الوقـف الإســلامي ودوره في الإصلاح والتغيير العهد الزنكي والأيوبي نموذجاً
نحن على يقين أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأي مشروع لإصلاح الأمة وعودة عزها ومجدها من غير الشريعة الإسلامية سيفشل يقيناً، فالشريعة كاملة لا تُهمل مصالح المكُلفين.
والشريعة الإسلامية جاءت لجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، قال الشاطبي رحمه الله: « إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً»(1).
ويؤكد هذا الأصل الشيخ محمد الطاهر بن عاشور فيقول: «واستقراء أدلة كثيرة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بحكم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد»(2).
ولا شك أن قوام الإصلاح قائم على ثلاثة محاور:
- الأول: العلم النافع.
- والثاني: العمل الصالح الذي ينفع العباد والبلاد.
- والثالث: العَدْلُ الشامل، الذي يجمع جميع ضروب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمة، ويشمل جميع السكان المواطنين منهم والمقيمين، وكذلك الزائرون وسائر أهل الأديان السماوية.
نُقل عن شيخ الإسلام ابنُ تيمية قوله: «إن الله يَنْصُرُ الدولةَ العادلةَ، وإن كانت كافرة، ولا ينصُرُ الدولةَ الظالمة، وإن كانت مُؤمنة»(3).
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله تعالى: ومن أراد صلاح المجتمع الإسلامي، أو صلاح المُجتمعات الأُخَرى في هذه الدنيا بغير الطرق والوسائل والعوامل التي صلح بها الأولون، فقد غلط، وقال غير الحق» (4).
ولا شك أن للإصلاح والتغيير أدوات عمل، من خلالها يُسد الخلل، ويعالج النقص، ويُغير ما لا بد من تغييره، والإصلاح المعتبر هو الذي يقوم بالطرق المجدية الموصلة إلى مقاصد الإصلاح، لا بالاندفاعات الآنية، فكم من مشاريع لم تنل حقها في دراسة جدواها، وسرعان ما تضاءلت الأهداف وتراجعت لينتهي المشروع وهو في سنواته الأولى.
والناظر في تاريخنا الإسلامي عبر عهوده المختلفة والممتدة منذ عهد رسولنا الكريم[ وإلى عهد قريب يجد نماذج رائعة لمؤسسات وقفية كان لها الدور الأكبر في الإصلاح والتغيير، الإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري والتعليمي والاجتماعي والتنموي. وكان من نتاجها الإصلاحي مساهماتها في مراحل الإصلاح في الأمة، فقد ترك الوقف بمؤسساته ومخرجاته بصمات لا تُمحى في صفحات التاريخ الإسلامي، وكان له الدور الأكبر في المجالات التي تُصلح حياة العباد وحفظ البلاد، فآثار الوقف الإسلامي بمؤسساته المتنوعة من دينية وتعليمية وطبية وعمرانية واقتصادية، وغيرها من مجالات الحياة، تدل على دوره وفضله الوظيفي.
والوقف كان له الدور الأكبر في مواجهة الكثير من التحديات والمشكلات التي واجهت أمتنا الإسلامية عبر تاريخها الحضاري، فساهم الوقف في كل مناحي الحياة الاجتماعية والعلمية والعسكرية الدعوية والإنمائية.
وتجلت روعة الوقف الإسلامي في التطبيق العملي لهذه المنظومة الفقهية الرائعة، التي وضعها فقهاؤنا من خلال الحضارة الإسلامية، التي امتدت على مدار أربعة عشر قرناً(5).
والباحث في تاريخ الوقف الإسلامي وتطبيقاته عبر العهود الإسلامية يجد أن الوقف قد شمل في إصلاحه وتغييره معظم شرائح المجتمع، وضم تحت جناحيه مختلف الطبقات من كل المستويات، وانضوى تحت لوائه المسلمون وغير المسلمين، رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، فقراء وأغنياء، وأواسط الناس من زرّاع، وصنّاع وتجار، وأصحاب حِرف، مروراً بالأثرياء، وأصحاب المناصب في الدولة، إلى جانب العلماء وطلاب العلم، وصولاً إلى الأمراء والسلاطين والولاة(6).
فالوقف الإسلامي كان وما زال مشروعاً حضارياً، إن أحسن تطبيقه بتشريعاته وأحكامه ومخرجاته ومقاصده وغاياته، فإن كثيرا من المشاكل التي نعيشها ستحل بمشيئة الله تعالى؛ فإن عظمة الوقف الإسلامي بتشريعاته وأحكامه وتطبيقاته ومخرجاته، وهي موائمة لمتطلبات كل عصر ومِصْر. فنظام الوقف نظام مرن، لذا أخرج أهل العلم له المسائل وقعدوا له القواعد، واجتهد عدد من كبار الفقهاء من مختلف المذاهب في النظر في أحكامه وضبطها وبحث الجديد منها، ونشر المئات من المسائل وتفريعاتها المتعلقة بفقه الوقف.
وهو قادر على أن يدخل في كافة مجالات الحياة، فيُلَبِّي مطالبها على أكمل وجه وأتمِّ صورة، فلا يحتاج الفقراء إلى غيرهم في سدِّ حاجتهم، ولا ينكمش المجاهدون في ثغورهم عن الجهاد بسبب احتياجهم؛ لأن الوقف مدد كاف لعددهم وعُدَّتِهم؛ فيُسهم إسهاما فاعلا في بناء الرباطات والمراكز في مناطق التقاتل والتَّمَاسَّ مع العدوِّ، وتقديم الدعم للمجاهدين، فيُصرف منه أرزاقهم، ويُشترى به الكُرَاع والسلاح(7).
الأدوار التي حققها الوقف في العهود الإسلامية :
الوقف كان - ولا يزال - له دور فاعل اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً، وحقق في العهود الإسلامية انجازات وخدمات لمئات السنين، وساهم في توفير الحاجيات الأساسية لحفظ كرامة الإنسان، والبيئة، والحيوان، وكان له الدور في تقليص الفروق بين الفقراء والأغنياء، فقد شمل كل مناحي الحياة التعبدية والتعليمية والثقافية والإنسانية والإرشادية والمعيشية والإغاثية :
1. توفير الأمن الغذائي، وتحقيق الحاجيات الأساسية.
2. توزيع الثروة وتقليل الفجوة بين طبقات المجتمع.
3. توفير التعليم المجاني للفقراء من خلال المدارس والجامعات.
4. توفير الأمن الصحي للفقراء والمحتاجين من خلال المستشفيات (البيمارستانات ).
5. رعاية الأيتام وكفالتهم وتربيتهم من خلال الوقف الخاص بهم، أو الوقف العام للفقراء والمحتاجين.
6. توفير عدد من الوظائف من خلال النظار والموظفين والمشرفين ونحوهم في المؤسسات الوقفية والمساجد والمدارس والأراضي والمقابر، ونحوها.
7. المساهمة في تطوير العمل الخيري في المجتمع الإسلامي من خلال العمل المؤسسي للجمعيات والمؤسسات الوقفية.
8. المساهمة في عملية التنمية الاقتصادية، وزيادة عوامل الإنتاج كمّاً ونوعاً، واستيعاب التقنية الحديثة، وزيادة الموارد من خلال الاستثمار(8).
الأوقاف ودورها الإصلاحي في العهد الزنكي والأيوبي:
حين نقلب صفحات التاريخ نرى أن الحالة التي كانت عليها الأمة في المشرق الإسلامي على وجه الخصوص حين بدأ مشروع الحملات الصليبية لاحتلال القدس ومدن المشرق الإسلامي، وكانت مزرية. فالكثير من المدن والدويلات لم تصمد أمام الهجمات الصليبية بسبب الضعف والهوان والتشتت.
وأدى ضعف الخلافة العباسية وانتشار الفرق الباطنية وسيطرتها على الكثير من الدول والمدن إلى سقوط القدس بأيدي الصليبيين، واستمرار احتلالها واحدا وتسعين عاما، وكان لحكام النصارى صولة وجولة في أرض المسلمين في ظل الدولة الفاطمية.
ولعلنا نتساءل: كيف كان الخروج من ذلك الظلام؟! وكيف أحييت الأمة من جديد وعرفت طريق نصرها وعزتها؟! ومن قاد مسيرة التغيير وكيف قادها؟! وما أدوات التغيير التي تُسهم في تغيير الواقع ؟!
لا شك أن الدور الأول والأساس في إحياء الأمة من جديد – في تلك الفترة – قام به العلماء الصالحون المصلحون الذين عرّفوا الناس طريق النصر والعز، وهو طريق الرجوع إلى الله تعالى، وأفهموهم أن للنصر سننا لا بد أن نسير عليها ليتحقق موعود الله بالتمكين:{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}، وكان شعارهم هو ما قاله أبو الدرداء رضي الله عنه: “نحن قوم نقاتل عدونا بأعمالنا”.
وتلك كانت بداية مبشرات ومقدمات إحياء الأمة من جديد، فقام العلماء مجتمعين بالإنكار على الخليفة العباسي «الراشد بالله» حيث كان ظالما وفاسدا وشارباً للخمر، ولم يحرك ساكنا مع كل النصح لحفظ بيضة المسلمين ومحارمهم والدفاع عن مقدساتهم وصد نفوذ الفرق الباطنية الني أضعفت الخلافة وشقت الصف وحرفت عقائد المسلمين وتحالفت مع النصارى ولم تدافع عن القدس والمسجد الأقصى... وكان آخر الدواء الكي!! حين أجمعوا على العمل لتغيير الواقع بالإصلاح الشامل - الراعي والرعية - فنشروا حلقات العلم الوقفية، ونشطوا في واجب الدعوة إلى الله تعالى والتمسك بالكتاب والسنة عبر المدارس والمكتبات العلمية الوقفية؛ مما أعطى العلماء مكانة وكلمة بين الناس، ونصحوا الخليفة وحذروه ثم نقضوا بيعته وأعلنوا البيعة لعمه، الذي قام بالإصلاح والتغيير لمصلحة المسلمين.
وعين الخليفة حاكما للموصل وهو المجاهد عماد الدين الزنكي (539هـ - 1145م)، ومن هنا بدأ العمل الفعلي، فهذا الرجل الصالح حث الناس على الوقف، وأقام حلقات العلم بأموال الوقف، وأعاد تدريس باب الجهاد وقراءته في تلك الحلقات، وبدأ بالعلم والإصلاح وتهيأ الأمة للجهاد مما وفرته الأوقاف من إيرادات.
وحين أعلن عماد الدين - رحمه الله - توحيد الأمة حورب من الدويلات ومنع عنه الإمداد والسلاح والمال، فكانت الأوقاف عوناً له على الجهاد، فأمر المجاهدين أن يتجمعوا من كل مكان في الموصل، ومنها بدأ تحركه على الدويلات فقصد حلب وضمها إلى حكمه بعد 46 سنه تحت الحكم الصليبي، فاستشعر البابا بالخطر، وتحالف حاكم دمشق المسلم مع حاكم القدس النصراني فقام الفاطميون باغتيال عماد الدين زنكي فتولى مقاليد الحكم من بعده ابنه البطل نور الدين زنكي - رحمهما الله - وكان تربى في حلقات العلم الوقفية وسيرة والده الجهادية، وكان من أعظم الحكام المسلمين في ذلك الزمان.
فبدأ بالإصلاح، ونشر الدعاة بين الناس وقضى على الفساد، وأصلح الاقتصاد، وأصلح الحكم والاقتصاد والحركة الاجتماعية، وبعد ذلك بدأ يعد للجهاد، وعين قادة باسلين منهم أسد الدين شيركوه بن شادي بن أيوب ويسمى شيركوه الأيوبي وأخوه نجم الدين أيوب بن شادي بن أيوب وهو والد صلاح الدين الأيوبي.
كان نور الدين – رحمه الله- من مبادئه الرئيسة: أن الأمة حتى تستطيع أن تواجه لا بد أن تعدّ، ولا يمكن لأمة ضعيفة مفككة أن تنتصر فلابد من إعدادها إيمانيا وفكرياً وعقائديا واجتماعيا وجهاديا واقتصاديا، وكان الوقف بأصوله وإيراداته مدداً للمجاهدين.
وتنامت الأوقاف في العصر الزنكي، وتنوعت تنوعاً فريداً، من دور العلم والأربطة والكتاتيب. ونصب نور الدين محمود – رحمه الله – جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على المعلمين، وامتد هذا التكليف إلى سيغار وحران والرها والرقة ومنبج وشيزر وحماة وحمص وبعلبك وصرخه وتدمر وغيرها(9).
ورغم انشغال نور الدين محمود – رحمه الله – بالجهاد إلا أنه جمع الكثير من كتب العلم ووقفها على طلابه، ورتب مراحل الدراسة من الكتاتيب إلى المدارس إلى التخصصات، وجعل لها الأوقاف لتصرف على المحتاج منهم حتى يُنهي تعليمه، والمدرسة النورية في دمشق أوقفت لها أوقاف لتستمر في عطائها، وانتشرت المستشفيات في عهده كالمستشفى النووي بدمشق (549 هـ) وكان من أحسن المستشفيات في الدنيا في ذلك الزمان، وظل يعمل لأكثر من ثمانمائة سنة.
وكان من بركة عمل الأبطال المصلحين عماد الدين وابنه نور الدين الزنكي – رحمهما الله - ومن سبقهم من العلماء وعلى مدى خمسين عاما من العمل والإصلاح والإعداد والجهاد، أن تقلد القائد «صلاح الدين الأيوبي» الوزارة في مصر ومن هنا بدأ التغيير ليتحقق النصر الفعلي؛ لأن من سنن الله تعالى أن جعل للنصر أسبابا، وللهزيمة أسبابا كذلك، فأخلص القائد صلاح الدين النية لله تعالى وأصلح وأعاد مصر إلى العقيدة الصحيحة وجند العلماء والوُعَّاظ لحث الناس على الجهاد في سبيل الله، ووحد الأقاليم والممالك لإعداد القوة المادية، وإمداد المعركة بالجنود وتحقيق الوحدة الإسلامية.
واهتمَّ الأيوبيون ببناء الأسبلة والسقايات الموقوفة في الأماكن البعيدة والقريبة من العمران، وجعلوا كثيراً منها ملاصقاً للمدارس والجوامع والكتاتيب والمشافي، وأنفقوا كثيراً من الأموال لجرِّ هذه المياه من البرك والأنهار إلى أماكن الأسبلة، فهذا الملك الكامل الأيوبي نراه يجرُّ الماء من بركة الحبش (جنوب حي مصر القديمة) إلى حوض السبيل والسقاية في مدرسة وقبر الإمام الشافعي بالقرافة (شرق القاهرة)، وهي مسافة تُقَدَّر بأربعة كيلومترات أو أزيد بقليل(10).
وقد وصف ابن جبير الرحالة المستشفى الذي بناه صلاح الدين في القاهرة فقال بإعجاب شديد: «ومما شاهدناه من مفاخر هذا السلطان المارستان الذي بمدينة القاهرة، وهو قصر من القصور الرائعة حُسْناً واتساعاً أبرزه لهذه الفضيلة تأجُّراً واحتساباً، وعَيَّن قَيِّمًا من أهل المعرفة، وضع لديه خزائن العقاقير، ومكَّنه من استعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف أنواعها، ووضعت في مقاصير ذلك القصر أسرَّة يتخذها المرضى بكرة وعشيَّة، فيقابلون من الأغذية والأشربة بما يليق بهم»(11).
والجميل أنه وُجدت أوقاف لفكاك أسرى المسلمين؛ فقد كان المسلمون في العهد الأيوبي على جهاد ومرابطة دائمة مع الصليبيين، وكان هناك كثير من أسرى المسلمين في يد الإفرنج، فحرص كثير من الأمراء وكبار رجال الدولة على إنشاء الأوقاف الدارَّة؛ للإنفاق من ريعها على فكاك أسرى المسلمين، ومن أهم هذه الأوقاف: وقف الملك الناصر صلاح الدين – رحمه الله – في مدينة بلبيس في مصر؛ فقد «وقف مُغَلَّ بلبيس على كثرته على فكاك الأسرى منهم، وسامح أهل بلبيس بخراجهم إلى آخر أيامه»، ويُعَدُّ وقف القاضي الفاضل – رحمه الله – (ت596هـ) من أَجَلِّ هذه الأوقاف، فمما رواه ابن شهبة في تاريخه ونقله عنه ابن العماد الحنبلي أن القاضي الفاضل: «كان له بمصر ربْعٌ عظيم يؤجر بمبلغ كثير، فلما عزم على الحج ركب ومرَّ به ووقف وقال: اللهم إنك تعلم أن هذا الربع ليس شيء أحبَّ إليَّ منه، اللهم فاشهد أني وقفته على فكاك الأسرى»(12).
تطبيقات إصلاحية لأوقاف صلاح الدين في القدس:
لما حرر الناصر صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- القدس وفلسطين من أيدي الصليبيين، أراد أن يعيد الحياة للقدس ليهيئ مرافقها لاستقبال من شد الرحال إلى المسجد الأقصى، وإعادة الطابع الإسلامي لها، وأول ما فكر فيه صلاح الدين الأوقاف، فأنشأ الأوقاف الكثيرة لإعادة الحياة للمدينة المباركة.
ولكي تستمر وتدب الحياة في المدينة حبس الأوقاف - بداية - التي تصرف على إمام المسجد الأقصى والعاملين فيه، حيث أوقف صلاح الدين على مصالح المسجد الأقصى سوقاً لبيع الخضراوات وسوقاً لبيع القماش.
ثم تتالت الأوقاف التي طالت كل ما يصلح البلاد والعباد، من مدارس كالمدرسة الصلاحية التي أنشئت عام 583هـ ووقفها السلطان عام 588هـ، وخصصت لتدريس المذهب الشافعي، ووقف عليها الكثير من الأملاك، ومن ضمنها: سوق العطارين في القدس ووادي سلوان (جنوب شرق القدس)، وحمام في باب الأسباط، وقرية عين سلوان وفرن في محلة باب حطة، ودور متفرقة في القدس، وبستان بئر أيوب وأراض أخرى.
والخانقاه الصلاحية التي أوقفت للزاهدين والعابدين إيواء وتجمعاً لمجالسهم في 585 هـ، ووقف عليها السلطان طاحوناً وفرناً وحماما وحوانيت مجاورة وبركة ماء وقطعتي أرض مجاورتين وصهريجين، وتضم الخانقاه مسجداً وغرفاً للسكن ومرافق عامة، وعين للوقفية ناظرا. وأوقف كذلك المشافي ومن أشهرها البيمارستان الصلاحي حيث أمر السلطان صلاح الدين بأن تجعل الكنيسة المجاورة لدار الاستبار بيمارستاناً للمرضى - أي مستشفى - ووقف عليه مواضع وزوده بالأدوية والعقاقير؛ حيث كان علم الطب يُدرّس فيه إلى جانب ممارسته عملياً، وأوقف 40 بيتاً وفرناً في محلة القطانين وقبواً وطاحوناً و13 دكانا في سوق الزيت و22 حانوتا في سوق الزيت و6 مخازن وصهريجا كبيرا و16 قيراطاً من مزرعة حارة الإفرنج، وغرس زيتون يعرف بالتربة، وحكر خان الزيت مع حكر قبان الزيت، وقطعة أرض (المصرارة) ظاهر القدس منها 16 قيراطا حصة وقف البيمارستان.
وأوقف الكثير من كتّاب تعليم القرآن الكريم، وأوقف مقبرة باب الساهرة وكانت تسمى في السابق «مقبرة المجاهدين»، ولا تزال إلى اليوم مقبرة للمسلمين مع اندثار قسمها الشرقي، وتعدى اليهود على أراضٍ منها.
وأوقفت المطهرة التي تتكون من مجموعة من الغرف المخصصة للطهارة وأماكن للوضوء، ونزل: قسم للرجال، وقسم للنساء، ومجموعة غرف تؤجر لوقف المسجد الأقصى، وكثير من الأوقاف الأخرى كمقبرة الشهداء ومقبرة ماميلا.
وامتاز العهد الأيوبي بإنشاء المدارس والمعاهد والمراكز للطبابة والأسبلة والزوايا والمساكن والمقابر، وأوقفت لتلك الأوقاف أوقاف تدر ريعاً ليصرف عليها، فكانت مؤسسات خدماتية واقتصادية لخدمة سكان المدينة وزوارها، وكانت الأسواق والحمامات والخانات (الفنادق) التجارية أصلا ثابتا وريعا دائما(13).
وهكذا أعاد الناصر الفاتح صلاح الدين الأيوبي الحياة إلى القدس بأن أوقف الأوقاف التي طالت كل مناحي الحياة؛ ليصرف من ريع الأوقاف على المسجد الأقصى وتسهيل شد الرحال والمكوث في القدس، وتوفير الطعام والشراب والمأوى والتعليم والطبابة لأهل القدس وما حولها.
وعادت الحياة إلى القدس سريعاً بعد أن غُيب عنها المسلمون 91 عاماً، وهي في ظل رماح الاحتلال الصليبي، وخلال أقل من سنة كانت القدس تُقصَد ويشد إليها الرحال ويتقرب إلى الله في مجاورة المسجد الأقصى، وبفضل الله تعالى ثم فقه وحنكة الناصر صلاح الدين أعيدت الحياة الاقتصادية للقدس، وبعودتها عاد النبض لكل مناحي الحياة، وأسهم بذلك في رجوع المسلمين والاستقرار في القدس.
الهوامش:
1 -الموافقات للشاطبي 2/6، دار المعرفة، بيروت.
2-مقاصد الشريعة الإسلامية، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ص180، دار النفائس، الأردن ط 2002،1م.
3 - مجموع الفتاوى ( 28/ 62 ).
4 - فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز (1/249).
5- روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية، دار نهضة مصر للنشر، ط3، 2011م.
6- انظر : الوقف الإسلامي في لبنان، إدارته وطرق استثماره، د. محمد قاسم الشوم، ص 53، سلسلة الرسائل الجامعية (5)- دكتوراه، إدارة الدراسات والعلاقات الخارجية – الأمانة العامة للأوقاف،ط1، (1428هـ - 2007 م ).
7 - روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية، ص 19.
8- انظر للاستزادة : د. معبد الجارحي: ورقته المقدمة المنشورة ضمن أبحاث ندوة الوقف الخيري المنعقدة في أبوظبي ( ص120-123 )
9- تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر ( 57 / 121 ).
10 - نقلاً عن الذهبي: تاريخ الإسلام46/255.
11- نقلاً عن ابن جبير: رحلة ابن جبير ص25، 26.
12 - نقلاً عن ابن عماد الحنبلي، شذرات الذهب، 4/326.
13- انظر للاستزادة: أوقاف بيت المقدس وأثرها في التنمية الاقتصادية، مروان أبو الربع، ص ( 79-89) الدار العثمانية، الأردن، ط1، 1425هـ -2005م.
اعداد: عيسى القدومي