دروس من الثبات بعد غزوة أحد – علاج الهزيمة النفسية لدى المسلمين

الفرقان


لولا المصيبة التي وقعت في أحد لبقي المنافقون جرثومة مستترة في جسد المجتمع المسلم تبث سمومها فيه
غزوة أحد كانت مصيبة حقيقية أصابت المجتمع المسلم بأكمله ولم تكن الخسائر مادية فقط بل تعدتها إلى الخسارة النفسية بهذا الانكسار
قد يخطئ الإنسان أخطاء كبيرة أو صغيرة ولكن الحياة لن تنتهي عند حدود الأخطاء طالما أن باب الإصلاح والتوبة مفتوح
السقوط يعقبه قيام لمن سار على الدرب وهذا منهج قرآني تكرر في غير موضع في مواجهة أزمات مرت بالمسلمين واقتربت بهم من دائرة الإحباط
مع أن الله يحب عباده المؤمنين وينصرهم ويدافع عنهم، إلا أنه يقدّر عليهم البلاء ويمتحنهم بالآلام ليقوّي عودهم؛ فيثبتوا في مواجهة الإحباطات، ويأخذ بأيديهم -من خلال هديه- ليدربهم على فن مواجهة الهزيمة النفسية والخروج منها بسلام، بل بغنائم، ظهر هذا الأمر جليا في يوم أحُد، الذي سماه الله -تبارك وتعالى في كتابه-: (مصيبة) حين قال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} (آل عمران: 165).
مصيبة حقيقية
وقد كان يوم أحد مصيبة بحق، حين خالف المؤمنون من الرماة صريح الأمر النبوي بعدم مغادرة أماكنهم خلف المسلمين مهما تكن الظروف، وفقد الجيش من جرّاء هذه المخالفة سبعين من خيار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانكسرت النفوس، وغزا اليأس القلوب، ولا سيما عندما أشيع مقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم-؛ فقعد الناس عن القتال، بل ولّى بعضهم الأدبار فرارًا! إننا -فعلا- أمام مصيبة حقيقية أصابت المجتمع المسلم بأكمله، ولم تكن الخسائر مادية فقط، بل تعدتها إلى الخسارة النفسية بهذا الانكسار ووقوع بعض العيوب التي كشفتها المصيبة.
منهج واضح للخروج من الأزمات
لابد لنا أن نخرج من هذا الحدث الذي عالجه القرآن في ستين آية متواصلة (من سورة آل عمران) بمنهج واضح للخروج من الأزمات، وللتغلب على الهزيمة النفسية؛ فما أكثر ما تتكرر بعض مصائب أحد -أو معظمها- في حياتنا! وما أكثر ما نحبط لأزمات تمر بنا أو بأمتنا! وما أكثر ما يعطلنا حب الدنيا عن كمال الطاعة لله ورسوله! فنقصر أو نسوّف الطاعة، فنحن -إذًا- محتاجون أفرادا وجماعات لتعرّف هذا المنهج الرباني للخروج من الأزمات وعلاج الانكسار النفسي.
1- رفع الروح المعنوية بلفت النظر إلى الجوانب الإيجابية في الفرد والأمة، خاطب الله عباده المنكسرين نفسيا، فقال لهم: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(آل عمران: 139)، وكان خطابًا واقعيا ولم يكن تحذيرًا لنفوسهم أو تسكينًا مؤقتًا لآلامهم، فليس هناك شخص مركب من شر محض، أو فشل محض أو ضعف محض؛ فإن لكل إنسان جوانب قوة وجوانب ضعف.
2- جوانب المصيبة الإيجابية الله -عزوجل- يلفت نظر المؤمنين -في أكثر من موطن من كتابه الكريم- إلى أن أي مصيبة لابد أن تنطوي على نقاط مضيئة وجوانب إيجابية، انظر إلى قوله عز وجل: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (البقرة: 216)، لقد ربَّي الله المؤمنين على ذلك من خلال سياق علاجه لمصيبة (أحد)، عندما وضعت الآيات أيديهم وأبصارهم على فوائد حصّلوها من الحدث المؤلم ومن الجراح والآلام التي أصابتهم، ظهر هذا واضحًا في آيات من مثل قله -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} (آل عمران: 166-167)؛ فتميز الصادق من المنافق، وهذه ثمرة إيجابية تفيد أي مجتمع يكافح من أجل البقاء والنهوض، ولولا المصيبة التي وقعت لبقى المنافق جرثومة مستترة جاهزة لنفث سمومها في جسد المجتمع في أي وقت.
3- المصائب أمر مقدّر هناك أسباب مادية واقعية تقود إلى المصيبة، ولكن هذا لا ينفي ارتباط الأمر -من قبل ومن بعد- بقضاء الله وقدره، وإنما يتحرك الإنسان سعيًا لجلب نفع أو دفع ضر؛ لأن الله أمره بالأخذ بالأسباب، وهو مأجور على العمل والسعي ما دام موافقًا للشرع، كما أنه يتحرك لذلك وهو موقن أن الله قادر على تعطيل الأسباب، وقادر كذلك على إنفاذها، فأهل الأرض جميعًا إن اجتمعوا على دفع مصيبة قدّرها الله لن يستطيعوا مهما أوتوا من أسباب. بهذا يتحرك المؤمن تحركا إيجابيا فاعلاً قويا أمام المصائب، سريع القدرة على القيام بعدها وعلاج آثارها، وهو بذلك استعصى على الهزيمة النفسية والانكسار تحت وطأة الحدث مهما كان مريرًا، لا يعرف معنى للإحباط وتمنّي المستحيل، ولا تطول به الأيام والليالي في انتظار معجزة متوهمة تردّ عجلة الزمان إلى الوراء.
4- إمكانية استئناف المسير قد يخطئ الإنسان أخطاء كبيرة أو صغيرة، ولكن الحياة لن تنتهي عند حدود الأخطاء التي وقعت طالما أن باب الإصلاح والتوبة مفتوح، المهم أن يسارع المخطئ إلى تدارك الأمر قال -تعالى-: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(آل عمران: 133 - 135)، فلا شك أن الصفحة البيضاء بل الجنات الواسعة التي يوعد بها المخطئ إن نجح في تعديل المسار، كل ذلك كفيل أن يفتح أمامه الباب للنهوض والعمل من جديد.
5- الاعتبار بالماضي فالسقوط يعقبه قيام ونصر لمن سار على الدرب، يقول الله -تبارك وتعالى-: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} (آل عمران: 146)، وهذا منهج قرآني تكرر في غير هذا الموضع في مواجهة أزمات مرت بالمسلمين، واقتربت بهم من دائرة الإحباط، فتجد أن الله ينزل سورتين متواليتين في العام العاشر من البعثة في أواخر العهد المكي، حين ضاق الحال تمامًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في مكة تكذيبًا وإيذاءً وصدودًا عن الحق؛ فنزلت سورة هود وما حوته من قصص لرسل سابقين، وكيف صبروا وثبتوا حتى جاءهم نصر الله، ثم يختتمها الله -تعالى- بقوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}(هود: 120)، فتعرّفُ أخبار السابقين المشابهة يثبت القلب، ويزيل اليأس، ويلقي في روع المهموم أن ما أصابك من همّ لم يكن جديدًا اختصصت به دون غيرك، بل سبقك إلى ساحة الامتحان آخرون مثلك فنجحوا وعبروا الأحزان.
6- إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون فلم يخرج عدوّهم من المعركة -وإن بدا منتصرًا- سالمًا من الجراح والآلام، قال لهم الله -تعالى-: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}(آل عمران:140)، فلم يذهب كفاحكم ضد عدوكم سدى، بل إن جهادكم قد آذاهم مثل ما أصابكم منهم من أذى (قرح مثله)، وهي سنة ماضية معركة الحق مع الباطل، ولا ريب أن فرقًا كبيرًا بين من هُزم وهو يرى عدوه مكتمل الفوز والانتصار، ومن هزم وهو يشعر أنه هو أيضًا قد نجح في النيل من عدوه ولو بعض النيل، شتان بين النفسيتين! وهو درس بليغ لأمة المسلمين في صراعها مع الباطل في الأرض، فمهما انتعش الأعداء بغرور قوّتهم إلا أن عين المتأمل لا تخطئ جراحًا تؤلمهم وخسائر بين الحين والآخر تستنزف مواردهم.
7- الأيام دول {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) فليس من شأن الأحوال أن تثبت على هيئة واحدة، بل من شأن المقاعد أن يتبادلها الجالسون كل حين، فلا المهزوم يظل مهزومًا ولا المنتصر يظل منتصرًا، وكذلك الغني والفقير والصحيح والسقيم، وإذا فهم المحبط ذلك أيقن بلا شك أن بالإمكان حتمًا أن يتجوز دائرة إحباطه التي تسيطر عليه؛ لأن الأحوال حتمًا تمضي إلى تبدّل، وخير له أن يستثمر هذا التحول لصالح النهوض من كبوته.
8 - اعمل واترك النتائج لله فالإنسان يوم القيامة يحاسب على عمله الذي كسبته يداه، ولا يحاسب على النتائج المترتبة على فعله هذا، والإسلام يرسخ هذا المعنى في نفوس المؤمنين؛ لأن العامل قد يحسن العمل ثم لا تأتي النتيجة على المستوى المطلوب؛ فيحبط ويشعر بالفشل، فيربط الإسلام جهودك وخططك بما تستطيع تحقيقه لا بما يتعلق بالغيب والقدر المحض، ومن ثم يربط القرآن المؤمنين -في كفاحهم عبر الحياة- بثواب الآخرة المستقر اليقيني المترتب مباشرة على عملهم، فالله -عز وجل- يقول عن المؤمنين المجاهدين في سبيله: {فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ}(آل عمران: 148)، فالثواب الحسن حقا هو ثواب الآخرة، أما الذين كفروا فحتى لو حققوا انتصارًا (أي: نتيجة حسنة) فهم من الخاسرين في الآخرة؛ لسوء عملهم، يقول -تعالى-: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}(آل عمران: 196، 197).