التعويض
أ.د. عبد الحميد النوري عبد الواحد





لقد جرى مصطلح "التعويض" على لسان ابن فارس في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة)، والتعويض عنده "أسلوب من أساليب العربية في الكلام"؛ أي: إن الأمر يتعلَّق باستعمال اللغة العربيَّة، والاستعمال أو الاستعمالات في العربية كثيرة ولا تُحَدُّ، وهي تمسُّ المستويات اللسانية المختلفة: الصوتية والصرفية والتركيبية والمعجمية والدلالية، وهذه الاستعمالات المتنوعة هي من خصائص العربية، وهي مما يَزينها ولا يَشينها، وللتعبير عن هذه الخصائص يَستعمل علماءُ اللغة - ومِن ضمنهم ابن فارس - عبارةَ "مِن سنن العرب".

والتعويض - مثلما يشي به لفظُه - تعويضُ شيءٍ بشيءٍ، أو هو "إقامة كلمة مقام أخرى"، والكلمات بطبيعة الحال دالَّة، ودَلالاتها قد تختلف في حالة الإفراد عما عليه في حالة التركيب. فكلمة "ضَرَبَ" مثلًا لها دلالة لا محالة، وتتمثَّل هذه الدلالة في دلالة الضرب المادي، والضرب يكون بين ضارب ومضروبٍ، ويكون باليد أو بالرجل، أو بأيِّ أداةٍ، وأمَّا إذا استعملنا "ضرب" في أمثلة من نحو: "ضربَ في الأرض"، أو "ضربَ الخيمة"، أو "ضربَ المثل" - فإن "ضرب" سوف تكتسب دلالات جديدة يُمليها الاستعمال أو السياقُ.

لهذا السبب فإن تعويضَ كلمة بكلمة، أو إقامة كلمة بكلمة، ليس أمرًا هيِّنًا، وقد يَفسُد أمرُ التركيب، وتَفسُد مِن ثَمَّ المعاني المستفادةُ، وعليه لا بدَّ أن يكون للتعويض مجالاته وحدودُه، أو قوانينُه التي يَسير عليها، ولا يُمكن أن يكون الأمرُ اعتباطيًّا.

ولعلَّ مصطلح التعويض شبيهٌ بمصطلح الاستبدال. permutation، والاستبدال هو أن نستبدل بكلمةٍ كلمةً أخرى، على أن يكون هناك توافقٌ بين الكلمتين؛ وذلك من حيث السمات الدلالية والتركيبية المشتركة، وإن جئنا بأمثلةٍ مِن قبيل "شَرِبَ الماء"، واستبدَلنا بـ"الماء" القهوةَ أو بالدواء، فسنقول "شَرِبَ الدواء" و"شَرِبَ القهوة"، ولا ضيرَ في هذا التركيب، والمعنى واضحٌ ومقبول، وأما إذا عوَّضنا في المثالين التاليين "احتسى القهوة"، أو "احتسى الشاي"، بقولنا: "احتسى الماء"، أو "احتسى الدواء"، فلن يصحَّ هذا، ولن يكون من باب الاستعمال الشائع الذي تقبلُه السليقةُ، والأمرُ في هذه الحالات متعلقٌ بقيود التوارد، وما يتلاءم وخصائص هذه الكلمة أو تلك.

والاستبدال مثل التعويض، كلاهما قائمٌ على التوزيع داخل التركيب، وإن كان التوزيع يخضَع بلا شكٍّ إلى أحكام التركيب والمعاني المستفادة منه، وكلُّها يَحكُمها الاستعمال.

وأمَّا بشأن التعويض، فهو يختلف عن الاستبدال، أو هو استبدال خاصٌّ ومشروط، تتحكَّم فيه القوانين التركيبية، والمعاني المستفادة، فضلًا عن الأبعاد المجازية أو البلاغية، وهو لا يصحُّ في كلِّ الكلمات، أو بالأحرى في كلِّ الصيغ، ذلك أن التعويض في العربية ينحصر فيما نسمِّيه بالصِّيغ الاشتقاقية، وذلك من نحو قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ﴾ [الواقعة: 2]؛ أي: "تكذيب"، أو ﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 10]، بمعنى "مؤلم"، أو ﴿ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 21]؛ أي: "مرضيَّة"، أو "واقْعُدْ فإنَّك أنت الطاعمُ الكاسي"، بمعنى المطعوم والمكسو، ومن هذه الأمثلة وما يُشبهها، نتبيَّن استعمال اسم الفاعل مقام المصدر، والصفة المشبهة أو اسم الفاعل عوض اسم المفعول، والفعل مقام المصدر، والمصدر عوض صيغة الفعل وغيرها.

والشاهد في كلِّ هذا حضورُ المعنى الاشتقاقي، واختلافُ ما يُسمَّى بالمعاني الطارئة، فبين اسم الفاعل واسم المفعول فرقٌ، وبين المصدر والفعل فرقٌ، وقد يصل الفرقُ إلى حدِّ التعارض أو التقابل في المعنى، بيدَ أن الاستعمال في حالات التعويض هذه، يوحي بِخَرْق المعنى، والتحوُّل من المعنى المألوف إلى المعنى الخفِيِّ، وهذا يحتاج - ولا ريب - إلى دِرايةٍ أو فِراسة، ويَظَلُّ الغرضُ من هذا التعويض تقويةَ المعنى، والارتقاءَ به إلى مَصافِّ البلاغة في الفَهم والاستعمال، وهو ليس في متناول كلِّ مُستعملي اللغة.