14 ربيع الأول - قصة قتل كعب بن الأشرف
14 ربيع الأول
بقلم: سعيد الطنطاوي
منزلة ربيع الأول بين الشهور:
أنت تعلم منزلة ربيع الأول بين الشهور، تعلم أنه شهر البشر بولادة خير البشر، وشهر الدعوة بهجرة أكرم الرسل، وشهر الحزن، بانتقال الحبيب الأغلى إلى الرفيق الأعلى.
وقد تعلم أنه شهر اليقين، إذ فيه مكث، أفضل مَنْ دعا وعمل وهاجر، في غار ثور ثلاثاً، ومعه صاحبه الصديق يلاحقهما العدو الفاتك. وشهر الصبر، إذ فيه امتحنه بوفاة ابنه إبراهيم، من يحب من عباده أن يكون أحب إليهم من جميع عباده. وشهر الجهاد الذي فيه غزوة بُواط وغزوة بدر الأولى، وغزوة غطفان، وغزوة بني النَّضير وإجلاؤهم، وغزوة دومة الجندل، وغزوة بني لحيان، وغزوة الغابة، وسرية عكاشة بن مُحصن الأسدي إلى الغمر، وسرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر، وسرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح، وسرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب، وسرية خالد بن الوليد المخزومي إلى بني عبد المدان بنجران.
الاجتماع الذي جرى في 14 ربيع الأول من هذا الشهر:
قد تعلم هذا كله، وقد لا تعلمه أولا تعرف تفاصيله وفقهه، ولكنني أكاد أجزم أنك لا تدري بالاجتماع الذي جرى في هذا الشهر، وفي الرابع عشر منه بالذات في المدينة على رأس خمسة وعشرين شهراً من مهاجر رسول الله e إليها. والذي أحببت أن تكون هذه الرسالة ـ التي موعدها هذا اليوم 14 ربيع الأول ـ موعدنا للاجتماع بهذا الاجتماع، الذي ضمَّ ستة رجال، أود منك ـ قبل أن نحضر لقاءهم ـ أن ترافقني لنلتقي بهم، واحداً واحداً:
ـ 1 ـ
عباد بن بشر:
فأحد هؤلاء: بطل في الخامسة والثلاثين، امتلأت نفسه بالخير، والعمل به، والذود عنه، فكان من أسرع الأنصار إليه، إذ أجمع المؤرخون ـ كما ينقل ابن عبد البر ـ على أن إسلام عبّاد بن بشر بن وقش على يد الداعية الأول في المدينة، مصعب بن عمير، كان قبل إسلام أَسَدي الأوس: سعد بن معاذ، وأُسيد بن حضير رضي الله عنهما.
ثم مضى لا يلتفت إلى غير هذه الدعوة، فشهد بدراً والمشاهد كلها، مع رسول الله e. وبعثه عليه الصلاة والسلام إلى بني سُليم ومُزينة يصدّقهم ـ أي: يأتي بصدقاتهم، ولا يُسند ذلك إلا إلى رأسٍ في الحنكة والحكمة والأمانة ـ فأقام عندهم عشراً، وانصرف إلى بني المصْطلق من خزاعة بعد الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط يصدقهم، فأقام عندهم عشراً وانصرف راضياً. وجعله رسول الله e على مقاسم حنين، واستعمله على حرسه بتبوك من يوم قدم إلى أن رحل ـوكان أقام بها عشرين يوماًـ.
دعاء رسول الله e له بالمغفرة:
ودعا له رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فيما ترويه عائشة رضي الله عنها قالت: تهجد رسول الله e في بيتي فسمع صوت عبّاد بن بشرـ أي في تهجده في المسجد ـ فقال: يا عائشة، صوت عبّاد بن بشر هذا؟ قلت: نعم، قال: اللهم اغفر له.
العصا المضيئة:
وكان من فضلاء الصحابة، روى أنس بن مالك أنّ عصاه كانت تضيء له إذ كان يخرج من عند النبي e إلى بيته ليلاًَ.
وعرض له ذلك مرة مع أُسيد بن حضير، فلما افترقا، أضاءت لكلِّ واحد منهما عصاه. روى حماد بن سلمة عن ثابت ـ البناني ـ عن أنس قال: كان عبّاد بن بشر ورجل آخر من الأنصار ـ هو أسيد بن حضير ـ عند النبي e يتحدثان في ليلة ظلماء حندس، فخرجا من عنده فأضاءت عصا ابن بشر، حتى انتهى عباد وذهب، فأضاءت عصا الآخر.
وقد أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قال: «ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتد عليهم فضلاً، كلهم من بني عبد الأشهل: ـ رؤوس الأوس ـ : سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر.
استشهاده يوم اليمامة:
شهد عباد بن بشر يوم اليمامة ـ في قتال مسيلمة الكذاب ـ وكان له يومئذ بلاء وغَناء ومباشرة للقتال وطلب للشهادة، حتى قتل يومئذ شهيداً، سنة اثنتي عشرة، وهو يومئذ ابن خمس وأربعين سنة.
يقول أبو سعيد الخدري t: سمعت عبَّاد بن بشر يقول: يا أبا سعيد، رأيت الليلة كأنَّ السماء قد فرجت لي ثم أُطبقت عليّ فهي إن شاء الله الشهادة، قلت: خيراًَ والله رأيت، قال: فأنظر إليه يوم اليمامة وإنه ليصيح بالأنصار: أحطموا جفون ـ أي: أغماد ـ السيوف.
وتميَّزوا من الناس، وجعل يقول: أخلصونا أخلصونا، أربعمائة رجل من الأنصار ما يخالطهم أحد يقدمهم عباد بن بشر وأبو دجانة ـ الفارس العظيم الذي أعطاه عليه الصلاة والسلام عوداً فهزَّه فإذا هو سيف قاطع ـ والبراء بن مالك ـ البطل الباسل أخو أنس ـ حتى انتهوا إلى باب الحديقةـ حديقة الموت التي تحصَّن فيها مسيلمة مع أربعين ألفاً من فرسانه ـ فقاتلوا أشد القتال، وقتل عباد بن بشر ـ رحمه الله تعالى ـ، فرأيت بوجهه ضرباً كثيراً، ما عرفته إلا بعلامة كانت في جسده.
ـ 2 ـ
الحارث بن أوس:
ونلتقي مع آخر من هؤلاء، فإذا هو شاب في السابعة والعشرين، ولكنه عريق في البطولة، حسباً ونسباً يمتُّ إليها بأوثق الوشائج يأتي بين جَبلي الدعوة: ابن خاله أُسيد بن حضير، وعمّه سعد بن معاذ، ذلكم هو فتى البطولة، وبطل الفتيان: الحارث بن أوس الأوسي الذي آخى رسول الله e ـ كما رووا ـ بينه وبين عامر بن فهيرة ـ الذي صاح لما طعنه جبار بن سُلمى: فزْت واللهّ! ورفع إلى السماء عُلواً، فأسلم جبار بن سُلمى لما رأى من قتل عامر بن فهيرة ورفعه. وقال رسول الله e ـ فيما يذكره ابن سعد ـ: إن الملائكة وارت جُثَّته وأُنزل عليين ـ.
انحدر الحارث بن أوس من هذه الأرومة الكريمة، ونشأ في هذه البيئة الطيبة، وتربَّى في مدرسة البطولة على يدي عمه الصَّلْد الجَلْد، سيد الأوس سعد بن معاذ، فكان تلميذه ورفيقه.
يروي ابن سعد أن عائشة قالت: خرجت يوم الخندق أقْفوا آثار الناس، فسمعت وئيدَ الأرض من ورائي، ـ تعني حِسّ الأرض ـ فالتفتُّ، فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنّه ـ أي: ترساً ـ فجلست إلى الأرض، فمرَّ سعد وهو يرتجز ويقول:
لبث قليلاً يدرك الهيجا حمل ما أحسن الموت إذا حان الأجل
شهد الحارث بدراً، وشهد أُحداً، وكان يوم استشهد ابن ثمان وعرشين سنة.
ـ 3 ـ
أبو عبس بن جبر:
ومن هؤلاء: أبو عبس بن جَبْر، نجده في وقت اللقاء ـ الذي سنتحدَّث عنه قريباً بين الستة ـ في نحو الأربعين يقل عنها سنوات أو يزيد.
تغيير اسمه:
وأبو عبس هذا كان يُسمّى في الجاهلية عبد العزّى، فسماه رسول الله e عبد الرحمن لأنه يحب لأصحابه وأمته، في كل ناحية، كل خير، ولأنه إنما بُعث لإحداث الانقلاب الخيِّر في حياة الناس، بجميع أجزائها، حتى تقوم على أساس جديد كريم سليم سام، كل ما فيها، من صغير وكبير، يذكرهم بغايتهم، وينبثق عن عقديتهم، ليتاح لهم أن يهزُّوا الدنيا، فينفضُّوا عنها غبارها، ويقيموها على الأساس الجديد، أمة واحدة ناعمة هانئة في ظل عبادة الله وطاعة رسوله.
كتابته العربية:
وكان أبو عبس يكتب العربية قبل الإسلام، وكانت الكتابة في العرب قليلاً.
وآخى رسول الله e، بين أبي عبس وبين حصن بن حذافة السهمي، البدري ـوهو زوج حفصة بنت عمر بن الخطاب زوج رسول الله e ـ.
كان أبو عبس بن جبر، عظيماً في استقامته على دينه وعقيدته، وجعل الإسلام محوراً لحياته كلها، يعمل لأجله، ويبذل كل شيء في سبيله، وذلك منذ اليوم الأول لإسلامه، إذ عمد هو وأبو بردة بن دينار إلى أصنام قومهما بني حارثة، يكسرانها حين أسلماـكما فعل سعد بن معاذ وأُسيد بن حضير حين أخذا عقب إسلامهما في تحطيم أصنام بني عبد الأشهل ـ.
العصا المنيرة:
ونقل ابن حجر في «الإصابة» أن رسول الله e أعطى أبا عبس بن جبر بعدما ذهب بصره عصا، فقال: تنوَّر بهذه. فكانت تُضيء له ما بين كذا وكذا.
وأبو عبس هذا هو الذي يروي لنا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن، وهو قوله e: «من اغبرت قدماه في سبيل الله، حرمه الله على النار».
شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله e، وكان من كبار الأنصار فكان عمر وعثمان يبعثانه يُصَدِّق الناس.
وفاته t:
مات أبو عبس في سنة أربع وثلاثين في خلافة عثمان بن عفان وهو ابن سبعين سنة، وصلى عليه عثمان ودفن بالبقيع.
وعاده عثمان t في احتضاره، فلما أفاق قال عثمان: كيف تجدك؟ قال: صالحاً، وجدنا شأننا كله صالحاً إلا عقولاً ـجمع عقال، وهو الرسن ـ هَلَكت بيننا وبين العمال ـ الذين يجمعون الزكاة ـ لم نكد نتخلص منها! ـ كيف كانت حياة هؤلاء الذين يستعظم أحدهم شبهة لقطعة حبل في عنق البعير، وكيف تكون الآن حياة مَنْ يستصغر في الحرام الجبل، ويبتلع الجمل، ولا يحس بما فعل؟ ـ.
ـ 4 ـ
أبو نائلة سْلكان بن سلامة بن وقش
فإذا التقينا مع أبي نائلة، سِلْكان بن سلامة بن وقش، طالعتنا نفس الصورة من البطولة والإيمان والاندفاع، التي أخذت بقلوبنا في الذين زرناهم آنفاً والذين لم نزرهم من الذين تربوا في مدرسة محمد e.
ليس كالمسلم في الخلق أحد
ليس خلق اليوم بل خلق الأبد
إنما الإسلام في الصحراء امتهد
ليجيء كلُّ مسلم أسد!
ولا عَجَب في أن يكون أبو نائلة من هذه الزُّمرة الخيِّرة، وعبَّاد بن بشر ـ أو من لقيناهم ـ ابن عمه، ومحمد بن مسلمة ـ الذي سنلتقي به بعد قليل إن شاء الله تعالى ـ رضيعه.
شهد المشاهد مع الرسول الكريم e.
وأنبتت هذه البذرة الطيبة في قلبه، بذرة الإيمان، النبتَ الطيب في جوارحه ـ والجوارح تبع للقلب ـ ظهر هذا في لسانه فكان شاعراً محسناً، وظهر في يده، فكان من الرماة المذكورين، ونرجو أن يظهر في خاتمته، فيكتبنا الله وإياه من الفائزين.
ـ 5 ـ
محمد بن مسلمة:
ونلتقي أخيراً بمحمد بن مسلمة، سيد هذا اللقاء الذي سنذكره بين هؤلاء الذين ذكرنا، وهو رضيع أبي نائلة، وأخو أم عيسى بنت مَسْلَمة، وأبو أم الحارث، بنت محمد بن مسلمة، وكلتاهما من أزواج أبي عيسى بن جبر، كما أنَّ إحدى أزواج محمد بن مسلمة ـ أم عمر بنت سلامة بن وقش ـ أخت أبي نائلة الذي يكون هذا خال أم الحارث بنت محمد، زوج أبي عبس بن جبر.
وهو أول من سُمِّي محمداً من الأنصار، فقد ولد ـ كما ذكر الواقدي ـ قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة.
إسلامه وشهوده المشاهد كلها مع رسول الله e:
أسلم محمد بن مسلمة قديماً، على يد مصعب بن عُمير، وذلك قبل إسلام أُسيد بن حضير، وسعد بن معاذ.
وشهد محمد بدراً وأحداً ـ وكان فيمن ثبت فيها مع رسول الله e حين ولى الناس ـ والمشاهد كلها مع رسول الله e ما خلا تبوك فإنَّ رسول الله e استخلفه على المدينة حين خرج إلى تبوك.
المؤآخاة:
وآخى عليه الصلاة والسلام بين رأسي الأمانة من المهاجرين والأنصار: أبي عبيدة بن الجراح ومحمد بن مسلمة.
وكان محمد ممَّن يوجِّههم رسول الله e في المهام، بعثه إلى القُرطاء ـ وهم من بني كلاب ـ سرَّية في ثلاثين راكباً من أصحاب رسول الله e فَسَلِم وغنم، وبعثه أيضاً إلى ذي القَصَّة، سرية في عشرة نفر.
ولما خرج إلى عمرة القضاء فانتهى إلى ذي الحُليفة قدّم الخيل أمامه، وهي مائة فرس، واستعمل عليها محمد بن مسلمة.
وقد جاء عنه أنه كان يقول: يا بني سَلُوني عن مشاهد النبي عليه السلام ومواطنه، فإني لم أتخلَّف عنه في غزوة قط، إلا واحدة في تبوك، خلَّفني على المدينة، وسلوني عن سراياه e فإنه ليس منها سرية تخفى عليَّ إما أن أكون فيها، أو أن أعلمها حين خرجت.
وكان محمد مُعدّاً عند عمر بن الخطاب، لكشف الأمور المعضلة في البلاد، وهو كان رسوله في الكشف عن أمير الكوفة وحرَّق باب قصره.
اعتزاله الفتنة:
ولما كانت الفتنة تجنَّبها، واعتزل فيمن اعتزل ـ كسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر ـ.
عن ضبيعة بن حصين الثعلبي قال: كنا جلوساً مع حذيفة، فقال: إني لأعلم رجلاً لا تغرّه الفتنة شيئاً، فقلنا: من هو؟ قال: محمد بن مسلمة الأنصاري، فلما مات حذيفة، وكانت الفتنة خرجت فيمن خرج من الناس، فأتيت أهل ماء، فإذا أنا بفسطاط مضروب مُتنحىً تضربه الرياح، فقلت: لمن هذا الفسطاط؟ قالوا: لمحمد بن مسلمة، فأتيته فإذا هوشيخ، فقلت له: يرحمك الله، أراك رجلاً من خيار المسلمين، تركت بلدك ودارك وأهلك وجبرتك، قال: تركته كراهية الشر، ما في نفسي أن تشتمل على مصر من أمصارهم حتى تنجلي عما انجلت.
وعن الحسن وزيد بن أسلم: أن محمد بن مسلمة قال: أعطاني رسول الله e سيفاً فقال: يا محمد بن مسلمة، جاهد بهذا السيف في سبيل الله، حتى إذا رأيت من المسلمين فئتين تقتتلان، فاضرب به الحجر حتى تكسره، ثم كفَّ لسانك ويدك، حتى تأتيك منيةٌ قاضيةٌ، أو يدٌ خاطئة، فلما قتل عثمان، وكان من أمر الناس ما كان، خرج إلى صخرة في فنائه، فضرب الصخرة بسيفه حتى كسره،ومات محمد بن مسلمة بالمدينة، في صفر سنة ست وأربعين، وهو يومئذ ابن سبع وسبعين سنة، وصلى عليه مروان بن الحكم.
ـ 6 ـ
كعب بن الأشرف:
هؤلاء خمسة وسادسهم يدعى كعب بن الأشرف، موغل في الغدر والخيانة، عريق في الشر والإيذاء، ترعرع فيها ـوهو بعد في صلب أبيه وهو طائيٌّ من بني نبهان ـ الذي كان فيما يبدو من معدن الأذى، فأصاب دماً في قومه في الجاهلية، ففرّ إلى المدينة حيث حنّت جوانحه إلى اليهود، فحالف بني النَّضير، ثم لم يكتف بهذا حتى تزوَّج بامرأة منهن ـ عقيلة بنت الحقيق ـ، وكأنه أراد لهذا الثعبان الذي سيثمره هذا الزواج، أن يجد الحمأة الخبيثة التي تتلاءم مع هذه النفس الشريرة، تنشأ فيها، وتربى بين أوحالها.
أبواب الثراء:
وفتحت لكعب أبواب الثَّراء، فساد يهود الحجاز بكثرة ماله، وكان يعطي ويهب لكن للشر، وينفق من ماله، لكن للصدّ عن الخير، والكيد للحق، وصَرْف الناس عنه، فكان يعطي أحبار يهود ويصلهم.
أحبار يهود:
فلما قدم النبيُّ e المدينة، جاءه أحبار اليهود من بني قينقاع، وبني قريظة، لأخذ صلته على عادتهم، فقال لهم: ما عندكم من أمر هذا الرجل؟ فقالوا: هو الذي كنا ننتظر، ما أنكرنا من نعوته ـ أي: أوصافه ـ شيئاً. فقال لهم: قد حُرِمْتُم كثيراً من الخير، ارجعوا إلى أهليكم فإنَّ الحقوق في مالي كثير، فرجعوا عنه خائبين، ثم رجعوا إليه وقالوا له: إنا أعجلنا فيما أخبرناك به أولاً، ولما استنبأنا علمنا أنا غلطنا، وليس هو المنتظر! فرضيَ عنهم، ووصلهم وجعل لكل من تابعهم من الأحبار شيئاً من ماله.
الشاعر الهجَّاء:
وكان كعب بن الأشرف شاعراً أيضاً، إلا أنه كذلك حبنَّد لسانه في خدمة الشيطان، لينفث السم، من هذا القلب الكالح، الذي ملأه الحقد على الإسلام ورسوله والمسلمين، فنصب نفسه رأساً للضلال، وأخذ يهجُو الرسول الكريم، ويُحرِّض عليه كفار قريش، فسكت عنه، وأمر أصحابه بالصبر، عله يقلع، ولكنه لم ينزح عن أذاه.
نقضه العهد:
وقد كان عاهد النبيَّ e أن لا يعين عليه أحداً، فنقض كعب العهد، وسبَّه وسبَّ أصحابه، حتى إذا كانت وقعة بدر، فنصر الله دينه وأيَّد رسوله، وأدال للحق من الباطل فهُزمت قريش، وقُتل سبعون من صناديدهم، وأُسر مثل ذلك من أشرافهم.
وقدم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة يبشِّران أهل المدينة بما فتح الله على رسوله والمؤمنين، قال: أحق هذا؟ أترون محمداً قتل هؤلاء الذين يسمِّي هذان الرجلان؟ فهؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خير من ظاهرها.
فلما تيقن عدو الله الخبر، ورأى الأسرى مقرَّنين، كُبت وذل، وخرج إلى قريش حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي وزوجته عاتكة ـمن بني أمية ـ فأنزلته وأكرمته، وجعل يُحرِّض على رسول الله e وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر.
فبلغ ذلك النبي e، فدعا حسان فهجا المطلب وزوجته ـ وأسلما بعد، رضي الله عنهما ـ فلما بلغ ذلك عاتكة ألقت رحله وقالت: ما لنا ولهذا اليهودي؟ فخرج من عندها وصار يتحوَّل من قوم إلى قوم، فيفعل مثل ما فعل عند عاتكة ويبلغ خَبَرُه النبي e فيذكره لحسان فيهجوه، فيفعلون معه كما فعلت عاتكة.
ثم عاد إلى المدينة، وهو على أخبث مما عليه من الهجاء، والإيذاء للمسلمين، والتَّشبيب بنساء الصحابة، والتغزُّل بهن، والتحريض على المسلمين.
دعاء الرسول e على كعب بن الأشرف:
فلما صار الأمر إلى هذا، وأسفر عن حقده وعداوته، ونقَضَ العهد، وحالف الكفار على المسلمين، وأخذ يؤلِّب عليهم، ويؤذيهم... حينئذ قال رسول الله e: اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت، في إعلانه الشر وقوله الأشعار.
مَنْ لي بابن الأشرف؟
ثم أضاف إلى التجائه إلى الله عزَّ وجل واستنصاره به، واعتماده عليه ـ وهو أساس كل عمل، وأصل كل نجاح ـ أضاف إلى ذلك الأخذ بالأسباب ـ التي ليس فيها أي أثر من جدوى، ولكن الله عزَّ وجل قد يجعل فيها النُّجع ـ الفوز ـ إذا أراد ـ فقال: مَنْ لي بابن الأشرف فقد آذاني؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا به يا رسول الله، وأنا أقتله. فقال: إفعل.
وشاور سعد بن معاذ في أمره ـ ولذا يحسن بالمسلم ألا يغفل المشورة في جليل أموره على أن يتخيَّر من يصلح لهذه المشورة ـ فاستشار سعداً، فقال له: توجّه إليه واشك إليه الحاجة، وسَلْه أن يُسلفكم طعاماً ـالطعام هنا القمح ـ فمكث محمد بن مسلمة ثلاثاً مشغول النفس بما وعده من قتل ابن الأشرف، لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق به نفسه. فبلغ ذلك النبي e فدعاه فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ فقال: يا رسول الله قلت لك قولاً لا أدري هل أفينَّ لك به أو لا، قال: إنما عليك الجهد.
فأتى محمد أبا نائلة، وعباد بن بشر، والحارث بن أوس، وأبا عبس ابن جبر، فأخبرهم بما وعد به رسول الله e من قتله، فأجابوه وقالوا: كلنا نقتله، ثم أتوا رسول الله e فقالوا: يا رسول الله، إنه لا بدَّ لنا من أن نقول ـ أي: مما يسر كعباً وإن كان فيه بعض الطعن لنتوصَّل به إلى التمكن من قتله ـ فقال: قولوا ما بَدَا لكم، فأنتم في حِلٍّ من ذلك».
سَبْق أبي نائلة إلى كعب بن الأشرف:
فاحتجوا على أن يسبقهم أبو نائلة ـ سِلكان بن سلامة ـ إلى عدوّ الله كعب بن الأشرف، قبل أن يأتوه، وكان أبو نائلة أخا كعب من الرضاعة، فجاءه أبو نائلة، فأنكره كعبٌ وذُعِرَ منه ـ وغير المؤمن لا لُبَّ له ـ فقال: أنا أبو نائلة، وقد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني، قال: أفعلُ، قال: إنما جئت أخبرك أن قدوم هذا الرجل كان علينا بلاء من البلاء، عادَتْنا به العرب، وحاربتنا، ورمَتْنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجُهدت الأنفس، وأصبحنا قد جُهدنا وجُهِد عيالنا، فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أنا والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة، أن الأمر سيصير إلى ما يقول، وأيضاً والله لتَمَلنَّه، ويحكم. ألم يأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل؟ قال: إنا قد اتبعناه فلا نحبُّ أن ندعه حتى ننظر إلى أيِّ شيء يصير شأنه. وقد أردنا أن تبيعنا طعاماً وتمراً، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة. فقال: أترهنونني أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا، إنا نستحي أن يُعيَّر أبناؤنا فيقال: هذا رهينة وسقٍ وهذا رهينة وسقين، ولكنا نرهنك سلاحنا، وقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم، وإنَّ معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتُحسن في ذلك ـ وإنما قال له ذلك لئلا ينكر عليهم مجيئهم إليه بالسلاح ـ فقال: إن في الحلقة لوفاء ـ أي: إن السلاح يفي بهذا العرض ـ إئتوني بسلاحكم واحتملوا ما شئتم.
فرجع سِلْكان إلى أصحابه، فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح، ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه، وأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى.
ثم أتوا رسول الله e فأخبروه. فمشى معهم إلى بقيع الغرقد، ثم وجّههم وقال: «انطلقوا على اسم الله، اللهُمَّ أعنهم»، ثم رجع رسول الله e إلى بيته.
ليلة 14 من ربيع الأول:
ومضوا في ضوء القمرـ ليلة الرابع عشر من ربيع الأول في العام الثالث من الهجرة ـ حتى انتهوا إلى حصنه ـ ويقوم على حصنه بضاحية المدينة الجنوبية الشرقية وبينه وبينها نحو ساعتين ونصف، وما تزال بعض آثاره إلى الآن، ويبدو منها أنه بشكل مربع ضلعه 33 متراً ـ وكان حديث عهد بعرس، فهتف به أبو نائلة، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها. وقالت: إنك امرؤ مُحَارَب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة، قالت: والله إني لأسمع صوته كأنّما يقطر منه الدم، وإني لأعرف فيه الشر، وما طرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب! فقال: أنا معهم على ميعاد، وقد حدثوني بحديثهم وشأنهم، وإنما هو أخي محمد بن مَسْلَمة ورضيعي أبو نائلة، فقال: فأرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك، قال: لو وجدني هؤلاء نائماً ما أيقظوني، قالت: فكلّمهم من فوق الببيت، فأبى وضرب بيده الملحفة، وقال: لو دُعي الفتى لطعنه لأجاب ـ وقد دفعه الاطمئنان إليهم إلى هذا التبجح، ولم يدر الشقي أن الروابط السابقة لدى المسلم قد زالت كلها، وأصبحت جميع الروابط لديه تقوم على أساس الإيمان فقط ـ.
ثم نزل إليهم فحادثوه ساعة حتى انبسط إليهم وأَنسَ بيهم، ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوزـ شِعب في الجبل، يرتاده الناس للنزهة ـ فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة، ثم إن محمد بن مسلمة أدخل يده في شعره ثم شمَّ يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيباً أعطر قط، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأنّ، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها فأخذ برأسه ثم قال: اضرُبوا عدوَّ الله، فضربوه، فاختلفت عليهم أسيافهم وردَّ بعضها بعضاًـ إذ كان كلُّهم حريصٌ على العمل لمحق الباطل وإزالة الشر وعلى أن يكتب له هذا الخير ـ فلم تُغن شيئاً، ولصق بأبي نائلةـ فقد ذهب اطمئنانه إليهم الذي دفعه إلى التبجُّح وطار لبه فأنساه الخوف أن الفتى إذا دعي لطعنة أجاب ـ.
ويذكر محمد بن مسلمة سكيناً كانت معه، فينتزعها فيضعها في سُرَّته، ثم يتحامل عليها، فقطَّعه حتى انتهى إلى عانته، فصاح عدو الله صيحة لم يبق حصن من حصون اليهود إلا أوقدت عليه نار، ووقع عدو الله، ثم حزُّوا رأسه وحملوه معهم، وعادوا متوجِّهين إلى المدينة، واجتمعت اليهود، فأخذوا على غير طريق الصحابة ففاتوهم، وأبطأ الحارث بن أوس، الذي كان قد جُرح في رأسه، أو في رجْله، أصابه بعض أصحابه، فنزف الدم، لما وصلوا إلى حرة العُريض، انتظروه حتى جاء يتبع آثارهم، فاحتملوه، فلما بلغوا بقيع الغرقد، كبروا، وقد قام رسول الله e تلك الليلة يصلي، فلما سمع تكبيرهم كبر، وعرف أن قد قتلوه. ثم انتهوا إلى رسول الله e فقال: «أفلحت الوجوه» فقالوا: ووجهك يا رسول الله، ورموا برأس كعب بين يديه، فحمد الله على قتله، وتفل النبي e على جرح الحارث فبرئ ولم يُؤْذ بعد.
خوف يهود:
وأصبح اليهود وقد خافوا لمصرع الخائن ـ ولا يخاف الوفيَّ الوفيُّ ـ فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه وملأهم الذُّعر، فجاؤوا النبي e، فقالوا: قُتل سيدنا غيلة!
فذكَّرهم النبي e صنيعه، وما كان يحض عليهم ويُحرض في قتالهم ويؤذيهم ـ فكتبوا بينه وبينهم صلحاً، وكان كتاب الصلح بعد ذلك مع علي t ـ.
ولن نذكر هنا قصيدة كعب بن مالك التي أولها:
فَغُودر منهم كعب صريعاً فذلَّت بعد مصرعه النَّضير
ولا أبيات حسان بن ثابت التي يذكر فيها قتل ابن الأشرف وسلاَّم بن أبي الحُقيق:
لله درُّ عِصابة لاقيتهم يا ابنَ الحقيق وأنت يا ابن الأشرف
لأننا سنكتفي في هذا المجال بما قاله عبَّاد بن بشر أحد الخمسة الذين جَنْدلوا الطاغية:
صرختُ به فلم يعرض لصوتي وأوفى طالعاً من رأس خدر
فعُدْت له فقال: من المنـــادي فقلت: أخوك عبّاد بن بشر
وهذي درعنا رَهْناً فخـــذها لشهر إن وفى أونصف شهر
فقال: معاشر سغبوا وجاعــوا وما عدموا الغنى من غير فقر
فأقبل نحونا يهوي سريعـــاً وقال لنا: لقد جئتم لأمر
وفي أيماننا بيض حـــــداد مُجَرَّبة، بها الكفار نفري
فعانقه ابن مَسلمة المــــردّى به الكفار كالليث الهزبر
وشدّ بسيفه صلتاً علـــــيه فقطّره أبو عبس بن جبر
وكان الله سادسنا فأُبْنـــــا بأنعمِ نعمةٍ وأعزّ نصر
وجاء برأسه نفر كــــرام هم ناهيك من صدق وبرّ
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.