- قوله:"ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا"
هذا مما تضمنته هذه الخطبة وهو اللجــؤ إلى الله تعالى والاعتصــام به سـبحانه من شــريْن عظيمين:
شــر النفس وسيئات الأعمال، ولا يقي ويحفظ العبد من المخاطر والشرور إلا الله سبحانه وتعالى؛ فحقيق بكل مؤمن أن يلجأ إلى الله تعالى مما يخاف ويحذر.
- قوله:"ونعوذ بالله من شرور أنفسنا"
المراد بالنفس هنا النفس الأمارة بالسوء؛ فإن النفوس لها ثلاثة أحوال: نفس مطمئنة، ونفس أمارة بالسوء، ونفس لوامة،
وشر النفس الأمارة بالسوء دعوتها وأمرها بالسوء كما قال تعالى:{إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} وما يترتب على ذلك ويتبعه.
- قوله:"وسيئات أعمالنا" سيئات الأعمال قيل: المراد بها الأعمال السيئة، وهي المعاصي، فإضافة السيئات إلى الأعمال على هذا من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: الأعمال السيئة،
وقيل: المراد بسيئات الأعمال العقوبات المترتبة على الأعمال؛ لأنها تسوء من وقعت عليه، فإضافة السيئات إلى الأعمال على هذا من إضافة المسبِّب إلى السبب، فالأعمال التي هي المعاصي سبب للعقوبات،
فعلى الأول التعــوذ من الســبب الذي هو الأعمال السـيئة، وعلى الثاني التعوذ من المسبِّب الذي هو العقوبات.
فمن وقاه الله شر نفسه وسوء عمله فقد أفلح ونجا، وهذان الشران هما مصدر كل سوء وشر يتضرر به العبد كما قال تعالى:{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}،
قال ابن القيم في هذا التعوذ:
وسل العياذ من اثنتين
شر النفوس وسيئ الأعمال
ولقد أتى هذا التعوذ منهما
|
|
هما اللتان بهلك هذا الخلق كافلتانِ
ما والله أعظم منهما شرانِ
في خطبة المبعوث بالقرآن
|
- قوله:"من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له"
في هذا اعتراف بتفرد الرب سبحانه وتعالى بالهداية والإضلال، فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا هادي لمن أضل، ولا مضل لمن هدى.
وهذا المعنى جاء صريحاً في القرآن، قال تعالى:{أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل}.
وقال سبحانه: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا}، وقال تعالى:{من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون}. وقال سبحانه:{من يضلل له فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون}.
فالرب تعالى هو المتفرد بالهدى والإضلال، وهو المتفرد بالعطاء والمنع كما في الحديث في الذكر بعد الصــلاة وفي الذكــر بعــد الرفــع من الركــوع: "لا مــانع لما أعطـيت ولا معطـي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" ففي هذا إقرار بتفرد الرب بالعطاء والمنع، ومن أنواع هذا العطــاء والمنع: الهدى والضلال، ومـن أدلــة هــذا المعنى في القــرآن قولــه ســبحانه وتعالى:{ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده}.
وقـال تعــالى:{وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم}.
والهداية نوعان:
هداية خاصة، وهداية عامة:
أما الخاصة فهي التي يعبر عنها بهداية التوفيق والإلهام،
والهداية العامة هي التي يعبر عنها بهداية الدلالة والإرشاد، ومن شواهد الهداية الخاصة قوله تعالى:{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}
وقوله تعالى:{والذين اهتدوا زادهم هدى}وقوله تعالى:{من يهد الله فهو المهتد} وقوله تعالى:{إنك لا تهدي من أحببت}
ومن شواهد الهداية العامــة قوله تعالى:{وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم} وقوله تعالى:{إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} وقوله{وأما ثمود فهديناهم فاستحبواالعمى على الهدى} وقوله تعالى:{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} ونحوها من الآيات.
والفرق بين الهدايتين من وجهين:
الوجه الأول: أن الهداية العامة عامة للخلق، وأما الهداية الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين.
الوجه الثاني: أن الهداية العامة تكون من الرسل وأتباعهم، وأما الهداية الخاصة فليست مقدورة لهم بل هي خاصة لله عز وجل.
|
|
وفي ضوء ما تقدم تكون الهداية المذكورة في هذه الخطبة، خطبة الحاجة، من الهداية الخاصة التي تُفَسر بالتوفيق والإلهام. والهدى من الله سبحانه يكون بالتوفيق والإلهام، والإضلال يكون بمنع هذا التوفيق، فمن منعه الله التوفيق ولم يمنحه إياه، لزم من ذلك أن يَضل، فالعبد بين التوفيق والخذلان، فمن وفقه الله اهتدى، ومن لم يوفقْه ضل كما قال الله سبحانه في الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم). |
وهذا الإقرار والاعتراف يتضمن توحيد الربوبية؛ فإن كونه تعالى رب كل شيء يقتضي أنه المتفرد بالعطاء والمنع والهدى والإضلال، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية.