الأمة الإسلامية اليوم في محنتها التي تعيشها أحوج ما تحتاج إلى العلماء الربانيين، الذي يعيشون بين الناس يشاركونهم مشاكلهم وحياتهم اليومية، ويؤثرون فيهم، لا ينعزلون عن الناس، بل يتحركون ويبادرون ويغدون ويروحون ويخالطون ويتبسطون ويتحدثون، ويأمرون وينكرون ويتصدون، يشاركون العامة آلامهم وآمالهم، أحزانهم وأفراحهم، أزماتهم ومعاناتهم.
يرشدونهم ويوجهونهم ويكونون قدوة لهم، يجاهرون بالحق ويدافعون عن حقوق الناس، يبذلون الوُسع في الشفاعة لهم، والقيام بقضاياهم، بهذا يصلح حال الأمة، ويكون للعلماء دورهم المؤثر في مجريات الأمور ويملكون دفة القيادة.
إن مشاركة العلماء لهموم ومشاكل العامة وتصديهم لحلها ودفاعهم عن حقوق الناس، تزيد من مكانتهم عندهم، فيتزايد حب القلوب لهم تدريجيا، ويرون فيهم القدوة الصحيحة التي لا مطعن فيها، فيتبعونهم، ويمتثلون أمرهم. كما تزداد هيبتهم عند السلاطين ويخشون غضبتهم؛ لأن في غضبهم غضبا لجماهير الأمة مما يهدد ملكهم؛ فيعملون لهم ألف حساب، ولا يخرجون عن رأيهم فتستقيم أحوال البلاد والعباد.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير البشر والقدوة والسراج المنير، يخالط أصحابه، ويعيش بينهم ينصحهم ويوجههم، يسابق عائشة رضي الله عنها ويزور الناس في بيوتهم، وتأخذ بيديه المرأة العجوز، ويبول الطفل الصغير في حجره الطاهر، يلاعب الصغار ويعتنقهم ويحملهم، ويصلي والصغيرة على عاتقه، ويعلم الناس ويقود الجيوش، ويعمل مع الجند، ويمشي في الأسواق، ويشارك الناس طعامهم. يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: «لقد كان واحدا من البشر يحس إحساسهم, ويتذوق مواجدهم, ويعاني تجاربهم, ويدرك آلامهم وآمالهم, ويعرف نوازعهم وأشواقهم, ويعلم ضروراتهم وأثقالهم، ومن ثم يعطف على ضعفهم ونقصهم, ويرجو في قوتهم واستعلائهم, ويسير بهم خطوة خطوة, وهو يفهم ويقدر بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم؛ لأنه في النهاية واحد منهم, يرتاد بهم الطريق إلى الله, بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق».
كما كان تفاعل العلماء مع العامة أهم ما يميز سلف هذه الأمة، فهذا الزاهد المشهور بشر بن الحارث الحافي رحمه الله، يعدد ثلاث خصال امتاز بها الإمام أحمد بن حنبل، وفضل بها عليه، وقصر هو عنها، أحدها: أنه (نصب إماما للعامة). ووصفوا الأوزاعي بأنه: (كان رجل عامة)، ومثله المحدث الثقة الفقيه أبو إسحق الفزاري، قالوا: كان رجل عامة، وهو الذي أدب أهل الثغور الإسلامية التي في أعالي بلاد الشام والجزيرة تجاه الروم، وعلمهم سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يأمر وينهي، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه، وخالد بن عبد الله الواسطي، أحد المحدثين الثقات من شيوخ البخاري، وصفوه بأنه كان (رجل عامة).
كان هؤلاء العلماء أصحاب فقه عظيم وكانوا دعاة، يعلمون الناس. لم يحملهم علمهم على حصر أنفسهم بين الجدران، بل كانوا ينزلون إلى الجموع، ويقودونها، ومن ثم سادت الأمة الإسلامية العالم، وبسطت نفوذها في كل مكان.
لكن عندما انعزل العلماء عن الناس، وعاشوا بين جدران المكتبات وقاعات المحاضرات والدرس، حدثت الهوة السحيقة بين العلماء والعامة، ولم يجد الناس قدوات صالحة تحركهم، فالتفوا حول نخب فاسدة، وزعامات زائفة، واتخذوا رؤوسا جُهالا، فضاع الحق وتنكبت الأمة طريقها. و من ثم فإن أي نهضة أو إصلاح حقيقي يجب أن يبدأ بالتحام العلماء بالعامة، والتفاف الناس حول علمائهم.
عائشة الغريب