خطبة عيد الأضحى: نعم للحب والإخاء

حسان أحمد العماري


الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الحمد لله المتفرد بالعظمة والبقاء والدوام، يكوِّر الليل على النهار، ويكوِّر النهار على الليل، ويصرِّف الشهور والأعوام، لا إله إلا هو، الخَلْقُ خَلْقُه، الأمْرُ أمرُه، فتبارك ذو الجلال والإكرام، أحمَده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، والَى علينا نِعَمَه، وتابع علينا آلاءه، وبالشكر يزيد الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قدَّر الأمور بإحكام، وأجراها على أحسن نظام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدالله ورسوله، أفضل الرسل وسيد الأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الأطهار وأصحابه الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا على الدوام.

أما بعد أيها المسلمون:
فلقد جاء الإسلام ليُرسيَ قِيَمَ الخير في المجتمع المسلم، ودعا إلى نشر الأخلاق الفاضلة؛ كالإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف، ونصرة المظلوم، والتعاون، وبذل المعروف، وتقديم النصح، والتراحم بين الناس، والحب والمودة والإخاء، وغيرها، وعالج بالمقابل أخلاقًا سيئة سادت المجتمع الجاهلي، وأثَّرت في سلوكيات أبنائه، حتى أصبح التناحر والتباغض وذَهاب الأُلفة سِمةً من سماته، بل سُفِكت لأجل ذلك الدماء، واستُبِيحت الأعراض والأموال، فوقف الإسلام بتشريعاته وتوجيهاته موقفَ الزاجر والناهي والمحذِّر من أثرها السيئ على الفرد والمجتمع والأمة، في الدنيا والآخرة؛ ألَا وإن من أخطر هذه الأخلاق وهذه السلوكيات خُلُقَ التَّعصُّب بجميع مظاهره؛ كالتعصب للجنس البشري، أو اللون، أو للأسرة والقبيلة والنسب، أو التعصب للمنطقة والمكانة والبلد، أو التعصب للرأي، أو التعصب للمذهب، أو التعصب للأشخاص بالحق أو بالباطل، والتعصب أو العصبية كما قال الأزهري رحمه الله: "هي: أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته، والتألُّب معهم على من يُناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين"؛ [تهذيب اللغة (2/ 30)]، وقال ابن تيمية رحمه الله: "وكلُّ ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن: من نسب أو بلد، أو جنس أو مذهب، أو طريقة، فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار، فقال المهاجري: يا لَلمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم؟))، وغضب لذلك غضبًا شديدًا"؛ [السياسة الشرعية لابن تيمية (84)]، والتعصب أن يعتقد الإنسان أنه أفضل من غيره بسبب لونه أو جنسه، أو قبيلته أو نسبه، أو مذهبه أو مهنته ووظيفته، هذه العصبية لم تدخل في مجتمع إلا فرَّقته، ولا في عمل صالح إلا أفسدته، ولا في كثير إلا قلَّلته، ولا في قويٍّ إلا أضعفته، سواء كانت عصبيةً مذهبية أو حزبية، أو قبلية أو شعبوية وقُطْرِية، أو أسرية ومجتمعية، وما نجح الشيطان في شيء مثلما نجح فيها، والله سبحانه وتعالى قد بيَّن أن الناس جميعًا متساوون، خُلِقوا من تراب، وقسم بينهم معيشتهم، وجعلهم شعوبًا وقبائلَ، وجعل شرطَ التميُّز التقوى له، والقرب منه والالتزام بشرعه؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].

أيها المؤمنون، عباد الله، بالإيمان والتقوى يترجَّح ميزان الإنسان، ويرتفع قدره عند الله، وما عدا ذلك فلن يغني عنه من الله شيئًا، لقد وقف صلى الله عليه وسلم يخاطب هذه الأمة في خطبته في حجة الوداع، وطلب من الحاضر أن يُبلِّغ الغائب؛ لأن الأمر هامٌّ وعظيم؛ فقال: ((يا أيها الناس، إن ربكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، ألَا لا فضل لعربيٍّ على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]، ألَا هل بلَّغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فيبلغ الشاهدُ الغائبَ))؛ [رواه البيهقي في الشعب (4/ 289)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 375)، وصححه الألباني]، ولو كان المال أو الجاه، أو النسب أو الجنس، أو المكانة تنفع صاحبها عند الله، لكان ابن نوح عليه السلام - وهو فِلذةُ كَبِدِهِ وقطعة من فؤاده - معه في الجنة؛ قال تعالى مُبيِّنًا تلك الحال وذلك المآل: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود: 42، 43]، وقال الأصمعي: بينما أنا أطوف بالبيت ذات ليلة في أيام الحج؛ إذ رأيت شابًّا متعلقًا بأستار الكعبة وهو يقول:

يا من يجيب دعا المضطر في الظُّلَمِ
يا كاشفَ الضُّر والبلوى مع السقمِ

قد نام وفدُك حول البيت وانتبهوا
وأنت يا حي يا قيوم لم تَنَمِ

أدعوك ربي حزينًا هائمًا قلقًا
فارحم بكائي بحق البيت والحرمِ

إن كان جُودك لا يرجوه ذو سعة
فمن يُجُود على العاصين بالكرمِ

ثم بكى بكاءً شديدًا، وسقط على الأرض مغشيًّا عليه، فدنوت منه، فإذا هو زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، فرفعتُ رأسه في حجري وبكيت، فقطرت دمعة من دموعي على خده ففتح عينيه، وقال: من هذا الذي يهجم علينا؟ قلت: أنا الأصمعي، سيدي، ما هذا البكاء والجزع، وأنت من أهل بيت النبوة، ومعدِن الرسالة؟ فقال: هيهات هيهات يا أصمعي، إن الله خلق الجنة لمن أطاعه، ولو كان عبدًا حبشيًّا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان حرًّا قرشيًّا؛ أليس الله تعالى يقول: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون: 101 - 103].

وقد حذر صلى الله عليه وسلم من هذا التعالي والتفاخر بالأنساب والأحساب؛ فقال: ((إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية، والفخر بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خُلِق من تراب، لَينتَهِيَنَّ أقوام عن فخرهم بآبائهم في الجاهلية، أو ليكونُنَّ أهونَ على الله من الجِعْلَان، التي تدفع النَّتَنَ بأنفها))؛ [رواه أبو داود في السنن (4/ 492)]، إنه تحذير نبويٌّ كريم من آثار الجاهلية التي جاء الإسلام ليحطمها، ويقيم عليها البناء الشامخ القويَّ، إنها أُخُوَّةُ الإسلام التي لا ترقى إليها العصبية، ولا تؤثر فيها الجاهلية، لقد زجر رسول صلى الله عليه وسلم ونهى عن عصبية الجاهلية وأمراضها؛ فقال: ((ومن دعا بدعوى الجاهلية، فهو من جُثاءِ جهنَّمَ، قالوا: يا رسول الله، وإن صام وإن صلى؟ قال: وإن صام وإن صلى، وزعم أنه مسلم؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم، بما سمَّاهم الله عز وجل؛ المسلمين، المؤمنين، عبادَ الله عز وجل))؛ [رواه الإمام أحمد في المسند (37/ 543)]، و(جُثاء جهنم)؛ أي: من جماعتها.

إنها العصبية التي دمَّرت الحياة، وقلبت الموازين، وغيَّرت القيم، ونشرت الرذائل؛ روى الطبري في تاريخه (2/ 277) أن طلحة النميري قال لمسيلمة: "أشهد أنك كذَّاب، وأن محمدًا صادق، ولكن كذَّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضَرَ"، فقُتِلَ معه يوم عَقْرَباءَ؛ لذلك قال عنهم الطبري بعد سرد عدة حوادث في هذا المعنى: "وكانوا قد علموا واستبان لهم كذِبُ مسيلمة، ولكن الشقاء غلب عليهم".

أيها المسلمون عباد الله:
لنحذر من هذه العصبية بجميع مظاهرها، ولْنَنْشُرْ في مجتمعاتنا ثقافة الحب والتسامح، والتراحم والإخاء، ولنحذر من وساوس الشيطان ونزغاته، ولنقوِّ أخوَّتنا ونوحِّد صفَّنا، ونكون عباد الله إخوانًا، ولنقُم بواجباتنا، ونؤدِّ الحقوق التي علينا، ولنتذكر أننا على الله مُقْبِلون ومن الدنيا راحلون، ولأعمالنا محاسبون فلنحسن العمل، اللهم رُدَّنا إليك ردًّا جميلًا، ولا تَفْتِنَّا في ديننا ولا دنيانا، اللهم ألِّف على الخير قلوبنا، واجمع ما تفرق من أمرنا.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.

الخطبة الثانية

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا.

أيها المسلمون عباد الله:
لِيَقُمْ كلُّ من ضحى إلى أضحيته، فله عند الله أجر عظيم، وأطعموا منها البائس والفقير والمحروم، وتفقَّدوا أحوال الضعفاء والأيتام والمساكين، وأدخِلُوا عليهم البهجة والفرح والسرور، ومن لم يضحِّ لضيق العيش والحاجة، فلا يبتئس ولا يحزن؛ فقد ضحَّى عنه وعن غيره من المسلمين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان؛ يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه: ((شهِدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأضحى بالمصلَّى، فلما قضى خطبته نزل من منبره، وأُتِيَ بكبش، فذبحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: بسم الله والله أكبر، هذا عني، وعمن لم يضحِّ من أُمتي))؛ [صححه الألباني في صحيح أبي داود].

ولا تنسَوا صلةَ الأرحام والأقارب، وتفقُّدَ الجيران، والتوسعة على الأهل والأولاد في مثل هذه الأيام، كلٌّ حسب قدرته واستطاعته، وأكْثِروا من ذكر الله كما هداكم، واشكروه على ما أعطاكم، وجدِّدوا إيمانكم، وحسِّنوا أخلاقكم، واحفظوا دماءكم، واجتنبوا الفتن، تفوزوا برضا ربكم، وصِلوا أرحامكم، تحل البركة في أعماركم وأموالكم.

هنيئًا لكم بالعيد أيها المسلمون، في كل مكان، وتحت أي ظروف وأحوال، وأدام الله عليكم أيام الفرح، وسقاكم سلسبيل الحب والإخاء، ولا أراكم في يوم عيدكم مكروهًا، وجعل سائر أيامكم عبادة وطاعة لله، وعملًا وفرحًا وسرورًا، وكشف الله الغمة عن هذه الأمة، ورفع عنها البلاء والفتن، والأمراض وسيئ الأسقام، وثِقوا بالله، وأحسنوا الظن به سبحانه، فبيده كل شيء، وهو أرحم بنا من أنفسنا، اللهم غيِّر أحوالنا إلى أحسن حال، واجعل حياتنا وبلادنا وأوطاننا عامرة بالسعادة والمحبة، والأمن والإيمان، والسلامة والإسلام.

هذا، وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين؛ أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، اللهم اجمع شمل المسلمين، ولُمَّ شعثهم، وألف بين قلوبهم، واحقُن دماءهم.

اللهم جنِّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، واجعل بلدنا هذا آمنًا وسائر بلاد المسلمين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا ووالدينا والمؤمنين عذاب القبر والنار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.