أحكام التلبية 3
د.عبود بن علي بن درع
المطلب الأول : فضل رفع الصوت بالتلبية :
لما كانت تشتمل على ثلث المعاني العظيمة وكانت شعار الحج رفع الصوت بها إعلان التوحيد وهي المفتاح الذي يدخل به في الحج فهي " شعار التوحيد ملة إبراهيم الذي هو روح العبادات كلها والمقصود منها ، ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يدخل فيها بها"[1] . قال جابر رضي الله عنه فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته " وعن أنس رضي الله عنه قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرخون بهما جميعاً "[2] .
و " قوله وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله : معناه الحث على التمسك بما أخبركم عن فعله في حجته تلك "[3] .
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل ؟ قال : " العج والثج"[4] .
وقد بوب ابن خزيمة على هذا فقال:
باب ذكر البيان " أن رفع الصوت بالإهلال من أفضل الأعمال" [5] .
ورفع الصوت بالتلبية إقامة لذكر الله وتذكير به فالسماوات السبع والأرض ومن فيهن كلها تسبح بحمد الله ، والمؤمن حينما يسبح بحمد الله فهو يقيم ذكر الله ويذكر به غيره ويجاوب المسبحين بحمد الله في أرجاء الكون ، قال الله تعالى ] تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [ [6] .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم برفع الصوت بالنداء حتى تشهد له يوم القيامة ، فعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له : " إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء ؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم"[7].
وفي الحج أمر الحاج برفع صوته بالتلبية ، لما فيها من إعلان التوحيد لله ، ولما فيها من تذكير غيره من الحجاج بالتلبية ، ولما فيها من مجاوبة من عن يمينه وشماله له وتلبيتها معه وشهادتها له يوم القيامة ، فعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يلبي إلا لبى عن يمينه أو عن شماله من حجر او شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا [8] .
فالحاج حينما يرفع صوته بالتلبية يحقق عبوديته لله بتنفيذ أمره ، فعن السائب بن خلاد الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال يريد أحدهما "[9] وفي رواية " أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية" .
المطلب الثاني : حكم ترك رفع الصوت بالتلبية إن خاف ذهاب صوته أو نحوه:
التلبية شعيرة من شعائر الحج ، ويسن للحاج رفع صوته بإهلاله وتلبيته ، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال ، أو قال : بالتلبية"[10].
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : " صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعاً ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، وسمعتهم يصرخون بهما جميعاً "[11] .
وفي رفع الصوت بالتلبية إعلان للإقبال على الله سبحانه وتعالى ، وصدق التوجه إليه ، ونبذ ما سواه.
كيف لا ، وهو يقول : " لبيك اللهم لبك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " [12] .
وعلى رفع الصوت بالتلبية [13] ، جرى اتفاق الفقهاء [14] ـ عليهم رحمة الله ـ مستثنين من ذلك المرأة ، فلا ترفع صوتها حتى لا تحصل الفتنة .
وإذا خاف المحرم ضرراً من رفع صوته بالتلبية كبحّة حلق ، وانقطاع صوت ترك الرفع واقتصر من ذلك على القدر الذي لا يشق عليه [15] .
وكذا إذا كانوا بسيارة أو طائرة ، يصحبهم فيها أطفال نيام ، أو مرضى ورفع الصوت يؤذيهم فالأولى هنا خفض الصوت بالتلبية ، والله أعلم .
المطلب الثالث : حكم رفع الصوت بالتلبية في حق الرجل والمرأة :
اختلف العلماء في حكم التلبية فعامتهم على أنها سنة وبعضهم يرى وجوبها والذي يهمنا في هذا المبحث هو بيان حكم رفع الصوت بالتلبية لعلاقته بما نحن فيه ، وتفصيل الكلام حول هذه المسألة يقع في مطلبين :
الفرع الأول : حكم رفع الصوت بالتلبية في حق الرجل .
الفرع الثاني : حكم رفع الصوت بالتلبية في حق المرأة .
الفرع الأول : حكم رفع الصوت بالتلبية في حق الرجل :
اختلف أهل العلم في حكم هذه المسألة على قولين :
القول الأول :يسن للرجل أن يرفع صوته بالتلبية ، هذا ما ذهب إليه عامة أهل العلم وعليه المذاهب الأربعة[16] .
القول الثاني : يجب على الرجل أن يرفع صوته بالتلبية ولابد وهو فرض ولو مرة واحدة هذا ما ذهب إليه أبو محمد بن حزم[17] .
الأدلة :أدلة القول الأول :
استدلوا لقولهم بالحديث والأثر ، من ذلك :
1ـ ما روى مالك والشافعي والأربعة وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث خلاد بن السائب عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال". أو قال : " بالتلبية " هذا لفظ أبي داود [18] .
قال الترمذي : هذا حديث صحيح .
2ـ ما روى البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال: " صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرخون بهما جميعاً "[19] .
قال ابن حجر : فيه حجة للجمهور في استحباب رفع الأصوات بالتلبية [20] .
3ـ ما روى الترمذي وابن ماجه والدارمي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الحج أفضل ؟ ، قال: العج والثجّ[21] .
قال الترمذي : حديث أبي بكر حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان .. والعج : هو رفع الصوت بالتلبية ، والثج : هو نحر الإبل .
4ـ ما روى ابن أبي شيبة بإسناده عن بكر بن عبد الله المزني قال: كنت مع ابن عمر فلبى حتى أسمع ما بين الجبلين[22]
قال الحافظ : إسناده صحيح [23] .
5ـ ما روى ابن أبي شيبة بإسناده من حديث المطلب بن عبد الله قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم وكانوا يضحون للشمس إذا أحرموا[24] .
قال ابن حجر : إسناده صحيح [25] .
أدلة القول الثاني :
استدل أبو محمد بن حزم بما تقدم من حديث خلاد بن السائب عن أبيه قال: قال رسول الله : " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال " .
قال ابن حزم : هذا أمر[26] ، والأمر يقتضي الوجوب .
قلت : ويمكن مناقشة استدلال ابن حزم بأن الأمر بالشيء ليس أمراً به عند أكثر الأصوليين وهو ما رجحه كثير منهم [27] ، فعلى هذا لا يكون أمر جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر الصحابة برفع أصواتهم بالتلبية ـ أمراً للصحابة رضي الله عنهم .
2ـ استدل بما تقدم من أن ابن عمر كان يرفع صوته بالتلبية وأن الصحابة كانوا يرفعون أصواتهم بها حتى تبح أصواتهم [28] .
ويمكن مناقشة استدلاله بهذه الآثار بأنها لا تدل على الوجوب لو كانت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقترن بها ما يدل على الوجوب ، فكيف وهي من فعل الصحابة رضي الله عنهم .
الترجيح :الذي يظهر لي والعلم عند الله أن الصواب ما ذهب إليه الجمهور من سنية رفع الصوت بالتلبية لما يلي :
1ـ أن أدلتهم صحيحة واضحة الدلالة على السنية .
2ـ إن ما استدل به ابن حزم على الوجوب لم يسلم له ، بل تقدم الجواب عنه .
الفرع الثاني : حكم رفع الصوت بالتلبية في حق المرأة :
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
القول الأول :يسن للمرأة ألا ترفع صوتها بالتلبية ، وإنما عليها أن تسمع نفسها هذا ما ذهب إليه جماهير أهل العلم روي عن عطاء والأوزاعي وسليمان بن يسار وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة [29] .
القول الثاني : يجب على المرأة أن ترفع صوتها بالتلبية ولابد وهو فرض ولو مرة واحدة هذا ما ذهب إليه أبو محمد ابن حزم[30] .
يتبع