا فولتير (1694-1778م)، وجان جاك روسو (1712-1778م) وأليكسيس دي توكفيل (1805-1859م) وغيرهم.
وفكرة الليبرالية الأساسية في الاقتصاد هي الحرية الاقتصادية، بمعنى عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، أو أن يكون تدخلاً محدوداً وعلى أضيق نطاق، فواجبات الدولة محدودة، يجب أن لا تتجاوزه[2].
والطبيعة – كما يقولون - تحترم الحرية، فمن الطبيعي أن يتمتع الإنسان بحريته الكاملة في النشاط الاقتصادي، وفقاً لما سُمي "المذهب الطبيعي"؛ فسعادة البشر وفق هذا المذهب تتحقق من خلال سعي كل فرد لتحقيق مصلحته الذاتية. وتم التعبير عن هذا المضمون بشعار "دعه يعمل، دعه يمر" وقد نظر آدم سميث بوضوح لهذه الفكرة في كتابه "ثروة الأمم" الصادر (1776م).
كما تصدى دافيد ريكاردو لشرحها في كتابه "الاقتصاد السياسي" الصادر (1817م) [3].
وتعود جذورالليبرالية – أيضًا - إلى أفكار جون لوك، الذي يؤكد على فكرة "القانون الطبيعي"، ووفقاً لهذه الفكرة فإن للأفراد بحكم كونهم بشراً حقوقاً طبيعية غير قابلة للتصرف فيها، كحرية الفكر وحرية التعبير، والاجتماع، والملكية[4].
وقد شكلت هذه الفكرة إلهاماً للثورات الكبرى في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كالثورة الإنجليزية (1688م)، والأمريكية (1773م)، والفرنسية (1789م)، وما نتج عنها من نظم سياسية ليبرالية تبلورت معالمها في القرن التاسع عشر بوضوح أكبر[5].
وتعد أفكار المدرسة النفعية، وعلى وجه الخصوص أفكار جيرمي بنتام (1748-1832م) مصدرًا رئيسًا للفكر الليبرالي، وقد عبر عنها بوضوح في كتابه "نبذة عن الحكم" الصادر (1776م)، والفكرة النفعية ترسي قواعد القانون والدولة والحرية على أساس نفعي؛ فالحياة يسودها "سيدان" هما الألم واللذة؛ فهما وحدهما اللذان يحددان ما يتعين فعله أو عدم فعله، فليترك الفرد حراً في تقرير مصلحته بداع من أنانيته، وسعياً وراء اللذة، واجتناباً للألم.
والمحصلة هي حياة اجتماعية أكثر سعادة[6]، وفقاً لمبدأ "أعظم سعادة لأكبر عدد"، كمبدأ أخلاقي جديد للتمييز بين الخير والشر[7].
وتؤمن الليبرالية بجملة قيم أسياسية، تأتي "الحرية" في مقدمتها، حتى أنها اكتسبت اسمها من هذه القيمة، وحتى أن البعض رأى "أن الموقف الليبرالي هو التعبير الطبيعي عن الإيمان بالحرية[8]؛ فالهدف الأساس للمذهب الليبرالي هو ضمان الحرية أو التحرر، وغياب القيود والموانع المعيقة لحركة الإنسان ونشاطه، على أساس أنها تتعلق بممارسة الإنسان لحقوقه الطبيعية[9].
وآمن المذهب الليبرالي بقيمة هامة وأساسية بالنسبة لبنائه الفكري، وهي الفردية، فالفرد –هنا- هو الأساس، وواجب الدولة والمجتمع حماية استقلاله، وتسهيل سعيه لتحقيق ذاته، وإتاحة المجال أمامه للاختيار الحر[10].
وأعلت الليبرالية كثيراً من قيمة الملكية كأحد الحقوق الطبيعية للفرد، يتوجب صونها من كل تعدٍ أو جور[11]، وتحدثت الليبرالية عن المساواة بأشكالها السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية، وفي الحراك الاجتماعي[12].
أما فيما يتعلق بالصلة بين الليبرالية والديمقراطية، فإنه يمكن القول بأن الليبرالية تمثل الفلسفة الاجتماعية أو منهج التفكير أو النسق الفكري العام.
في حين أن الديمقراطية أنسب ما تكون لوصف نظام الحكم أو طريقة ممارسة السلطة السياسية. وقد بدأت الليبرالية أرستقراطية ثم أصبحت ذات صيغة شعبية بفعل كفاح الشعوب تعترف للجميع بالحقوق نفسه[13].
2-منافذ الفكر الليبرالي إلى مصر:
أ-الحملة الفرنسية على مصر 1789-1801م:
شكلت الحملة الفرنسية على مصر صدمة ثقافية وفكرية لمصر، وفتحت عيون المصريين على عالم جديد، وساهمت في تعريفهم بالفارق الحضاري الذي يفصلهم عن أوروبا.
فقد رافق نابليون في حملته هذه جمع من العلماء في تخصصات مختلفة. كما أدخل معه مطبعتين إحداهما عربية والأخرى فرنسية، وأنشأ الدواوين، وأنشأ مرصداً ومتحفاً ومختبراً ومسرحاً ومجمعاً علمياً. غير أن قصر الفترة التي مكثها الفرنسيون في مصر، إضافة إلى عدم استقرار الأوضاع لهم كما يشتهون، إلى جانب عدم الاندماج الفاعل بينهم وبين الشعب المصري. كل ذلك قلل من حجم الاستفادة المصرية من ثمرات التقدم الأوروبي التي جلبتها الحملة معه[14].
وقد دار جدل واسع بين الباحثين حول تقويم أثر الحملة الفرنسية التنويري، ومحصلة هذا الجدل كانت حول حجم ومدى التحولات الناجمة عن الحملة، لا حول وجودها من عدمه[15].
وفي كل الأحوال لابد من الحذر من الانسياق خلف مقولات تخدم الادعاءات حول دور تنويري للاحتلال الأجنبي.
ب-الخبراء الأجانب في مصر، والبعثات العلمية إلى أوروبا:
وتوثقت صلات مصر بأوروبا في عهد محمد علي، إذ اعتمد في تجربته الرائدة في بناء دولة مصرية حديثة على عدد من الخبراء الأجانب من الإيطاليين والفرنسيين.
كما اعتمد سياسة إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، فكانت هذه البعثات من العوامل الهامة في الانفتاح على الغرب وثقافته.
وقد بدأت حركة الابتعاث عام 1813م، بإرسال مجموعة من الطلبة المصريين إلى إيطاليا لدراسة الفنون العسكرية وبناء السفن، وتعلم الهندسة، ومنذ العام 1826م، بدأت حركة الابتعاث إلى فرنسا، وخلال الفترة 1813-1847م، تم إيفاد 339 مبعوثاً إلى أوروبا، وتواصلت سياسة الابتعاث طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين[16].
وبعد عودتهم عملوا في حقول التعليم والجيش والأعمال الهندسية والطب والترجمة. وكان دورهم واضحاً في تشكيل البيئة المناسبة لغرس أفكار التحديث الأوروبية[17].
ج-حركة الترجمة:
وشكلت حركة الترجمة أحد أهم منافذ الفكر الأوروبي إلى مصر، وقد بدأت في عهد محمد علي الذي أولاها رعاية خاصة، اقتناعاً منه بضرورتها للإطلاع على منجزات العلم الأوروبي، وكان تركيزه منصباً على الكتب العلمية، واعتمد في البداية على عدد من المترجمين الأوروبيين، ثم على الطلبة المصريين العائدين من البعثات العلمية.
ثم أنشأ دار الألسن عام 1835م لإعداد المترجمين، وتوسّعت حركة الترجمة لتشمل ميادين ثقافية وعلمية مختلفة، كالعلوم الرياضية، والعلوم الطبية، والطبيعية، والمواد الاجتماعية، والأدبية، والقوانين الفرنسية[18].
وبرز في ميدان الترجمة إضافة إلى رفاعه الطهطاوي (1801-1873م)، كل من أحمد عثمان (1829-1898م) الذي قدّم إلى المكتبة العربية عدة ترجمات لكتابات أدبية فرنسية، وأحمد فتحي زغلول[19] (1863-1914م)، وقد اهتم بترجمة كتابات سياسية واجتماعية أوروبية ذات توجهات ليبرالية واضحة، لا شك أنها قد أسهمت في تعريف المصريين بالفكر الليبرالي الغربي.
وكان يقدم لها بمقدمة يوضح فيها تعاطفه مع المبادئ والأفكار الليبرالية المبثوثة فيها، ويدعو القراء للإفادة منها، وكان من أبرزها "أصول الشرائع" لبنتام ونشرت الترجمة عام 1892م، وكتاب "سر تقدم الإنجليز السكسونيين"[20] لصاحبه إدمون ديمولان ونشرت الترجمة عام 1899م، وكتاب "روح الاجتماع" لجوستاف لوبون ونُشرت الترجمة عام 1909م، وكتاب "سر تطور الأمم" لجوستاف لوبون أيضاً، ونُشرت الترجمة عام 1913م. وكتاب روسو "العقد الاجتماعي"[21].
وتواصلت حركة الترجمة في مصر لتشكل نافذة تطل منها مصر ومعها العالم العربي على الغرب وثقافته وتياراته الفكرية على تنوعه[22]، واتخذت مكانة هامة في نظر دعاة الليبرالية كمرحلة لابد منها لخلق بيئة ثقافية وفكرية مناسبة تمهد لولوج مرحلة التأليف تالياً.
وقد دافع أحمد لطفي السيد، ود. محمد حسين هيكل، وغير واحد من رموز التيار الليبرالي، عن أن هذا العصر عصر ترجمة لا عصر تأليف بالنسبة لمصر[23].
د-الطباعة والصحافة:
ولا شك أن تطور الطباعة[24] في مصر كان حجر الزاوية في النشاط الثقافي وخاصة في ميدان الترجمة والنشر، وفي ميدان هام آخر هو ميدان الصحافة.
أما فيما يتعلق بالصحافة، فقد عرفت مصر نشاطاً صحفياً مميزاً منذ صدور "الوقائع المصرية" 1828م، فقد صدر عدد كبير من الصحف والمجلات طوال القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين وصولاً إلى فترة الدراسة[25].
ولا شك أن بعض الصحف والمجلات أدت دوراً بارزاً في التعريف بالفكر الأوروبي، كان في مقدمتها مجلة "المقتطف"[26]، ومجلة "الهلال"[27]، ومجلة "الجامعة العثمانية"[28].
ساهمت هذه المجلات في التعريف بالمذاهب الفكرية والفلسفية والأدبية والعلمية، وسائر ضروب الثقافة الغربية[29]، وعدّها إسماعيل مظهر صاحبة الفضل الأكبر في تطور الفكر العلمي في مصر، بل وعدّها نقطة التحول الأساسية في الفكر المصري الحديث[30].
وتبرز جريدة "الجريدة" الصادرة عام 1907م، بوصفها حاملة لراية الدعوة للفكر الليبرالي. وهي لسان حال حزب الأمة ذي التوجهات الليبرالية المعروفة، وترأس تحريرها أحمد لطفي السيد "فيلسوف" التيار الليبرالي المصري ومنظّره. وعلى صفحاتها برزت أسماء عدد من أكبر رموز التيار الليبرالي كطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وعباس محمود العقاد، ومحمود عزمي، ومحمد عبدالقادر المازني، والشيخ مصطفى عبدالرازق[31].
ثم حملت الراية جريدة "السفور" الصادرة عام 1915م، وقد شكّلت حلقة وصل بين "الجريدة، و"السياسة" الصادرة عام 1922م لسان حال لحزب الأحرار الدستوريين، ورصيفتها "السياسة الأسبوعية" الصادرة عام 1926م، وتولى رئاسة تحريرها د. محمد حسنين هيكل.
3-أبرز مفكري التيار الليبرالي في مصر:
ساهمت جهود مشتركة وعبر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، في تهيئة البيئة المناسبة لتشكيل تيار فكري يتبنى الدعوة للفكر الليبرالي، وتوطينه في البيئة الفكرية المصرية.
- وتبرز جهود الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي[32] (1801-1873م)، ذات أهمية في المساهمة في تعريف القارئ المصري على اتجاهات الفكر الاجتماعي والسياسي في فرنسا، فقد نشر عدداً من الكتب، كان من أبرزها "تخليص الأبريز في تلخيص باريز، أو الديوان النفيس بإيوان باريز" عام 1834م، قدّم فيه فكرة عن الحياة في باريس، وعن الثقافة والعادات والتقاليد والقيم الفرنسية، واعتبره البعض بمثابة حجر الأساس في الفكر الاجتماعي والسياسي المصري، خلال القرن التاسع عشر[33]، كما أصدر في أواخر حياته كتاباً هاماً يمثل النضوج الفكري للطهطاوي، وهو "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" عام 1869، كما ترجم الدستور الفرنسي الذي سماه الشرطة الصادر عام 1814م، ووثيقة حقوق الإنسان، وكتاب "روح القوانين" لمونتسكيو، و"العقد الاجتماعي" لروسو، وغيرها من الكتب، التي تبشر بالقيم والمبادئ الليبرالية[34].
كما قدم لقرائه فكرة عن الدولة العلمانية، ومفهوم الدستور والقانون، وأنماط الحياة الاجتماعية، ومكانة المرأة في المجتمع الفرنسي، وأبدى إعجاباً بالمبادئ الدستورية، ومبادئ حقوق الإنسان، وفقاً للمنظور الغربي، والرابطة الوطنية والتسامح الديني، فقد اجتهد في تقريب صورة الغرب الأوروبي للعقل المصري، ومما لا شك فيه أنه قد شق الطريق أمام بروز التيار الليبرالي في الفكر المصري الحديث[35]، فقد عده بعضهم مؤسس الليبرالية المصرية[36].
- وقد واصل علي مبارك[37] (1823-1893م) متابعة جهود الطهطاوي في حقول الترجمة والتعليم.
وقد ساهم في بروز ما عُرف بالتعليم العلماني أو المدني الحديث الموازي للتعليم الديني الأزهري[38]، وقد أسهم في تعريف المصريين على جوانب جديدة من الحياة في الغرب في روايته "علم الدين"[39]، التي كتبها حوالي سنة 1858م.
- وبعيداً عن التصنيفات القطعية في تحديد الهوية الفكرية لهذا المفكر أو ذاك، فإن جمال الدين الأفغاني[40] (1839-1897م) قام بدور ليبرالي هام خلال فترة مكوثه في القاهرة (1871-1879).
ولا شك أنه ساهم في تهيئة المناخ الفكري الملائم للأفكار التحررية، فقد تبنى الدعوة إلى الحرية، والأفكار الدستورية، والإفادة من منجزات الغرب والتواصل معه، ومكافحة الاستعمار والاستبداد والظلم[41].
وتشكل من حوله جيل من التلامذة والمعجبين[42]، قادوا الحركة الفكرية في مصر، وتزعموا مايسمونه حركة الإصلاح هم وتلامذتهم من بعدهم.
- والشيخ محمد عبده[43] (1849-1905م) يأتي في مقدمة تلامذة الأفغاني وتأتي أهميته في سياق الحديث عن الفكر الليبرالي في مصر، من كونه يمثل مدرسة عصرانية تدعو – كما تزعم - إلى التوفيق بين الإسلام وبين حركة المدنية الحديثة[44]، فكان دوره حاسماً في حركة الثقافة المنفتحة على الغرب وعلومه، ، وهو رائد المنهج العصراني[45] .
لكنه لا يحبذ – مؤقتًا - ترك المجال للاتجاهات العلمانية الصرفة لتسود كل شيء[46].
لكن غالب تلامذته اتجهوا نحو ليبرالية علمانية وفق تطور تدريجي في أعقاب وفاة شيخهم[47]، وشرعت هذه الفئة في نشر مبادئ مجتمع علماني يدعي احترام الإسلام، لكن دون أن يجعله أساساً للحياة الاجتماعية[48] !!
- وقبل مواصلة الحديث عن تلامذة محمد عبده الذين ساروا في الخط الليبرالي، لابد من الإشارة إلى الدور الهام الذي قام به عبدالرحمن الكواكبي[49] (1848-1902م) في صياغة الفكر العربي الحديث، وإسهامه بالذات في محاربة الاستبداد، وكشف مخاطره وعواقبه، واعتباره السبب الرئيس المسؤول عن واقع التخلف الذي تعانيه الأمة.
وقد دافع عن الحرية، والعدالة والمساواة، من منظورمنفتح على التجربة الإنسانية، ولا شك أن هذه الأفكار تشكل جذراً أساسياً في دعم الفكر التحرري الليبرالي.
- ويُعد قاسم أمين[50] أحد أبرز تلامذة محمد عبده الذين جنحوا تدريجياً في مجاراة تيار التغريب، وإن كان اسمه قد اقترن بالدعوة إلى "تحرير المرأة"، فإن جهده الفكري قد اعتبر أحد الروافد الهامة التي صبت في التيار الليبرالي العام.
- ويأتي أحمد لطفي السيد[51] (1872-1963م) لينطلق بعيداً بالفكر الليبرالي في مصر عن النهج التوفيقي لمحمد عبده.
فقد استبعد الإسلام كتشريع وكمرجعية من مشروعه الفكري، وأخذ به كجانب خُلقي وكمرحلة تاريخية من مراحل تكوين الشخصية المصرية[52]، وأبدى إعجاباً شديداً بالفلسفة اليونانية، فعمد إلى ترجمة بعض مؤلفات أرسطو الذي كان من فرط إعجابه به يدعوه "سيدنا أرسطو رضي الله عنه"[53] !!
واعتبره جيل من الشباب المثقف، أستاذاً لهم، فأسموه "أستاذ الجيل"، ذاك الجيل الذي تتلمذ على يديه في "الجريدة" وفي "الجامعة المصرية"[54]، وتلقفوا أفكاره الليبرالية بكثير من الإعجاب والمتابعة[55].
ويكفي أن نعرف أن لطفي السيد هو الذي اشتق التسمية المناسبة برأيه للدلالة على "الليبرالية"، فأطلق عليها اسم "مذهب الحريين" وفضلها على تسميتها بمذهب "الحرية" أو مذهب "الأحرار"، وكان يسميه مذهب "اللبراليزم" أي مذهب أهل السماح. ونادى بجعل هذا المذهب أساساً للنظام السياسي والاجتماعي، ولكل علاقة بين الفرد والمجتمع، أو بين الفرد والحكومة[56].
كما اقترح تسمية حزب الأحرار الدستوريين عند تأسيسه باسم حزب "الحريين الدستوريين"[57].
وإذا كان الإمام محمد عبده يدعم نهجه الإصلاحي التوفيقي بـ"الفكرة" و "الموقف"، من خلال العمل في المؤسسات، فإن لطفي السيد ومعه جيل جديد من الليبراليين مارسوا تعزيز النهج التحديثي الليبرالي، عبر "الفكرة" بالجهد الفكري والثقافي، وعبر "الموقف" بالمشاركة في أجهزة الدولة، كتولي الوزارة، ورئاسة الجامعة وغيرها من مؤسسات التوجيه.
- ويظهر د. منصور فهمي (1886-1958م) [58]؛ كأحد أبرز رموز التيار الليبرالي. تلقى تعليمه العالي في باريس، وناقش في عام 1913م أطروحة الدكتوراه بعنوان "حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها"، وهي أول رسالة قدمها مصري في علم الاجتماع.
وقد أشرف عليها المستشرق اليهودي ليفي بريل[59] (1857-1939م)، وتضمنت نقداً لاذعاً لأحوال المرأة في المجتمع الإسلامي، بل ولموقف الإسلام من المرأة، ونهج فيها منهج النقد التاريخي، المتحرر من الالتزام بقدسية الوحي، ومفسراً نصوص القرآن الكريم، والحديث الشريف، وسلوك الرسول عليه السلام وفقاً لمناهج المستشرقين.
وعندما عاد إلى مصر، عمل مدرساً في الجامعة المصرية، لكنه أُخرج منها عندما نشرت الصحف مقتطفات من أطروحته التي كتبها بالفرنسية، ولم يحاول إطلاقاً إعادة نشرها بالعربية، وكان عضواً في "جماعة السفور"، وفي الحزب الديمقراطي المصري، وأحد أبرز كتّاب "السياسة".
لكن منصور فهمي أعاد النظر في كثير من قناعاته الفكرية، فعاد ليبدي تفهماً لحقائق الإسلام بعيداً عن المفاهيم الاستشراقية التي خيمت على فكره في بواكير الشباب، وراح يعبر عن هذا الموقف منذ نهاية عقد العشرينيات، عبر مقالاته الصحفية، ونشاطه الفكري العام[60].
- ولا يمكن استكمال صورة الفكر الليبرالي في مصر دون التوقف مطولاً مع تجربة د. محمد حسين هيكل[61] (1888-1956م)، فقد تتلمذ في السياسة والفكر على لطفي السيد، وفي باريس انفتح على الثقافة الأوروبية بكل تجلياتها، وأبدى إعجاباً بها وحماساً كبيراً نحوه[62]، وساهم في صياغة الفكر الليبرالي في مصر عبر ترجماته المتعددة في الأدب الفرنسي خاصة لأناتول فرانس[63]، وعبر مؤلفاته، وكان من أهمها "جان جاك روسو: حياته وأدبه" (1921-1923م). وإن كان جهده الفكري والثقافي الأبرز في رئاسة تحرير "السياسة"، أبرز منابر الفكر الليبرالي في مصر خلال هذه المرحلة[64].
وإذا كان د. هيكل من أجرأ من عبّر عن أفكاره التحديثية الليبرالية، فإنه أيضاً تمتع بقدر عالٍ من الجرأة في التعبير عن مراجعات فكرية عميقة وجذرية إلى حد ما، في مرحلة العودة إلى الإسلام أو إلى "التوفيقية"[65] في عقد الثلاثينيات، لقد استفزته الهجمة التبشرية على مصر[66]، فتصدى له[67].
وبدأت المقالات الإسلامية تجد سبيلها للنشر على صفحات "السياسة"[68]، وانطلق يؤلف في الدراسات الإسلامية، فأصدر "حياة محمد" (1932-1935م)، و"في منـزل الوحي" 1936م، كما عبر بصراحة عن خيبة أمل عميقة بالحضارة الغربية، وبسياسات الغرب، وبفرص نجاح الثقافة الغربية في البيئة المصرية والعربية[69].
- ويعد د. طه حسين (1889-1973م) [70]، من أبرز دعاة الليبرالية والتحديث في هذه المرحلة، فبعد أن درس في الأزهر (1902-1908م)، غادره إلى الجامعة المصرية، فغادر بذلك ثقافة الأزهر ليتجه في طريق الثقافة الغربية المسيطرة في الجامعة المصرية، ولما انتقل للدراسة في باريس تعمّق التوجه نحو الغرب الثقافي في وجدان طه حسين وعقله.
أبدى اهتماماً بالفكر الاجتماعي منذ أن أعد أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في جامعة السوربون عام 1918م، بعنوان "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية" بإشراف عالم الاجتماع اليهودي إميل دور كهايم[71] (1858-1917م)، كما أبدى اهتماماً بالفلسفة اليونانية، والفلسفة والفكر الأوروبيين الحديثين. وارتبط بصداقة فكرية وسياسية حميمة مع أحمد لطفي السيد، كما ارتبط بحزب الأحرار الدستوريين، ثم تحول في مطلع الثلاثينيات نحو الوفد[72].
سخّر طه حسين كل جهوده الفكرية والأدبية والأكاديمية والسياسية، لخدمة الفكر الليبرالي الغربي الذي آمن به، ووقف حياته للدعوة للمفاهيم والقيم الليبرالية، وانخرط طويلاً في معركة "القديم والجديد"[73].
وكثيراً ما لجأ إلى الاستفزاز والإثارة، عندما كان يعمد إلى مصادمة الناس في معتقداتهم الدينية، كما فعل في كتابه "في الشعر الجاهلي"، وظلت تطارده تهمة تقديم "دراسات إلحادية" لطلبته في الجامعة، وتسببت في إخراجه من الجامعة عام 1931م[74]، لكنه ساهم في الحملة على النشاط التبشيري في مصر[75].
وأصدر في ديسمبر 1033م كتابه على "هامش السيرة"، وقد أتى متزامناً مع دراسات هيكل في السيرة.
لكن طه حسين لم يظهر شيئاً من المراجعة الفكرية كهيكل، ويصرح بأن هذه الدراسة تأتي في إطار تقديم الدراسات الأدبية الترفيهية، التي تقرّب صورة الأدب العربي القديم للشباب، وتقدم ترفيهاً للنفوس المتعبة؛ فيقول:
"وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل، وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمي، فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم خيالهم وميلهم إلى السذاجة، واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها، ما يحبب إليهم هذه الأخبار ويرغبهم فيها، إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس حين تشق عليهم الحياة، وفرق عظيم بين من يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يقرها العلم وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يقدمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخبر، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش"[76].
كما أنه نشر في الفترة نفسها كتابة "من بعيد" وهو عبارة عن مجموعة مقالات كتبها خلال أعوام (1923-1930م)، وصدرت الطبعة الأولى منه عام 1935م، وهو لا يشير إلى أي تحول فكري عن الخط السابق.
ثم أصدر كتابه الأخطر وهو "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1937م، وهو أوضح تعبير عن مشروع طه حسين الفكري القائم على التغريب، والعلمانية الصرفة[77].
- أما عباس محمود العقاد (1889-1964م) [78]، فقد أسهم بجهد فكري معتبر في دعم الفكر الليبرالي، وفي الدفاع عن توجهات الوفد الفكرية والسياسية، فقد بقي طيلة الفترة (1923-1935م)، يكتب المقال الافتتاحي في الصحافة الوفدية.
فقد آمن العقاد بالديمقراطية الليبرالية، ودافع عن الحرية، وتصدى في هذه المرحلة للفكر الاشتراكي وللشيوعية، ودافع بحرارة عن موقف الوفد الرافض لفكرة الخلافة، ولعقد مؤتمر الخلافة، ولتطلعات الملك فؤاد في هذا الشأن.
كما دافع بقوة عن التوجهات العلمانية للوفد، لكنه اختلف مع الوفد وخرج عليه شعوراً منه بأنه الوفد يساوم على مبادئ الديمقراطية الليبرالية[79]، كما أنه لم يكن من دعاة التغريب.
- ولعله ليس من الممكن ونحن نتحدث عن رموز التيار الليبرالي في مصر تجاهل إسماعيل مظهر (1891-19629) [80]، وهو صاحب فكرة إنشاء "حزب الفلاح" عام 1929م. وهو برنامج ليبرالي بمسوح اجتماعية أو اشتراكية مبهمة، يهدف إلى حل مشاكل الفلاح المصري، تقدم بهذه الفكرة للنحاس باشا "زعيم الأمة"، زعيم الوفد للنهوض بها وتنفيذها، لكن الوفد تجاهل الفكرة[81]. |