الليل في التراث
د. أحمد إسماعيل عبدالكريم
الليل آية من آيات الله عز وجل في الكون، وظاهرة من الظواهر الكونية في دورة الفلك، وهو صورة من صور الحياة في المنظومة الكونية، والليل مصدر من مصادر الراحة وتجديد الطاقات، وهو عالم فسيح بما يكتنفه من غموض أو يُظلله من سكون، تَنشط فيه حياة عالم الأرواح، فتسبح في عالم فسيح من الروحانية، وتتجول في عالم واسع لا تصل إليه بصائرُ الأحياء وعيونهم في حال يَقظتهم، والليل آية من محددات الزمن، فهو كائن محسوس من خلاله يستطيع الكائن الحي ضبط حياته، وتنظيمها بين الكد والراحة والسعي والسكينة، بين اللباس والمعاش في مسيرة الحياة.
الليل في اللغة:
تعددت المعاجم اللغوية التي أظهرت معاني لفظة "ليل"، ومن أبرز معانيها: الفترة الزمنية، فترة غياب الشمس، فالليل خلاف النهار، يقال: ليلة وليلات[1]، ويقول ابن منظور: الليل عقيب النهار، ومبدؤه من غروب الشمس، وفي التهذيب: الليل ضد النهار، والليل ظلام الليل، والنهار الضياء، وليلة ليلاء وليلى: طويلة شديدة صعبة، وقيل: هي أشد ليالي الشهر ظلمة، وبه سُمِّيت المرأة ليلى، وقيل الليلاء ليلة ثلاثين، وليل ألْيلُ ولائل، وقليل كذلك، قال: وأظنهم أرادوا بمليل الكثرة، كأنهم توهموا لُيِّلَ؛ أي: ضعف ليالي، قال عمرو بن شأس[2]:
وكان مجودٌ كالجلاميد بعدما ♦♦♦ مضى نصفُ ليلٍ بعد ليلٍ مُليَّلِ
وذهب إلى ذلك أيضًا صاحب التهذيب وذكر قول الفرزدق[3]:
قالوا وخاثرُه يردُّ عليهم ♦♦♦ والليل مُختلطُ العياطلِ أَلْيلُ
وليل أليلُ: مثل يوم أيوم، وألال القوم وأليلوا: دخلوا في الليل، وابن السكيت: يقال لليلة ثمان وعشرين: الدعجاء، ولليلة تسع وعشرين: الدهماء، ولليلة الثلاثين: الليلاء، وذلك أظلمها، وليلة ليلاء، أنشد ابن بري[4]:
كم ليلةٍ ليلاءَ مُلبسة الدُّجى ♦♦♦ أُفقَ السماء سَريت غير مُهيَّبِ
والليل واحدته: ليلة، والجمع ليالٍ على غير قياس، وتوهموا واحدته لَيلاة، ونظيره ملاح ونحوها مما حكاه سيبويه، وتصغيرها لييلية، شذ التحقير، كما شذ التكسير، هذا مذهب سيبويه في كل ذلك، وحكى ابن الأعرابي لَيلاة وأنشد:
في كل يومٍ ما وكل ليلاه
حتى يقول كلُّ راءٍ إذ راه
يا وَيْحَه من جمل ما أشْقاه
وحكى الكسائي: ليايل جمع ليلة، وهو شاذ، وأنشد ابن بري للكميت:
جمعتُك والبدرَ بنَ عائشةَ الذي ♦♦♦ أضاءتْ به مُسْحَنككاتُ الليايلِ
وقال الجوهري[5]:الليل: واحد بمعنى جمع، وواحده ليلة، مثل: تمرة وتمر، وقد جُمِع على ليال، وقال ابن فارس: جمع ليلة ليلات[6]، وعند الرازي ليلة: مفرد ليل[7]، ولليل معان ودلالات كثيرة لم نشأ ذكرها، وقد قصر البحث الحديث عن الليل المعني به الزمن.
الليل في القرآن الكريم:
وقد وردت لفظة "الليل" في القرآن الكريم بلفظ الجمع والمفرد في آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل، وهذه اللفظة لها من الدلالات الكثير، ففي كل موقع جاءت حاملة دلالة ومعنى، فمنها ما جاء على معنى الزمن، ومنها ما جاء في سياق دال على معجزة الليل، باعتبارها من الظواهر الفلكية المستمرة التي لا تخفى عن أعين الخلق جميعًا، وقد ضرب الله بها المثل على طلاقة قدرته، وسَعة إحكامه، وهكذا.
نذكر منها: قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [البقرة: 51]، وكذلك قوله تعالى: ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ﴾ [الأعراف: 54]، وقوله تعالى: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَ ا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ [الأعراف: 142]، وقوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ﴾ [الإسراء: 1]، وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾ [الإسراء: 12]، وفي قوله تعالى: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 78، 79]، وفي قوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ﴾ [مريم: 10]، وقوله تعالى: ﴿ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾ [الزمر: 5]، وفي قوله تعالى: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [الذاريات: 17]، وكذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]، وفي قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 1، 2]، وفي قوله تعالى: ﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ﴾ [الحاقة: 7]، وفي قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾ [النبأ: 10]، وقوله تعالى أيضًا: ﴿ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾ [النازعات: 29]، وفي قوله تعالى: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ [الفجر: 1 - 3]، وقوله تعالى: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴾ [الشمس: 4]، وفي قوله تعالى: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾ [الليل: 1]، وقوله تعالى: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ [الضحى: 1، 2]، وفي سورة القدر: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 1 - 3].
وقد ورد "الليل" في القرآن الكريم حاملًا كثيرًا من المعاني المليئة بالدلالات التي لا تَنفد ولا تنتهي.
الليل في الحديث الشريف:
كثُرت الأحاديث النبوية الشريفة التي ورد فيها لفظ "الليل"، وسنذكر منها:
♦ عن أبي موسى عبدالله بن قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل، حتى تطلُع الشمس من مغربها))[8].
♦ عن أبي شريح بن عمرو الخزاعي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُكرم ضيفه جائزته))، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: ((يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك، فهو صدقة))[9].
♦ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ليلة أُسري بي، وضعت قدمى حيث توضع أقدام الأنبياء من بيت المقدس، عُرض علي عيسى ابن مريم، فإذا أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود، وعُرِض عليّ موسى، فإذا رجل جعد ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، وعرض علي إبراهيم، فإذا أقرب الناس به شبهًا صاحبُكم))[10].
♦ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة، لملك فيها رجلٌ من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم))[11].
♦ عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلًا، فقال: ((ألا تُصليان؟))[12].
♦ عن سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نِعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل))، قال سالم: فكان عبدالله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلًا[13].
♦ عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبدالله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل))[14].
♦ وعن عبدالله بن سلام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام))[15].
♦ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))[16].
♦ وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثُلثه، وينام سُدسه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا))[17].
♦ عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله تعالى خيرًا من أمر الدنيا والآخرة - إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة))[18].
♦ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قام أحدكم من الليل، فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين))[19].
♦ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحِم الله رجلًا قام من الليل فصلى، وأيقَظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحِم الله امرأة قامت من الليل فصلَّت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء))[20].
♦ وعن أبي هريرة وكذا عن أبي سعيد رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلَّيَا - أو صلَّى ركعتين جميعًا - كُتِبا في الذاكرين والذاكرات))[21].
وقد أفاضت الأحاديث النبوية في ذكر الليل وفضل العمل فيه، وحثَّت على اغتنامه بالقيام والتقرب إلى الله عز وجل.
يتبع