حكــاية تغييــر..


عفاف فيصل


مبارك يا بنتي، أسأل الله تعالى أن يكفيك كل مكروه وأن يوفقك لكل خير. هكذا قال أبي عندما بلغه نبأ ترشيحي للوظيفة التعليمية في إحدى هجر مدينة الرياض، أما أنا فقد لهج لساني وصدقه قلبي بالحمد والثناء لله عز وجل أن بلغني لأحقق حلمي الكبير بأن أصبح معلمة ومربية أجيال.
بتلك النظرة استقبلت أول أيام العام الدراسي، وعندما وضعت قدمي على عتبة الحافلة الصغيرة التي سوف تقلني إلى مقر المدرسة على بعد كيلومترات من محل إقامتي كانت المفاجأة، فكانت كل معلمة تركب تلك الحافلة ما تلبث أن تنزع عنها عباءتها لتجلس متبرجة آمنة أخطار الطريق، ويجمعن إلى جانب ذلك أيضاً أنواعاً من المخالفات الشرعية من سماع لغناء وغيبة وسخرية وهمز ولمز للآخرين، فلم يعجبني الوضع لكني سكت على مضض .
ولا أخفي أن ذلك اليوم مرّ ممزوجاً بالحلاوة والمرارة، وإن طغى أحدهما على الآخر. وفي المساء كان جسدي متعباً تتناوشه ألوان وأنواع من الهموم والآلام، فلا تزال صيحات الطالبات وضجيجهن وهدير محرك الحافلة يرن داخل رأسي المثقل، ولا يزال منظر الفصول المكتظة ومبنى المدرسة المتهالك ماثلاً أمام عيني، ومع ذلك وجد منظر المعلمات في الحافلة مكاناً وسط ذلك الزحام، وآليت على نفسي يومها إلا أن أفعل شيئاً من الغد؛ لأصلح من شأنهن، فليس للمرء أفضل من الصحبة الصالحة.
وتمر الأيام وأنا أحاول الوصول إلى قلوبهن بشتى الطرائق لكن دون جدوى، ولكني لم أيأس، فهداني الله إلى طريقة جيدة تضمن لي عدم مشاركتهن فيما هن عليه ولفت أنظارهن لما عندي .
فكنت يومياً أصحب معي آلة تسجيل صغيرة وأرفع صوته شيئاً ما ليطرق سمعهن محاضرة لشيخ جليل ممن تميز بالأسلوب الشائق، فلم يمضِ وقت حتى التففن حولي؛ هذه تستعير شريطاً، وأخرى تسأل عن اسم المحاضر وعنوان المحاضرة؛ حتى تمكنت من قلوبهن، وتغيرت ـ بإذن الله ـ أحوالهن .
وإلى داخل الفصول المتراصة وببساطة عقول الصغيرات وصفائها يحفظن كل ما يلامس مسامعهن، وينقلنه بكل أمانة إلى أمهاتهن، وبهذا تكون المعلمة في المدرسة معلمة للحي كله.
ويؤكد ذلك ما حصل معي في أحد الأيام.. فقد ساءني ما أرى من لبس النساء للبرقع، وكونه مظهراً اجتماعياً بارزاً عند أهل البوادي، فرسمته على السبورة، وتمكنت الصغيرات من التعرف عليه وتسميته بكل سهولة، فشرعت في توضيح حكمه في الشرع، ونهيه عن لبسه؛ لكونه يبدي مفاتن المرأة، وهو بذلك يخالف شروط الحجاب الشرعي الذي أُمرت به المرأة، وشرحت لهن شروط الحجاب، وقلت لهن إن أمهاتكن من أحرص النساء على الستر والتستر، لكن بلبسهن له يكن من أبعد الناس عنه.
أما الصورة الأخرى فكانت مع منهج النشيد، فلم تطق نفسي أن أعطيهن إياه واجباً للحفظ بأبياته ذوات المعاني البسيطة إلا ومعه أحد الأذكار التي لا غنى للمسلم عنها، وكنت أحرص على شرح معانيه وتشجيع الطالبات على حفظه، فما كان من الأهالي إلا أن كتبوا لي خطابات شكر أبانوا فيها أن تلك الأذكار لم تكن معروفة لديهم، وأنهم شاركوا بناتهم في حفظها، وذيلوا خطابهم بدعوات أسأل الله أن لا يردها .