أثر المعتقد الأشعري في علم أصول الفقه "7"
قال الجويني في البرهان106/1
" الواجب فقد قال قائلون: الواجب الشرعي هو الذي يستحق المكلف العقاب على تركه وهذا بعيد عن مذهب أهل الحق في الثواب والعقاب فإنا لا نرى على الله تعالى استحقاقا والرب تعالى يعذب من يشاء وينعم من يشاء وإن صدر هذا الرسم من المعتزلة فهو يلائم أصلهم ولكنه منقوض عليهم بالصغائر مع اجتناب الكبائر فإن من معتقدهم إنها تقع من فاعلها مكفرة وإن كانت محرمة ويفرض من قبيل المأمورات ما هو كالصغائر من فن المحظورات ثم لا يستحق تارك تلك المأمورات عقابا مع المحافظة على جلة المأمورات وإن كانت واجبا فقد ظهر بطلان هذا الحد "
قال الآمدي في الإحكام 97/1 في حقيقة الوجوب
وَأَمَّا فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ فَقَدْ قِيلَ: " هُوَ مَا يَسْتَحِقُّ تَارِكُهُ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ " وَهُوَ إِنْ أُرِيدَ بِالِاسْتِحْقاق مَا يَسْتَدْعِي مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَبَاطِلٌ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ،
يقول الباقلاني في الإنصاف 74: " ويجب أن يعلم : أن الطاعة ليست بعلة للثواب ولا المعصية علة للعقاب ولا يجب لأحد على الله تعالى ، بل الثواب وما أنعم به على العبد فضل منه ، والعقاب عدل منه ، ويجب على العبد ما أوجبه الله – تعالى – عليه ، ولا موجب ولا واجب على الله "
المعتزلة أوجبوا على الله تعالى أمورا، كالصلاح واللطف.بناء مذهبهم في الحسن والقبح العقليين،
و أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن الله تعالى لا يجب عليه شيء؛ لأنه المالك على الإطلاق، وله التصرف في ملكه كيف يشاء.لكنهم لم ينزهوه عن فعل شيء، بناءً منهم على نفي التحسين والتقبيح العقليين.
وقالوا: إن الوجوب لا يتصور في حقه؛ لأنه المالك المتصرف ولا يسأل عما يفعل، ونسوا أنه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته.
ويبين ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم ص409 موقف السلف في مسألة الوجوب على الله، حيث يقول:
"وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية – أي المعتزلة – وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول. وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا.
ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال: إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرم الظلم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح"
و الأشاعرة في هذا الباب من نفاة التعليل عن أفعال الله هربا من إيجاب شيء على الله فقالوا ليس في القرآن لام التعليل و لا يأمر بشي لحصول محصلة و لا دفع مفسدة بل هي مخلوقة عند الفعل ، لأن التعليل عندهم كالوجوب على الله يستلزم الحاجة للغير
قال الآمدي :
"مذهب أهل الحق أن الباري تعالى خلق العالم وأبدعه لا لغاية يستند الإبداع إليها، ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها، بل كل ما أبدعه من خير وشر ونفع وضر، لم يكن لغرض قاده إليه، ولا لمقصود أوجب الفعل عليه" غاية المرام 224
و أما مذهب أهل السنة و الجماعة كما قال ابن القيم :
"الله سبحانه حكيم، لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا لغير معنى ومصلحة، وحكمته: هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة، لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا" شفاء العليل ص90
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"ولا يكون في ملكه ما لا يريد وله في جميع خلقه حكمة بالغة وهو يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يريده الإرادة الدينية المتضمنة لمحبته ورضاه وإن أراده الإرادة الكونية التي تتناول ما قدره وقضاه ؟ وفروع هذا الأصل كثيرة لا يحتمل هذا الموضع استقصاءها.
ولأجل تجاذب هذا الأصل ووقوع الاشتباه فيه صار الناس فيه إلى التقديرات الثلاثة المذكورة... وكل تقدير قال به طوائف من بني آدم من المسلمين وغير المسلمين.
فالتقدير الأول : هو قول من يقول خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعلة ولا لداع ولا باعث بل فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة.
وهذا قول كثير ممن يثبت القدر وينتسب إلى السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم .
وقد قال بهذا طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول الأشعري وأصحابه وقول كثير من " نفاة القياس في الفقه " الظاهرية كابن حزم وأمثاله .
ومن حجة هؤلاء أنه لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصا بدونها مستكملا بها ؛ فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء أو يكون وجودها أولى به، فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به فيكون مستكملا بها فيكون قبلها ناقصا .
ومن حجتهم ما ذكره السائل من أن العلة إن كانت قديمة وجب تقديم المعلول ؛ لأن العلة الغائية وإن كانت متقدمة على المعلول في العلم والقصد - كما يقال : أول الفكرة آخر العمل وأول البغية آخر الدرك .
ويقال إن العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلا - فلا ريب أنها متأخرة في الوجود عنه ؛ فمن فعل فعلا لمطلوب يطلبه بذلك الفعل كان حصول المطلوب بعد الفعل فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديما كان الفعل قديما بطريق الأولى.
فلو قيل : إنه يفعل لعلة قديمة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة وإن قيل إنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران :
أحدهما : أن يكون محلا للحوادث ؛ فإن العلة إذا كانت منفصلة عنه فإن لم يعد إليه منها حكم امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها وإذا قدر أنه عاد إليه منها حكم كان ذلك حادثا فتقوم به الحوادث .
المحذور الثاني أن ذلك يستلزم التسلسل من وجهين
أحدهما : أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي أيضا مما يحدثه الله تعالى بقدرته ومشيئته فإن كانت لغير علة لزم العبث كما تقدم وإن كانت لعلة عاد التقسيم فيها فإذا كان كل ما أحدثه أحدثه لعلة والعلة مما أحدثه لزم تسلسل الحوادث.
الثاني : أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى فإن كانت مرادة لنفسها امتنع حدوثها لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه وإن كانت مرادة لغيرها فالقول في ذلك الغير كالقول فيها ويلزم التسلسل .
فهذا ونحوه من حجج من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه .
والتقدير الثاني : قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية قديمة .
كما يقول ذلك طوائف من المسلمين كما سيأتي بيانه وكما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة القائلين بقدم العالم، وهؤلاء أصل قولهم أن المبدع للعالم علة تامة تستلزم معلولها لا يجوز أن يتأخر عنها معلولها.
وأعظم حججهم قولهم: إن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود المفعول في الأزل لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها فإنه لو تأخر لم تكن جميع شروط الفعل وجدت في الأزل فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما يستلزم المعلول فإذا قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة وإن لم تكن العلة التامة - التي هي جميع الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضي التام لوجود الفعل وهي جميع شروط الفعل التي يلزم من وجودها وجود الفعل إن لم يكن جميعها في الأزل - فلابد إذا وجد المفعول بعد ذلك من تجدد سبب حادث وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وإذا كان هناك سبب حادث فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول ويلزم التسلسل .
قالوا فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل وإما الترجيح بلا مرجح .
ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها الفاعلية ولكنهم متناقضون فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية ويقولون مع هذا ليس له إرادة بل هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار وقولهم باطل من وجوه كثيرة...
وأما التقدير الثالث : وهو أنه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة فهذا قول أكثر الناس من المسلمين وغير المسلمين وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم وقول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكرامية والمرجئة وغيرهم وقول أكثر أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وقول أكثر قدماء الفلاسفة وكثير من متأخريهم كأبي البركات وأمثاله".
"مجموع الفتاوى" ( 8/83-89)