قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
((وإذا قيل: إنه وُلد على فطرة الإسلام، أو خلق حنيفًا ونحو ذلك.
فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده.
فإن الله تعالى يقول: (وَاللهُ أَخرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمهاتِكم لا تَعلَمُون شيئًا) [سورة النحل:78].
ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، لمعرفته ومحبته.
فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له،
وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئًا بعد شيء،
بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت عن المعارض))
[درء تعارض العقل والنقل: (8/ 383)]. وقال رحمه الله:
((إذا ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته ومحبته، حصل المقصود بذلك،
وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك،
بل يحتاج كثير منهم في حصول ذلك إلى سبب معين للفطرة:
كالتعليم والتخصيص. فإن الله قد بعث الرسل، وأنزل الكتب،
ودعوا الناس إلى موجب الفطرة: من معرفة الله وتوحيده،
فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة، وإلا استجابت لله ورسله، لما فيها من المقتضى لذلك.
ومعلوم أن قوله: كل مولود يولد على الفطرة، ليس المراد به أنه حين ولدته أمه يكون عارفاً بالله موحداً له،
بحيث يعقل ذلك.
فإن الله يقول: (وَاللهُ أَخرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمهاتِكم لا تَعلَمُون شيئًا) [سورة النحل: 78]
ونحن نعلم بالاضطرار أن الطفل ليس عنده معرفة بهذا الأمر،
ولكن ولادته على الفطرة تقتضي أن الفطرة تقتضي ذلك، وتستوجبه بحسبها.
فكلما حصل فيه قوة العلم والإرادة، حصل من معرفتها بربها، ومحبتها له، ما يناسب ذلك
كما أنه ولد على أنه يحب جلب المنافع ودفع المضار بحسبه،
وحينئذ فحصول موجب الفطرة، سواء توقف على سبب،
وذلك السبب موجود من خارج، أو لم يتوقف، على التقديرين يحصل المقصود.
ولكن قد يتفق لبعضها فوات الشرط أو وجود مانع، فلا يحصل مقصود الفطرة)).
و في الفطرة قوّتين يجدهما الإنسان في نفسه بالضرورة،
وهما: القوّة العلمية والقوّة الإرادية.
والقوّة العلمية مستلزمة للقوّة الإرادية عند انتفاء الموانع،
والقوّة الإرادية تتضمّن العلم بالمراد، إذ يستحيل أن تكون الإرادة لغير مراد معلوم
وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه":
فالصواب أنها فطرة اللّه التي فطر الناس عليها،
وهي فطرة الإسلام، وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف:172]
وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة.
فإن حقيقة الإسلام أن يستسلم للّه، لا لغيره،
وهو معنى لا إله إلا اللّه،
وقد ضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال:
"كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟"
بين أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حادث طارئ.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال:
قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن اللّه:
"إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرم عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا"؛
ولهذا ذهب الإمام أحمد رضي اللّه عنه في المشهور عنه:
إلى أن الطفل متى مات أحد أبويه الكافرين حكم بإسلامه؛
لزوال الموجب للتغيير عن أصل الفطرة.
وقد روى عنه، وعن ابن المبارك، وعنهما:
أنهم قالوا: يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة.
وهذا القول لا ينافى الأول،
فإن الطفل يولد سليما، وقد علم اللّه أنه سيكفر،
فلابد أن يصير إلى ما سبق له في أم الكتاب، كما تولد البهيمة جمعاء،
وقد علم اللّه أنها ستجدع.
وهذا معنى ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال:
قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الغلام الذي قتله الخضر:
"طبع يوم طبع كافرًا، ولو ترك لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا" يعني: طبعه اللّه في أم الكتاب،
أي: كتبه وأثبته كافرًا،
أي أنه إن عاش كفر بالفعل.
ولهذا لما سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمن يموت من أطفال المشركين وهو صغير قال:
"اللّه أعلم بما كانوا عاملين" أي: اللّه يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا،
ثم إنه قد جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا كان يوم القيامة فإن اللّه يمتحنهم ويبعث إليهم رسولًا في عَرْصَة القيامة،
فمن أجابه أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار"
فهنالك يظهر فيهم ما علمه اللّه سبحانه،
ويجزيهم على ما ظهر من العلم وهو إيمانهم وكفرهم، لا على مجرد العلم.
وهذا أجود ما قيل في أطفال المشركين،
وعليه تتنزل جميع الأحاديث .
ومثل الفطرة مع الحق، مثل ضوء العين مع الشمس،
وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس،
والاعتقادات الباطلة العارضة من تهود وتنصر وتمجس،
مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس،
وكذلك أيضًا كل ذي حس سليم يحب الحلو، إلا أن يعرض في الطبيعة فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مرًا.
ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل،
فإن اللّه أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا،
ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق، الذي هو الإسلام،
بحيث لو ترك من غير مغير، لما كان إلا مسلمًا.
وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع،
هي فطرة اللّه التي فطر الناس عليها.
وأما الحديث المذكور، فقد صح عن ابن مسعود أنه كان يقول:
الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره.
وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود قال: حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال:اكتب رزقه وأجله، وعمله وشقي أو سعيد. ثم ينفخ فيه الروح".
وهذا عام في كل نفس منفوسة،
قد علم اللّه سبحانه بعلمه الذي هو صفة له الشقي من عباده والسعيد،
وكتب سبحانه ذلك في اللوح المحفوظ، ويأمر الملك أن يكتب حال كل مولود، ما بين خلق جسده ونفخ الروح فيه، إلى كتب أخرى يكتبها اللّه ليس هذا موضعها،
ومن أنكر العلم القديم في ذلك فهو كافر.
وأما البهائم فجميعها يحشرها اللّه سبحانه كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38]،
وقال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5]،
وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} [الشورى:29] وحرف [إذا] إنما يكون لما يأتي لا محالة.
والأحاديث في ذلك مشهورة،
فإن اللّه عز وجل يوم القيامة يحشر البهائم ويقتص لبعضها من بعض، ثم يقول لها: كوني ترابًا، فتصير ترابًا. فيقول الكافر حينئذ: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]. ومن قال: إنها لا تحيا فهو مخطئ في ذلك أقبح خطأ، بل هو ضال أو كافر