تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: عرفة في القديم وخبر عبد الله بن عامر بن كريز

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي عرفة في القديم وخبر عبد الله بن عامر بن كريز

    عرفة في القديم وخبر عبد الله بن عامر بن كريز
    الأمير شكيب أرسلان

    إنَّ في صحراء عرفةَ آبارًا معطَّلة، احتفرها آباؤُنا وأهملْناها نَحن، فدلَّت على أنَّ الأبناء قصَّروا عن شأو الآباء، وأنَّ الأبناء إنَّما ارتفقوا بِما عجز الحدثان عن طمْسِه من مآثِر الآباء، ولكنَّهم لم يَزيدوا عليها شيئًا، بل هم لم يُصْلِحوا ما عطَّله الدَّهر من حُلاها، والحال أنَّ الآخِر حقيقٌ بأن يَزيد على الأوَّل، وأنَّ الذي يتسنَّى للخلف بِما استفادوه من عِبَر الدَّهر المتراكمة، واستثْمروه من التَّجاريب المتكرِّرة، لم يكن يتسنَّى للسَّلف، فنحنُ ترانا بعكْس القاعدة نعجز في عنفوان المدنية عن مباراة ما حقَّقه أجدادُنا في حداثتِها، وليت شعري لو لم تكن زبيدة امرأة هارون الرَّشيد أجرتْ مياه نعمان إلى عرفات، مَن يقول إنَّ رجلاً من مُسلمي اليوم - فضلا عنِ امرأة - تسمو همَّته إلى القيام بمشروع كهذا.
    فعرفات التي هي ما هي اليوم من القحولة واليبوسة، والتي كان الحاجُّ يظمأ فيها إلى الموت لولا قناة عين زبيدة المارَّة بها، قد كانت في الماضي ذاتَ رياض وغياض، وسقايات وحياض، انظر ما في "معجم البلدان" بشأن عرفات فهو يقول: "قال ابن عباس: حدُّ عرفة من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى جبالِها إلى قصْر آل مالك ووادي عرفة. وقال البشاري: فرعة[1] قرية فيها مزارع وخضر ومباطخ، وبها دور حسنة لأهل مكَّة ينزلونها يوم عرفة، والموقف منها على صيحة عند جبل متلاطئ - أي متدانٍ إلى الأرض - وبها سقايات وحياض وعلم بني يَقِفُ عنده الإمام...إلخ".
    وقد ذكروا في أخبار عبدالله بن كُريز العبشمي، الذي كان من شجعان الصَّحابة وأُسُود فتوحات الإسلام، وهو الذي فتح فارس وخراسان وسجستان وكابُل - بضم الباء - أنَّه اتَّخذ النِّباج[2] وغرس فيها، فهي تدعى نباج ابنِ عامر، واتَّخذ القريتيْن أو غرس بِها نخلاً، وأنْبط عيونًا تُعْرَف بعيون ابْنِ عامر، بينها وبين النِّباج ليلة على طريق المدينة وحفر الحفير، ثُمَّ حفر السمينة، واتَّخذ بقرب قباء قصرًا وجعل فيها زنجًا ليعملوا فيه، فماتوا فتركه، واتَّخذ بعرفات حياضًا ونخلا، وولي البصرة لعثمان بن عفان فاحتفر بها نهرين وحفر نهر الأبلَّة، وكان يقول: لو تركت لخرجت المرأة في حداجتِها على دابَّتها ترِدُ كلَّ يوم ماءً وسوقًا حتَّى توافي مكة، وكان علي بن أبي طالب يقول عنه: إنَّه فتى قريش. مات سنة 59.
    فالإسلام ولاسيَّما العرب في أشدِّ حاجةٍ إلى رجال كعبدالله بن عامر بن كريز العبشمي، الفاتح الماتح، المعمِّر المثمِّر، الذي كان مغرمًا بالعمارة حيث حلَّ وأيْنما ارتحل، وناهيك بِمن يقول فيه أميرُ المؤمنين - كرَّم الله وجهَه - إنه "فتى قريش"[3].
    ولنا الرجاء في معالي هِمم جلالة ابْنِ سعود الذي حضَّر طائفةً كبيرة من الأعراب، وبنى لهم "الهُجَر" (جمع هجرة، وأصل معنى المُهاجرة في العربي النزوع من البادية إلى الحاضرة[4]) وحَملهم على الحرْث والزرع، ولا يزال يشوِّق النَّاس إلى الحضارة - أن تنصرِف تلك الهِمم الشمَّاء، إلى استِنْباط المياه، واحتِقار الآبار الارتوازيَّة في الصحاري المحْرِقة، حتى يعود بِها الغامر عامرًا، واليابس ناضرًا، والموات حيًّا، والجماد غضًّا طريًّا.
    ولنذكر شيئًا عن البقاع التي عمرها الصحابي الجليل عبدالله بن عامر بن كريز، فالنِّباج كما نقله ياقوت عن أبي منصور نباجان، أحدهما: موضع على طريق البصرة، يقال له نباج بني عامر وهو بِحذاء فيد، والآخر: نباج بني سعد بالقريتَين، وقال غيره: النباج لحجَّاج البصرة، وقيل: النباج بين مكَّة والبصرة للكُريْزيين، وقال عبد الله السكوني: النباج من البصرة على عشر مراحل، وقال: النباج استنبط ماءه عبدالله بن عامر بن كريز، شق فيه عيونا وغرس نخلاً وولده به، وساكنه رهطه بنو كُريز ومن انضمَّ إليْهِم من العرب" انتهى.
    وأمَّا الحفير فإنَّه اسم لأكثر من عشرين بئرًا ومنزلاً في بلاد العرب، هذا على تقْدير أنَّه بوزن فَعيل بفتح الأول وكسْر الثاني، وأمَّا إذا كان لفظه مصغَّر حفْر؛ أي بضمِّ الأوَّل وفتح الثاني، فهو اسم لمنازل عدَّة أيضا[5] وقال الحفصي: إذا خرجت من البصرة تُريد مكَّة فتأخذ بطْن فلج، فأوَّل ماء ترد الحفير. قال بعضهم:
    وَلَقَدْ ذَهَبْتُ مُرَاغِمًا *** أَرْجُو السَّلامَةَ بِالحُفَيْرِ
    فَرَجَعْتُ مِنْهُ سَالِمًا *** وَمَعَ السَّلامَةِ كُلُّ خَيْرِ
    وأمَّا السُّمَيْنة - بضمِّ الأوَّل وفتْح الثَّاني على التَّصغير - ففي المعجم أنَّه أوَّل منزل من النِّباج للقاصد إلى البصرة، وأمَّا قباء التي اتَّخذ بها عبدالله بن عامر بن كريز قصرًا فلا نظنُّها قباء التي في المدينة على مسافة ميليْن منها على يسار القاصِد إلى مكَّة، والتي فيها المسجد الذي أُسِّس على التَّقْوى من أوَّل يوم، ولكنِّي أظنُّها قباء التي يقول عنها ياقوت في معجمه إنَّها "موضع بين مكَّة والبصرة" والدَّليل على ذلك أنَّ عبدالله بن عامر ولي البصْرة لعثمان بن عفَّان فأكثر من البناء والحفر والغراس على الطريق المؤدِّية من البصرة إلى مكَّة، فالنباج والحُفَير (بضم ففتح على التَّصغير) والسُّمينة (بالتصغير أيضًا) كلُّها على هذا السَّمت، فالأشْبه أن تكون قباء التي بنى عبد الله فيها صرحًا هي قباء التي موْقِعها بين مكَّة والبصْرة، ولقد أوْرد ياقوت بعد ذِكْرِه قباء التي بين مكَّة والبصْرة أبياتًا للسري بن عبد الرحمن بن عتبة بن عويْمِر بن ساعدة الأنصاري، ممَّا يوهم أنَّ هذه الأبيات قيلت في قباء هذه، والأوْلى هو أن تكون قباء المقصودة في شعر السَّري بن عبد الرحمن الأنصاري هي قباء المدينة المنوَّرة؛ لأنَّ الأنصار كان لهم مساكنُ فيها، ولأنَّه يصِف فيها ماءَ بئر عروة الشَّهيرة بالعذوبة، والتي يُقال إنَّه كان يُحمل من مائها إلى هارون الرَّشيد وهو بالرَّقَّة، وبئر عروة هي في ضواحي المدينة كما هو معلوم، وعندها بستان لطيف.
    وقد قسم الله لي النزهة "أو القيلة كما يقول أهل الحجاز" عند هذه البئر منذ خَمسَ عشرة سنة قبل الحرب العامَّة بقليل، ووجدتُ من خفَّة مائِها وحلاوته ما تذكَّرته هذه المرَّة عند شربي من بئر جعرانة التي في ضواحي مكَّة، أمَّا الأبيات التي استشهد بها ياقوت فهي هذه.
    وَلَهَا مِرْبَعٌ بِبُرْقَةِ خَاخٍ *** وَمَصِيفٌ بِالقَصْرِ قَصْرِ قُبَاءِ
    كَفِّنُونِي إِنْ مِتُّ فِي دِرْعِ أَرْوَى *** وَاغْسِلُونِي[6] مِنْ بِئْرِ عُرْوَةَ مَائِي
    سُخْنَةٌ فِي الشِّتَاءِ بَارِدَةُ *** الصَّيْفِ سِرَاجٌ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ
    وخاخ هي روضة خاخ بقُرب حمراء الأسد من المدينة، كانت من الأحماء التي حماها النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الرَّاشدون، يقال: إنها في حدود العقيق بين الشوطي والناصفة، وقد أكثر من ذكرها الشُّعراء، وكانت فيها منازل لأئمَّة من آل البيت وغيرهم من أعيان المدينة.
    وأمَّا نهر الأبلَّة الذي يقال: إنَّ عبدالله بن عامر شقَّه، فهو نهر بالبصرة، وهو إحدى جنان الدُّنيا الأرْبع بِحسب قوْلِ بعضِهم، وهي غوطة دمشق، وصغد سمرقند، وشِعْب بوَّان، ونهر الأبلَّة.
    وحكيَ أنَّ بكر بن النطاح مدح أبا دُلَف العِجْلي بقصيدةٍ، فأثابه عليْها عشَرة آلاف درهم، فاشترى بها ضيعة بالأبلَّة، ثُمَّ جاء بعد قليل وأنشده:
    بِكَ ابْتَعْتُ فِي نَهْرِ الأُبُلَّةِ ضَيْعَةً *** عَلَيْهَا قُصَيْرٌ بِالرُّخَامِ مَشِيدُ
    إِلَى جَنْبِهَا أُخْتٌ لَهَا يَعْرِضُونَهَا *** وَعِنْدَكَ مَالٌ لِلْهِبَاتِ عَتِيدُ
    فقال أبو دلف: وكم ثَمن هذه الضَّيعة الأخرى؟ فقال: عشَرة آلاف درهمٍ، فأمر أن يُدْفَع ذلك إليْه، فلمَّا قبضَها قال له أبو دلف: "اسْمع منِّي يا بكر، إنَّ إلى جنْبِ كلِّ ضيعةٍ أخرى إلى الصين، وإلى ما لا نِهايةَ له، فإيَّاك أن تَجيئَني غدًا وتقول: إلى جنب هذه الضَّيعة أخرى، فإن هذا شيء لا ينقضي".
    خاف أبو دلفٍ أن تَصير ضياع بكر بن النطاح مثْلَ مستعمرات الإنكليز، كل واحدةٍ تَجُرُّ جارتَها، وهلمَّ جرًّا.
    ـــــــــــــــ ـــــ
    [1] كذا في المطبوع [الألوكة].
    [2] هو بالكسر ككاب اسم قرية.
    [3] قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من الإصابة: ولد على عهد النبي صل الله عليه وسلم وأني به إليه وهو صغير فقال "هذا اشبهنا" وجعل يتفل عليه ويعوذه فجعل يتبلغ ريق النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لنبي - صلى الله عليه وسلم - "إنه لمسقي" وكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء حكاه ابن عبد البر ا. هـ ثم قال وهو أول من اتخذ الحياض بعرفة وأجرى إليها العين.
    [4] أي ثم عم استعماله في كل تحول من مكان سكني إلى غيره ومنه هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنه - من مكة إلى المدينة ولفظ الهجرة اسم للمهاجرة واسم المكان "مهاجر" بفتح الجيم بوزن اسم المفعول، وفي نجد يسمونه هجرة.
    [5] قال في المصباح: والحفر بفتحتين بمعنى المحفور مثل العدد والخيط والنقض بمعنى المعدود والمخيوط والمنقوض ومنه قيل للبئر التي حفرها أبو موسى بقرب البصرة "حفر" وتضاف إليه فيقال: حفر أبي موسى وقال الأزهري: الفر اسم المكان الذي حفر كخندق أو بئر والجمع أحفار مثل سبب وأسباب، والحفيرة ما يحفر في الأرض فعيله بمعنى مفعولة والجمع حفائر والحفرة مثلها والجمع حفر مثل غرفة وغرف ا. هـ.
    [6] كذا والرواية المعروفة: وامتحوا لي [الألوكة]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    1,571

    افتراضي رد: عرفة في القديم وخبر عبد الله بن عامر بن كريز

    جزاك الله خيرا...
    صفحتي على الفيس بوك
    كتب خانة


  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: عرفة في القديم وخبر عبد الله بن عامر بن كريز

    آمين
    بارك الله فيكم

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •