حوى من الآراء والأفكار الأدبية والتي تعمقت في جذوره في عصر المؤلف وساعدت على نهوض حركته وفي
العصور التي سبقته وعلى الرغم مما يمتاز به هذا الكتاب من الآراء المستنيرة التي أثرت عن أعلام التفكير الفني، والتي يعد هذا الكتاب سجلًا حافلًا لها، فإن فيه من معالم الأصالة وآثار الشخصية التي تميز صاحبها من غيره من الباحثين شيئًا كثيرًا
وإذا كان لكل مؤلف في فن من فنون التأليف لون خاصٌّ من ألوان المعرفة يمتاز به عما سواه، وناحية يظهر تفوقه فيها، ويظهر تقصيره في غيرها، فإن ابن الأثير قد حلَّق في آفاق كثيرة من آفاق المعرفة، تجد صداها واضحًا في هذا السفر النفيس.
بهذه الألوان الكثيرة من المعرفة، وبهذه الثقافات المتنوعة كمَّل ابن الأثير لنفسه، حتى يحسن إعداد نفسه لما عرض له من علاج الأدب الذي كانوا يعرفون أنه الأخذ من كل فن بطرف...
فقد كمل له الوان متعددة من الأساليب المتنوعة في الصياغة الأدبية التي امتار بها ابن الأثير وغن كانت هناك ملاحظات ساذكرها في تتبعي لهذا السفر العظيم
وما امتاز به من صيغ واساليب عالية المستوى إن دلت فإنما تدل على علو مكانته في هذا المقام وسمو كعبه
وذهب إلى وذهب إلى أنه لا ينبغي له أن يقدِّم على هذا العلم إلّا إذا اكتملت لديه ألوان ثمانية من المعارف، وهي:
1- معرفة علم العربية من النحو والتصريف.
2- معرفة ما يحتاج إليه من اللغو، وهو المتداول المألوف استعماله في فصيح الكلام غير الوحشي الغريب، ولا المستكره المعيب.
3- معرفة أمثال العرب وأيامهم، ومعرفة الوقائع التي جاءت في حوادث خاصة بأقوام، فإن ذلك جرى مجرى الأمثال أيضًا.
4- الاطلاع على كلام المتقدمين من المنظوم والمنثور. فإن في ذلك فوائد جمة؛ لأنه يعلم منه أغراض الناس ونتائج أفكارهم, ويعرف به مقاصد كل فريق منهم، وإلى أين ترامت به صنعته في ذلك، فإن هذه الأشياء مما تشحذ القريحة، وتذكي الفطنة، وإذا كان صاحب الصناعة عارفًا بها تصير المعاني التي ذكرت، وتعب في استخراجها، كالشيء الملقى بين يديه يأخذ منه ما أراد، ويترك ما أراد، وإذا كان مطلعًا على المعاني المسبوق إليها فإنه قد يتهيأ له من بينها معنًى غريب لم يسبق إليه.
5- معرفة الأحكام السلطانية من الإمامة والإمارة والقضاء والحسبة وغير ذلك، لما يحتاج إليه الكاتب عارفًا بالحكم في الحوادث واختلاف أقوال العلماء فيها، وما هو رخصة في ذلك، وما ليس برخصة، فإنه لا يستطيع أن يكتب كتابًا ينتفع به.
6- حفظ القرآن الكريم، فإن صاحب هذه الصناعة ينبغي له أن يكون عارفًا به؛ لأن فيه فوائد كثيرة؛ منها أن يضمِّن كلامه بالآيات في أمكانها اللائقة بها، واستعمالها في مواضعها المناسبة لها، ولا شبهة فيما يصير للكلام بذلك من الفخامة والجزالة والرونقوإذا عرف مواقع البلاغة وأسرار الفصاحة المودعة في تأليف القرآن اتخذه بحرًا يستخرج منه الدرر والجواهر، ويودعها مطاوي كلامه.
7- حفظ الأخبار النبوية، مما يحتاج إلى استعماله، فإن الأمر في ذلك يجري مجرى القرآن الكريم.
8- ما يختص بالناظم دون الناثر، وذلك معرفة العروض، وما يجوز فيه من الزحاف، وما لا يجوز، فإن الشاعر محتاج إليه، وإن كان النظم مبنيًّا على الذوق، ولكن الذوق قد ينبو عن الزحافات. ويكون ذلك جائزًا في العروض، وقد ورد للعرب مثله، فإذا كان الشاعر غير عالم به، لم يفرق بين ما يجوز من ذلك وما لا يجوز.
وكذلك يحتاج الشاعر أيضًا إلى معرفة علم القوافي، ليعلم الروي والردف، وما يصح من ذلك وما لا يصح.
وقد اشترط ابن الأثير قبل تحصل تلك المعارف جميعها أن يكون الله تعالى قد ركَّب في الأديب طبعًا قابلًا لهذا الفن، ورأى أن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فنٍّ من الفنون، حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء، والماشطة عند جلوة العروس, وإلى ما يقوله المنادي على السلعة في السوق، والسبب في ذلك أنه مؤهَّل لأن يهيم في كل واد، فيحتاج أن يتعلق بكل فن؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن، وقد يستفيدها أهلها من غير أهلها.
وهكذا يغالي ابن الأثير في ثقافة الأديب، ويرى أنها لا حصر لمواردها، ويذهب إلى أن البيان كالجمال، لا نهاية لكل منهما.
ولقد كان ضياء الدين على حظٍّ عظيم من تلك الثقافات، كما يشهد لذلك هذا الكتاب، وما أودع من فنونها الكثيرة التي حصلها بجده، والطبع الأصيل الذي منحه الله إياه، وكل ركن من الأركان التي ذكرها، وكل آلة من الآلات التي أوجب أن تكون طوع يمين الكاتب، فقد عني نفسه في البحث عنها في مظانِّها.
كما في المقدمة باختصار "