دروس من قصص القرآن الكريم – أهداف القصص القرآني وغاياته
يتعين علينا حين نقرأ القرآن أن ندرك رسائله فهي ليست لجيل دون جيل بل هي رسائل الله للناس جميعًا في كل مكان وزمان
من أهم غايات القصص القرآني تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وبيان أن ما هم فيه من شدة إنما هو سنة الله الجارية في السابقين والآخرين
السلوك البشري على مدار التاريخ يتشابه وحُججَ الباطل مع تسلسل الأنبياء وتتابعهم وإن اختلفت أزمانهم وأوطانهم واحدة
إن قصص القرآن الكريم مليء بالعظات والعبر، وله وظائف قِيَمِيَّة كثيرة في الدعوة والتشريع والتربية والأخلاق والاجتماع، وغير ذلك، فما شأن من شؤون الإنسان كان للقرآن فيه توجيه، إلا وكان للقصص دور في التمهيد إليه، ولقد ألمح الله -تعالى- إلى بعض أهداف ذلك القصص، ولا سيما قصص الأنبياء، في آيات بينات من سورة يوسف -عليه السلام.
آيات جامعات
قال -سبحانه-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. (يوسف: 109-111)، فهو -سبحانه- قد حدد الهدف من إيراد ذلك القصص في كتابه وعينه في نقاط: أولاً: (أخذ العبرة)
حتى نعلم أن السلوك البشري على مدار التاريخ يتشابه، وأن حُججَ الباطل مع تسلسل وتتابع الأنبياء وإن اختلفت أزمانهم وأوطانهم، واحدة، فلكأنها تتطابق، تطابقاً يشعرك بأن الإنسان في مجال الكفر تتوقف ملكاته العقلية عن التطور، ويتجمد فهمه وإدراكه، فلا يَقبل إلا بالمألوف مهما كان انحطاطه. ثانيًا: (الله -تعالى- لم يرسل إلا بشرا رجالا)
لقد تعلمنا ذلك من قصص الأنبياء في القرآن الكريم، فالله -تبارك وتعالى- لم يرسل ملائكة يهدون الناس، وقد كان ذلك من أهم أسباب تكذيب الكفار للمرسلين، وكانت هذه الحجة متكررة على ألسن الكافرين من زمن نوح إلى زمن محمد -صلى الله وسلم عليهم جميعاً. ثالثًا: (عاقبة التكذيب لمنهج السماء لا تكون إلا إلى الهلاك)
فالهلاك هو عاقبة التكذيب، لكننا إذا تأملنا قصص الهالكين من الأمم في القرآن، لوجدناهم قد رفضوا هداية الله لهم جملة وتفصيلاً؛ فقد انضم إلى الكفر سببٌ آخرٌ في قصة لوط، وفي قصة شعيب، وفي قصة ثمود، وفي قصة فرعون، فلم يكن مجرد التكذيب بالتوحيد هو سبب الهلاك، ولكن انضم أيضاً إلى جوار تكذيبهم بالتوحيد ذاته، كمبدأ، تكذيبهم بمقتضيات ذلك التوحيد، فكان من أهم أسباب هلاكهم أنهم توغلوا وتطرفوا في هدم القيم الأخلاقية، واسترسلوا في طغيان الشهوة؛ مما كان سبباً رئيساً في نزول العذاب على أولئك الهالكين، سبب الشهوة الجنسية في قصتي لوط وثمود، وبسبب شهوة المال في قصتي شعيب وثمود أيضاً، وبسبب شهوة السُلطة في قصة فرعون. رابعًا: (الله -تعالى- لا يتخلى عن رسله ولا عن أتباعهم)
فعاقبتهم إلى النجاة، والنصر، ولكن قد يتأخر النصر عنهم لأسباب، هي في الغالب راجعة إلى فساد أتباع الرسل أو عدم اكتمال مقومات النصر عندهم، أو عند أكثرهم، فيكون ما يتعرض له مجموعهم من الشدة سببه ما عليه أكثرهم من الفساد، وإن ذلك يظهر بقوة فيما ورد في القرآن من قصص بني إسرائيل، ولذلك يكثر ذكرهم في القرآن لأخذ الحذر من الوقوع فيما وقعوا فيه، فيصيب المسلمين ما أصابهم. خامسًا: (تأكيد ما جاء في كتب أهل الكتاب وتصحيح ما جاء فيها من أخطاء)
ولا سيما ما يتعلق من ذلك بالأنبياء -عليهم السلام-؛ فأكثر الأنبياء في القرآن هم الأنبياء الوارد ذكرهم عند أهل الكتاب، لكن القرآن يحفظ للأنبياء عصمتهم، ويصون مكانتهم، من التقولات الفاسدة التي تنسب إليهم الفسق والعصيان، فإنَّ ما نسب إلى نوح ولوط وسليمان من مقولات فاسدة، واتهامات باطلة عند غير المسلمين في كتبهم، إنما سببه رغبة المُحرِّفِين لتلك الكتب في تسويغ الفجور، وفي فعلِ المنكرات، حتى إذا ما فعلوا هم شيئاً منها قالوا قد فعل ذلك الأنبياء قبلنا -حاشاهم-؛ فجاء قصص القرآن لتكون أحد أهم أهدافه تصحيح سيرة هؤلاء المرسلين -عليهم السلام. سادساً: (بيان وجه الحق فيما التبس على أهل الكتاب في شأن بعض العقائد والشرائع)
قال -تعالى-: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، فالقرآن يؤيد ما كانوا عليه من الحق عقيدة أو شريعة، ويصحح لهم ما يحتاج من ذلك إلى تصحيح، كما كان في شأن مسألة رجم الزاني التي كانوا يُخفون حكمها، فلما احتكموا إلى نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- في شأن رجل وامرأة منهما قد زنيا رفض -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يتابعهم على الباطل، وألزمهم إظهار الحكم الصحيح من كتابهم. ففي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: «أتي النبي -صلى الله عليه وسلم - برجل وامرأة من اليهود قد زنيا، فقال لليهود: «ما تصنعون بهما؟»، قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، قال: {فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} (آل عمران: 93)، فجاؤوا، فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور، اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، قال: «ارفع يدك»، فرفع يده فإذا فيه آية الرجم تلوح، فقال: يا محمد، إن عليهما الرجم، ولكنا نكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما .. الحديث». سابعاً: (العلم بما كان للاستفادة منه فيما يكون)
ولذلك قال -سبحانه-: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، فإذا حذر الله من أخطاء السابقين، التي كانت سبباً في فشلهم وفي تخلف عناية الله عنهم، فعلى المسلمين أن يفهموا ذلك عن الله، وأن يحذروا الوقوع فيما وقعوا فيه، وإذا أثنى -سبحانه- على قوم في القرآن وبين رشادهم، وحسن فِعَالِهم، واتباعهم، فعلى المسلمين أن يطبقوا ذلك في سلوكهم مع نبيهم، ومع تعاليم ربهم. ثامناً: (تثبيت المؤمنين)
ولذلك قال -سبحانه-: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، أي أن هذا القصص إنما نزل لهم ليعلموا أن ما يصيبهم من شدائد دنيوية ليس خاصاً بهم إنما هو سنة جارية على أصحاب الحق في كل زمان ومكان، فقد وصلت الشدة بالأنبياء السابقين إلى حد استيئاس أتباعهم منهم والظن بهم أن الله قد تخلى عنهم، فإذا كان الأنبياء والرسل وهم صفوة الله من خلقه وأحبهم إليه قد أصابهم ذلك في سبيل دعوة الحق فلم تكن حياتهم رغدا، ولا نعيمًا، وإنما كانت جهاداً وصبراً واستبسالاً وتحملاً لكل ألوان العذاب والتنكيل، فإنَّ هذا إن جرى على المرسلين، فما عسى أن يكون في حق من دونهم ممن يسير على نهجهم؟ ملمح مهم ودرس عميق
وهنا ملمح مهم ودرس عميق، مفاده أن الشدة التي تلحق أتباع المرسلين قد لا تكون بسبب التقصير، كما بينا في السبب الرابع، ولكن لحِكَمٍ أخرى، قد يصعب فهما عند الجيل الذي يتعرض للتعذيب والتنكيل، ولا تتكشف لهم إلا بعد حين، كأن يكون في جانب أهل الباطل ناسٌ هم في علم الله سيكونون من خيرة أهل الحق، فيكون الصبر على الشدة التي يتعرض لها المؤمنون في الحاضر سبيلا في المستقبل لاكتمال الدين وقوة شأنه وتعظيم انتشاره، يظهر ذلك في قصة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مبثوثة في جميع القرآن الكريم، فما كل سورة من سور القرآن إلا فصل من فصول حياته -عليه الصلاة والسلام-، فإنك تجد مصداق ذلك واضحاً غاية الوضوح حين تجد أن أهم فرسان الإسلام الذين فتحت بهم العراق ومصر والشام وفارس وغير ذلك من البلاد هم الذين تأخر إسلامهم، وكانوا هم أو آباؤهم في عداد المشركين السامدين في الشرك المحاربين للدين المعذبين للمسلمين. أهم غايات القصص القرآني
لذلك كان من أهم غايات القصص في القرآن الكريم التأنيس والتثبيت للنبي -صلى الله عليه وسلم -، وللمؤمنين حتى يعلموا أن ما هم فيه من شدة، هو سنة الله الجارية في السابقين، وأن لهذه الشدة حكماً وأسبابًا، في علم الله -تعالى-، ومن هنا وعلى هذا النهج وفي ذلك السياق جاء القصص في القرآن الكريم، لا لمجرد القصص، ولكن لإعمال الفهم والتدبر والعلم والاعتبار، والتثبيت، وهكذا يتعين علينا حين نقرأ القرآن أن ندرك رسائله، فهي ليست لجيل دون جيل، بل هي رسائل الله للناس جميعاً في كل مكان وزمان.
اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد