السلام عليكم
لقد سألتني أخي الحبيب عن التحقيق الجديد لكتاب "إرشاد الساري" للقسطلاني رحمه الله.
فأقول وبالله التوفيق:
لقد كتبت مقالا قديما عن أهمية كتاب "إرشاد الساري" للقسطلاني رحمه اللهَ، وذكرت أنه أولى بالقراءة والنظر من كثير من الكتب التي شرحت "صحيح البخاري"، مع ذكر لشيء من مزاياه وخصائصه التي تقدمه على غيره.
كما طالبت في المقال: بأهمية تحقيقه وتقديمه لعموم المسلمين في طبعة أنيقة ومحققة تحقيقًا يليق به.
وأشرت فيه أيضا: إلى أن "الإرشاد" قد حقق رسائل جامعية، ولم يطبع بعد، وهناك أيضا عملٌ جارٍ في تحقيقه من بعض الفضلاء... إلى آخر المقال.
ثم بشرت مؤخرا بطباعته، والحمد لله.
نعم؛ لقد اقتنيت كتاب "إرشاد الساري" في طبعته الجديدة، بتحقيق المكتب العلمي بدار الكمال، وإشراف عطاءات العلم، طبعة دار ابن حزم، في (٢٠) مجلدا!
فكان غايةً في الطباعة والإخراج، ومحررا في التحقيق والتدقيق، مع جودة انتقاء نسخه ودقة مقابلتها، كما قضوا في تحقيقه عشر سنوات، وغير ذلك مما يشكرون عليه طباعةً وتحقيقًا!
وقد قرأت مقدمة المحققين للكتاب، ثم قرأت بعض أجزاء المجلد الأول والثاني، فكان عملهم جيدا في الجملة، وحسبهم أنهم كسوا الكتاب ثوبا جديدا ضمن إخراجٍ علمي بعد أن كان رهين الطبعات التجارية، كما تناوب عليه خمسون رجلا: ما بين محقق ومدقق ومعارض ومتابع وغير ذلك، وكان آخرهم مشاركا: دعمَ مؤسسة سليمان الراجحي حفظه الله.
فجزاهم الله عن العلم وأهله خيرًا!
ومع هذا الجهد الكبير والتحقيق المبارك لمثل هذا الكتاب الموسوعي إلا أنه جهد بشري لا يخلو من ملحوظات لا تقلل من قيمته العلمية ولا من تحقيقه الكبير!
فكان لي ـ والحالة التي ذكرت ـ أن أذكر بعض الملحوظات التي وقف عليها ناظري القاصر، فكان منها باختصار:
١- أنهم لم يقوموا بتخريج الأحاديث والآثار إلا نزرا يسيرا، وهذا يعتبر من أبجديات التحقيق؛ لاسيما عند تحقيق موسوعة حديثية مثل "الإرشاد".
٢- لم يعزوا الأقوال والآراء العقدية والفقهية والحديثية والتفسيرية وغيرها إلى أصحابها من مصادرها الأصلية.
٣- لم يبينوا الغريب والمشكل، مما له فائدة تعود على النص أو الشرح.
٤- لم يعرّفوا ببعض الاعلام المبهمة والموهمة والمهمة.
٥- لم يخدموا الكتاب بعمل فهارس موضوعية علمية، ولفظية أبجدية شاملة للآيات والأحاديث والآثار والأعلام والغريب إلى غير ذلك، هذا إذا علم الجميع أن حاجة كتاب "الإرشاد" للفهارس العامة لا تقل قيمة عن تحقيقه؛ لكونه موسوعةً علمية كبيرة قد حوى جميع الفنون الشرعية.
وعليه؛ لو خصوا الفهارس بمجلد مستقل لكان أكمل وأتم.
٦- أنهم طبعوه في مجلدات كبيرة الأحجام، الشيء الذي أثقل على القارئ حمله، وعلى المسافر نقله، كما لا يخفى.
ولو جعلوه في ثلاثين مجلدا أو نحوه، لكان أليق بمثل هذا الكتاب المرجعي الموسوعي.
٧- وهذا الأخير من أهمها: أنهم لم يعلِّقوا على المخالفات العقدية على كثرتها!
هذا إذا علم الجميع أن القسطلاني رحمه الله كان ناقلا للمذهب الأشعري في مراحله الأخيرة، والتي جمعت بين التأويلات الكلامية، ومسالك أهل التصوف!
قلت: كل الملحوظات المذكورة آنفا قد ترجع للرأي والاجتهاد، أما هذا المأخذ فليس للاجتهاد فيه نصيب، لاسيما إذا كان المحقق للكتاب سلفيا!
فشيء هذا سبيله: يُعدُّ مخالفةً لمراد المؤلف القسطلاني؛ لأنه رحمه الله كان مجتهدًا في تقرير مسائل الاعتقاد على ما كان يظنه منهجَ سلف الأمة؛ لكن اجتهاده رحمه الله لم يحالفه؛ لكونه كان ينقل عن شراح أشاعرة وصوفية وغيرهم!
فهو رحمه الله: لا يرض لمسلم - كائنا من كان - بأن يكتم الحق عن إخوانه المسلمين؛ لاسيما في مسائل الاعتقاد، بحجة احترام منهج وطريقة المؤلف!
فإذا كانت هذه حجة بعض المحققين للكتب؛ فأين والحالة هذه: احترام وتعظيم حق الله تعالى الذي هو أصل الدين وأساس الاعتقاد؟! هذا أولا!
أما ثانيا: فهو ُيعدُّ أيضا مخالفةً لقاعدة: "لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة".
فهذا منهم يُعدُّ تاخيرا لبيان الحق عن القارئ!
لكونهم لم يبينوا له المنهج الحق المتبع في مسائل العقيدة، ورد كل ما يخالفه!
ويزيد الأمر شكا: أنهم لم يذكروا المذهب العقدي للقسطلاني رحمه الله عند التعريف بسيرته، بل اكتفوا بذكر مذهبه الفقهي حسب!
كما أنهم توسعوا في تضمين بعض حواشي النسخ، بدعوى أنها لبعض أهل العلم؛ لاسيما حاشية شهاب الدين العجمي رحمه الله، المتوفى سنة (١٠٨٦)، وما علموا أنهم: زادوا الطينَ بِلَّةً!
حيث حشروا تأويلات ومخالفات الشهاب العجمي ضمن حواشي "الإرشاد"؛ فليتهم اكتفوا من الشهاب: بنسخته المتقنة فقط، أو ببعض تعليقاته التي تخدم الكتاب!
وكذا قُلْ: في كثير من تحشيات النسخ التي أدرجوها ضمن حاشية "الإرشاد".
ومن بابة التذكير لمن أراد التعليق على شرح القسطلاني في "إرشاده"، فعليه والحالة التي ذكرت: أن يضمنه التعليقات العلمية السلفية التي دارت حول "فتح الباري" للحافظ ابن حجر رحمه الله: كتعليقات شيخنا العلامة ابن باز رحمه الله، وتعليقات شيخنا عبد الرحمن البراك ـ ضمن طبعة نظر الفريابي ـ، وكذا هناك رسائل علمية تعلقت بحوثها حول المسائل العقدية في "الفتح" لابن حجر، فكان من أفضلها وأجمعها كتاب "منهج الحافظ ابن حجر العسقلاني في العقيدة من خلال كتابه فتح الباري" تأليف محمد إسحاق كندو، في (٣) مجلدات.
قلت هذا: لأن كثيرا من المسائل العقدية التي نقلها القسطلاني في كتابه مأخوذة من "الفتح"، "والتوضيح"، و"عمدة القاري"، ومن بعض الكتب التي لم تسلم من المسائل الكلامية والتصوف كما لا يخفى!
وهناك غير ما ذكر من الملحوظات تجاوزت ذكرها!
وأخيرا؛ كان الداعي لهذه الرسالة: هو إجابة السائل.
ثم بذل النصيحة لكل من يريد تحقيق هذا الكتاب، لاسيما إخواني الفضلاء الذين حققوه مؤخرا في دار الكمال: بأن يستدركوا هذه الملحوظات - أو بعضها - في طبعاتهم الجديدة، والله هو الموفق.
أخوكم المحب
أبو صفوان
د/ ذياب بن سعد الغامدي.
الطائف المأنوس.
(١٧/ رمضان/ ١٤٤٢)