في معنى البيت،وبيان الغلط فيه:
ما كُلُّ ما يَتَمَنَّى المَرْءُ يُدرِكُهُ *** تَجْرِي الرِّياحُ بما لا تَشْتَهِي السُّفُنُ
إنّك لا تنالُ كلَّ ما تريدُ،وما كلُّ ما يَتمنّاه الإنسانُ ويَشتهيهِ يَصِلُ إليه،ويَظفرُ به،ولا كلُّ ما يَرتَجيهِ يَتيسَّرُ له؛فإنّ الأقدارَ لا تَجري على وَفْق الإراداتِ،كما أنّ الرّياحَ إنّما تهبُّ على طَبعها لا على ما يَختارُه أصحابُ السُّفُنِ ،فقد تَشتهي السُّفُنُ ما تَجري الرّياحُ بغيره.وتَتمنّى النّفوسُ ما تنفذُ الأقدارُ بضدِّه.
وفيه كنايةٌ عن أنَّ الظّروفَ لا تسيرُ دائما وَفْقَ رَغباتِ الإنسانِ ومُشتَهياتِهِ. وكذلك أنتم – أيُّها الأعداءُ - في تَربُّصِكم بي،وما تَستعجلون مِن المكروه.
فهو يقول:إنّ أعدائي[1] يتمنّونَ موتي،ولكنّهم لا يُدركون ما يَتمنّونَ؛لأنّ الأمورَ لا تُدرَكُ بالتَّمنِّي.
ثمّ ضربَ لذلك مثل السُّفُن فإنّها تَشتهي من الرّياح الموافَقَة لِسَيْرها،ولا تَرضى منها إلاّ بالرّياح الطَّيِّبة السَّهلة المُواتِية في اتّجاهِ خَطّ سيرِ السّفينةِ، ولكنّ الرّياحَ كثيرا ما تَجري على غير ما تَشتهي السُّفُن،والمرا دُ مَن في السُّفُن،أي أهلُها.
وهذا أسلوبٌ مشهورٌ عند العرب نطقَ به القرآنُ الكريمُ في مواضِعَ عِدّة،وهو جارٍ على سَنَن العرب في الخِطاب والكِتاب مِن حذفِ المضاف وإحْلالِ المضافِ إليه مَحلَّه.كقوله تعالى على لسانِ إخوةِ يوسفَ لأبيهم – عليهما السّلام -: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾[2]،أي أهلَ القرية،وأصحابَ العِير. والعَلاقة بين المعنى المجازيّ والمعنى الأصليّ في قولُه:(وَاسْأَلِ القَرْيَةَ) هي المَحلِّيّة.فق د استعملَ كلمةَ القرية (الَمَحلّ)،وأراد َ أهلَها.
ونحوه مِن المَجاز قولُه تعالى: ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾[3]،حيث جعلَ لِلجدارِ إرادةً،وهو مِن قَبيل المجازٌ اللّغويٌّ،والعَ لاقةُ المشابَهَة،والق َرينةُ المانِعَة مِن إرادةِ المعنى الحقيقيّ للإرادة لَفظيّة،وهي الجدارُ.
ومنه أيضا قولُه تعالى في تَصوير نارِ جَهنّمَ: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ﴾[4]،حيث جعلَ النّارَ تَشْطاطُ غَضَباً،وتَتَمز َّقُ غَيظا على الكُفّارِ.
وكذلك قولُه:﴿وَأُشْرِ بُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾[5]أي:حُبَّ العِجْل حَتَّى خَلُصَ ذَلِكَ إِلَى قُلُوبِهِمْ.
على أنّ قولَه:(تَجري الرّياحُ بما لا تَشتهي السُّفُنُ) إنّما هو مَثَلٌ ضربّه.قال العُكْبَرِيّ (4/ 236):(وهو مِن أحسنِ الكلامِ)؛لِما في الشّطر الثاني من التّذييل الّذي أكّدَ به الشّاعر منطوقَ الشّطر الأوَّل منه.
والبيت جرى في التّعبير على الاتِّساع،ويُسم ّى في علم البلاغة بالمَجاز؛لِما فيه من مجاوزةِ الاستعمالِ الحقيقيّ والحَرفيّ الّذي وُضِعَت له مفرداتُ اللّغة إلى الاستعمالِ الافتراضيّ (المَجازيّ) غيرِ المقصود في ذاتِه.ومِن ثمَّ جعلَ المتنبِّيّ السُّفُنَ تَشتهي،وفي إسنادِ الاشتهاءِ للسُّفُن مجازٌ عَقليّ،من حيثُ أسندَ فِعلَ الاشتهاءِ إلى غير ما وُضِعَ له لِعَلاقَة المُشابَهَة مع قَرينة لفظيّة مانِعَة من إرادة المعنى الحقيقيّ (الأصليّ) لِلاشتهاءِ،ف شبَّهَ ما لا يعقِلُ (السّفينةَ) بما يعقِلُ (الإنسان) على سبيلِ المجاز.
وإسنادُ فعل العاقِل لغير العاقِل،أو مخاطبةُ غيرِ العاقِلِ مخاطبةَ العاقِلِ،من البَدَهيّات الّتي تتأسّسُ عليها طبيعةُ اللّغة،ويقومُ عليها عملُها،وأداءُ وظيفتِها في الكلام والتّعبير،ليس في الأدب والشّعر وحسبُ،بل حتّى في لغة التّخاطُبِ والتَّواصُلِ اليوميّ.والاست عمالُ المَجازيّ لِلُّغة هو عِمادُ التّعبيرِ الأَدبيّ والشِّعْريّ،وذل ك بُغيةَ التّصوير والتّجسيد والتّشخيص.
[1] - أولئك الّذين نَعَوْه وهو حيٌّ في مجلس سيف الدّولة الحمدانيّ بحَلَب.
[2] - يوسف/82.
[3] - الكهف/77.
[4] - الملك/08.
[5] - البقرة/93.