مقتطفات من سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه
د. أمين بن عبدالله الشقاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها، وفارس من فرسانها، صحابي جليل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر.
هذا الصحابي ولد قبل البعثة بعشر سنين، وتربى في بيت النبوة، وهو أول من أسلم من الصبيان، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: " «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي» "[1]. وقال له أيضًا: " «لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» "[2]، وقد شهد المشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدا غزوة تبوك، وقد اشتهر بالفروسية والشجاعة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، فقد بشره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، وهو على قيد الحياة، إنه فارس الإسلام أمير المؤمنين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، وله قرابة من النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة - رضي الله عنها -.
وصفه أهل السير بأنه كان أسمر اللون، كثيف شعر اللحية، ربعة من الرجال، ضخم البطن، حسن الوجه، إلى القصر أقرب، ويكنى أبا الحسن أو أبا تراب[3].
وقد كانت لهذا الصحابي مواقف بطولية رائعة تدل على شجاعته، ونصرته لهذا الدين، فمنها أنه بات في فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الهجرة، وعرض نفسه للقتل فداء للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو أول من بارز في سبيل الله مع حمزة - رضي الله عنه - وعبيدة بن الحارث، وهو من النفر القلة الذين ثبتوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد.
ومنها ما حدث في غزوة الخندق عدما اقتحم عمرو بن ود بفرسه، وكان فارسًا من فرسان العرب المشهورين، وطلب من المسلمين المبارزة وهو مقنع بالحديد، فقال أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها؟ أفلا تبرزون إلي رجلًا، فخرج إليه علي بن أبي طالب، فقال: ارجع يا ابن أخي ومن أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أهريق دمك، فقال له علي بن أبي طالب: ولكني والله لا أكره أن أهريق دمك، فغضب ونزل فسل سيفه كانه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي مغضبًا، واستقبله علي بدرقته وضربه عمرو في الدرقة فقدها، وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج، وسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التكبير فعرف أن عليًا قتله وهو يقول:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه
ونصرت رب محمد بصوابِ
لا تحسبن الله خاذل دينه
ونبيه يا معشر الأحزابِ
ومن مواقفه العظيمة أن خيبر لما استعصت على جيوش المسلمين قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « "لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ". فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا - قَالَ - فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- كُلُّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ "أَيْنَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِب". فَقَالُوا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِى عَيْنَيْهِ - قَالَ - فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِىَ بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فِى عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِىٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا. فَقَالَ "انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِىَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ"» [4].
فلما وصل علي خرج له ملكهم مرحب وهو يخطر بسيفه ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحبُ
شاكي السلاح بطل مجربُ
إذا الحروب أقبلت تلهبُ
فقال له علي:
أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غابات كريه المنظره
أكيلكم بالسيف كيل السندره
فاختلف علي ومرحب ضربتين، فأما ضربة علي فكانت القاضية.. وفتح الله عليه.
ومع شجاعته العظيمة فقد كان من علماء الصحابة، ومن دهاة العرب، فقد جيء بامرأة إلى عمر وقد ولدت غلامًا لستة أشهر فأمر برجمها.
فقال له علي: يا أمير المؤمنين ألم تسمع إلى قول الله تعالى: {﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾} [الأحقاف: 15]؟ فالحمل ستة أشهر والفصال وهو في عامين.
فترك عمر رجم المرأة وكان يقول: قضية ولا أبا الحسن لها.
وكان - رضي الله عنه - شديد الورع فقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق من حديث أبي عمرو بن العلاء عن أبيه قال: خطب علي فقال: أيها الناس والله الذي لا إله إلا هو ما رزأت[5] من مالكم قليلًا ولا كثيرًا إلا هذه، وأخرج قارورة من كم قميصه فيها طيب، فقال: أهداها إلي الدهقان[6].
وروى أبو نعيم في حلية الأولياء من حديث هارون بن عنترة عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب بالخورنق وعليه قطيفة وهو يرعد من البرد، فقلت يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيبًا في هذا المال، وأت تفعل بنفسك هذا؟ فقال: إني والله لا أرزأ من مالكم شيئًا، وهذه القطيفة هي التي خرجت بها من بيتي، أو قال: من المدينة[7].
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن زرير أنه قال: دخلت على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: حسن: يوم الأضحى - فقرب إلينا خزيرة[8]، فقلت: أصلحك الله، لو قربت إلينا من هذا البط - يعني الوز - فإن الله قد أكثر الخير، فقال: يا ابن زرير إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين يدي الناس"[9].
ومن أقواله العظيمة أنه كان يقول: "ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، ويعظم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله".
ومن أقواله أيضًا: "خمس خذوهن عني: لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحيي جاهل أن يسأل عما لا يعلم، ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له"[10].
وقيل: يا أمير المؤمنين صف لنا الدنيا، قال: "ما أصف لكم من دار، من افتقر فيها حمد، ومن استغنى فيها فتن، ومن صح فيها أمن، حلالها الحساب، وحرامها العقاب".
وقال أيضًا: جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والنقص في اللذة: قيل وما النقص في اللذة؟ قال: لا ينال شهوة حلال إلا جاء ما ينغصه إياها[11].
قال ابن كثير: ولقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عليًا بقتله، فكان كما أخبر سواء بسواء[12]. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «"ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه، يعني قرنه، حتى تبل منه هذه، يعني لحيته"» [13].
وكان قتله -صلى الله عليه وسلم- على يد الشقي الخارجي عبدالرحمن بن ملجم سنة أربعين من الهجرة، في السابع عشر من شهر رمصان، قال تعالى: { ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾} [النساء: 93].
قال الذهبي - رحمه الله -: وابن ملجم عند الروافض أشقى الخلق في الآخرة، وهو عندنا أهل السنة ممن نرجو له النار، ونجوز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول الخوارج والروافض فيه، وحكمه حكم قاتل عثمان، وقاتل الزبير، وقاتل طلحة، وقاتل سعيد بن جبير، وقاتل عمار، وقاتل خارجة، وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله، ونكل أمورهم إلى الله - عز وجل-"[14].
وروى ابن الأثير في أسد الغابة بسنده من طريق عمرو ذي مر قال: لما أصيب علي بالضربة، دخلت عليه وقد عصب رأسه، قال: قلت: يا أمير المؤمنين، أرني ضربتك. قال: فحلها، فقلت: خدش وليس بشيء. قال: إني مفارقكم. فبكت أم كلثوم من وراء الحجاب، فقال لها: اسكتي، فلو ترين ما أرى لما بكيت. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، ما ذا ترى؟ قال: هذه الملائكة وفود، والنبيون، وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "يا علي، أبشر، فما تصير إليه خير مما أنت فيه"[15].
وقد رثاه أبو الأسود الدؤلي، وبعضهم يرويها لأم الهيثم بنت العريان النخعية:
ألا يا عين ويحك أسعدينا
ألا تبكي أمير المؤمنيا
تبكي أم كلثوم عليه
بعبرتها وقد رأت اليقينا
ألا قل للخوارج حيث كانوا
فلا قرت عيون الشامتينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا
بخير الناس طراً أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا
فذللها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها
ومن قرأ المثاني والمبينا
وكل مناقب الخيرات فيه
وحب رسول رب العالمينا
لقد علمت قريش حيث كانوا
بأنك خيرها حسباً ودينا
كأن الناس إذا فقدوا عليًا
نعام حار في بلد سنينا
رضي الله عن علي، وجزاه عن الإسلام والمسلمين جير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] قطعة من حديث في صحيح مسلم برقم (2404).
[2] صحيح مسلم برقم (78).
[3] تاريخ الخلفاء (ص 132، 133).
[4] صحيح مسلم برقم (2406).
[5] أي: ما أخذت.
[6] (42/ 480).
[7] (1/ 82).
[8] لحم يقطع صغارًا ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذر عليه الدقيق.
[9] (2/19)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (362).
[10] تاريخ الخلفاء (ص 147).
[11] تاريخ الخلفاء (ص 144).
[12] البداية والنهاية (9/204).
[13] مسند الإمام أحمد (30/ 257). برقم (18321)، وقال محققوه: حسن لغيره.
[14] تاريخ الإسلام (ص 654).
[15] أسد الغابة (3/ 303).