صائح الدين
الشيخ: عبد الرحمن الضبع
لا الفقيهُ العابدُ مُقيماً في محرابه يعبدُ الله تعالى ويذكره، ويُمجِّده ويُوحِّده، ولا الناسك في صومعته يقيمُ ليلَه ويصومُ نهارَه، ولا المرشد الحصيف الفطن اللبيب البليغ، يرشد الناس ويعظهم ويبصرهم وينهاهم ويأمرهم، ويستهويهم بحسن بيانه وبليغ كلامه، حتى يأخذ بألبابهم، ويمسك بأزمتهم، ولا الإمام العادل الجدير بأن تلقي إليه رعيتُه قيادَها، وأن تسلم له زمامها...،
أقول: لا أحد من هؤلاء وغير هؤلاء بأصدق من الدين في تجاربه، وأصح في قضاياه، ولا أحكم قولاً وأتمَّ حكمة منه، ولا سبباً إلى السعادة أقوى وأقدر منه على تغيير ما درجَ عليه قومٌ من فسادٍ في العادات، وانحلالٍ في الأخلاق، لطول ما غطَّى على عقولهم من الجهل، ورانَ على قلوبهم من الغفلة فهم لا يفقهون، يصبحون كما يمسون في ليلٍ دامس، مُظْلم كثيف الإظلام، يركب بعضه بعضاً، يقطعون ما من شأنه أن يوصل، ويصلون ما من حقِّه أن يقطع، ينصرفون عن الله وهم حسنة من حسناته، ويجحدونه وهم آية من آياته، يقولون: إنَّا وجدنا آباءنا على أُمَّة، وإنا على آثارهم مقتدون...
ويجيء الدين، وهم على ما رأيت، وما هو إلا أن يصيح بهم صائحه، ويناديهم مُناديه، حتى ينتبهَ النائمُ من نومه، والراقد من رقدته، والغافل من غفلته، ويجلو صدأ الجهل عن عقول الجاهلين، وإذا هم ينظرون ويتأمَّلون، فيرون التواءَ سُبُلِهم، واعوجاجَ مذاهبهم، ومرذول عاداتهم، وسوء أخلاقهم، ثم يعيدون النظرة والكرَّة والفكرة، ويوازنون بين ما هم عليه وما يأمرهم به الدين، فيرون العلاجَ الشافي، فيما جاء من عند الله عزَّ وجل، وما هو إلا أن تنجلي عنهم الغشاوة، حتى يشرقَ عليهم صبحٌ من الرشاد، وحتى يؤمنوا بالله تعالى، ويتوبوا إليه، وإذا المولى جلَّ شأنُه يُحَوِّل نفوسَهم من الرذيلة إلى الفضيلة، فيصبحون بنعمة الله خَلْقاً آخر، قد صلح الفاسد من عاداتهم، واستقام المنحلُّ من أخلاقهم، وإذا هم على الجادَّة سائرون، وعلى صراط الله المستقيم ماضون، وإلى السعادة المرموقة مُقبلون، وكان الله على كل شيء مُقتدراً.
تلك ناحية من نواحي الخير الذي أتى به الدين، وكل ما جاء به الدين خير ويُمن وبركة للبشرية جمعاء، وقد قصرنا القول في مقالنا هذا، على فعل الدين في تقويم الأخلاق، وإصلاح الفاسد من العادات، ذلك لأنَّ أكثر الخير الذي جاء به الدين، مبعثه ومردُّه ومأتاه، إلى تقويم النفوس وتمحيصها، لتكون للخير منشأ، ومرجع ذلك إلى جميل الخلق، وكريم السجايا.
قد يقال: إنَّ التربية والمخالطة تؤثر في الأخلاق، وتحول الشر منها إلى الخير، وذلك بالقياس إلى تأثير الدين لا يعدُّ شيئاً، فالدين إذا وَقَرَ في القلب أراك المتكبِّرَ المستعلي الشامخ مُتواضعاً شديدَ التواضع، وأراك الشحيحَ الممسك كريماً مُنفقاً، وأراك الكذاب صادقاً لا يكذب، وأراك الجبان شجاعاً لا يهاب الموت، وهكذا، وهكذا.
قال أحدُ العارفين: إذا كان الدينُ إنساناً له عين، فالأخلاقُ الفاضلة عينه، أو شجراً له ثَمَرٌ، فالأخلاقُ الفاضلة ثَمَرُه، أو ينبوعاً فالأخلاق الفاضلة مَاؤُه.
وما لنا نذهب بعيداً، وهذه آياتُ الذكر الحكيم، والأحاديث النبويَّة والآثار الخالدة، كلها تحثُّ على مَكَارِم الأخلاق، وتَنْهى عن مَرْذولها.
يقولُ الله تعالى ُممَجِّداً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم:[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4}، ويقول صلوات الله تعالى عليه: (إنما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق) ([1])، ويقول عليه الصلاة والسلام: (حُسْنُ الخلق وحُسْنُ الجوار، يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار ) ([2]).
ويلاحظُ أنَّ حُسْنَ الجوار من مَكَارِم الأخلاق التي حثَّ الدين على التمسك بها، فقد روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال - وهو مع أصحابه يوماً- : (والله لا يؤمن والله لا يؤمن، والله لا يؤمن قيل: ومن هو يا رسول الله ؟ قال: هو الذي لا يأمن جَارُه شَرَّه ) وفي رواية: بوائقه([3]).
وقال صلوات الله عليه: (إنَّ الله اختارَ لكم الإسلامَ ديناً، فأكرموه بحسن الخلق) ([4])، وقال صلى الله عليه وسلم: (أحبكم إلي الله أحسنكم أخلاقاً، الموطأون أكنافاً، الذين يَألفون ويُؤلفون) ([5]).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( ما حسَّن الله خَلْق امرئ وخُلُقه، فتَطْعَمه النار ) ([6]) . ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الجنة فقال: (أهل الجنة كل هين لين سهل الخلق) ([7]) .
ومن الآثار، قول ابن عباس رضي الله عنهما:( لكل بنيان أساس، وأساس الإسلام الخلق الحسن )، وقال حكيم: (الحَسَن الخلق من نفسه في راحة، والناس منه في أَمْنٍ وسَلام، والسيء الخُلُق من نفسه في تَعَب، والناس منه في عَنَاءٍ وجهدٍ وبلاء).
وأوصت أعرابية رشيدةٌ ابنَها فقالت: يا بني، عليك بحسن الخلق، وجميل العشرة، ولطف الموافقة، ولين الجانب والاحتمال للصاحب، وكفِّ الأذى، والمقاسمة في الغذاء، فإنك تستميلُ القلوب، وتنالُ كلَّ مطلوب، ويحفظك علام الغيوب.
وكما يفعلُ الدينُ في الشخص الواحد يفعل كذلك في الأمَّة، من جماعاتها وأسرها وأفرادها، والبرهان الناطق بصدق ذلك، ما كان عليه العرب قبل الإسلام، ثم ما تحوَّلوا إليه بعده، كانوا قبائلَ مُتفرِّقة، كانوا في جهالة جهلاء، وضلالةٍ عَمْياء، القوي منهم يَسْطُو على الضعيف، يسلبُه مَالَه، ويَسْبي نساءَه ورجالَه، ويسترقُّ أطفالَه، وما إن اسْتتبَّ الإسلامُ فيهم، ووقر في قلوبهم حتى تحوَّلوا في زمنٍ قَصيرٍ جداً، من النقيض إلى النقيض، وصاروا بنعمة الإسلام أمة مرهوبة، وإخواناً مُتحابين مُؤتلفين مُتعاونين فقويت شوكتهم وعَظُم شأنهم، وفتحوا الفتوح، ودوَّخوا الممالك، وثلوا العُروش، وأصبحوا إلى السيادة وعزِّ السلطان، نسألك اللهم إصلاح شؤوننا، وتقويم ما اعوجَّ من أخلاقنا، إنَّك على ما تشاءُ قدير.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
([1]) أخرجه أحمد (8952) من حديث أبي هريرة بلفظ: «صالح الأخلاق». وصححه الشيخ شعيب. وأخرجه ابن ابي شيبة (32433) من حديث زيد بن أسلم مرسلاً، بلفظ «صالح الأخلاق» أيضاً.
([2]) أخرجه أحمد (25259)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الهيثمي في (المجمع) 8: 153 : رجاله ثقات إلا أن عبد الرحمن ابن القاسم لم يسمع من عائشة.
([3]) أخرجه البخاري (6016)، ومسلم (46)، من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - .
([4])قال السيوطي في جامع الأحاديث 15 :96
عن حديث: قال لى جبريل قال الله إن هذا دين ارتضيه لنفسى ولن يصلحه إلا السماحة وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه
رواه : (سمويه ، وابن عدى ، والعقيلى ، وأبو نعيم ، والخرائطى فى مكارم الأخلاق ، والخطيب فى المتفق والمفترق ، وابن عساكر ، والضياء عن جابر وقال العقيلى : لم يتابع عليه إبراهيم بن أبى بكر بن المنكدر من وجه يثبت . و[الرافعى عن أنس])
حديث جابر : أخرجه العقيلى (1/46 ، ترجمة 34 إبراهيم بن أبى بكر بن المنكدر) ، وابن عساكر (55/290) . وأخرجه أيضًا : القضاعى (2/329 ، رقم 1461) ، والديلمى (3/178 ، رقم 4481) .
حديث أنس : أخرجه الرافعى (4/114) . قال أبو حاتم كما فى العلل (2/343) : هو حديث موضوع .
([5]) رواه الطبراني، في (الأوسط) (4422)، و(الصغير) (605)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ورواه في (الأوسط) (7697)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([6]) رواه الطبراني في (الأوسط) (6780)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال العراقي: أخرجه ابن عدي والطبراني في مكارم الأخلاق وفي الأوسط ، والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة . قال ابن عدي : في إسناده بعض النكرة. قال السيوطي في جامع الأحاديث 19: 9 (قال الهيثمى (8/21) : فيه عبد الله بن سعد البكرى وهو ضعيف).
([7]) رواه الطبراني في (الصغير) (89)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقال الطبراني: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ هِشَامٍ، إِلَّاعَبْدُ اللهِ تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُهُ عَنْهُ.