تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: دروس من قصص القرآن الكريم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,308

    افتراضي دروس من قصص القرآن الكريم

    دروس من قصص القرآن الكريم – أهداف القصص القرآني وغاياته



    يتعين علينا حين نقرأ القرآن أن ندرك رسائله فهي ليست لجيل دون جيل بل هي رسائل الله للناس جميعًا في كل مكان وزمان
    من أهم غايات القصص القرآني تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وبيان أن ما هم فيه من شدة إنما هو سنة الله الجارية في السابقين والآخرين
    السلوك البشري على مدار التاريخ يتشابه وحُججَ الباطل مع تسلسل الأنبياء وتتابعهم وإن اختلفت أزمانهم وأوطانهم واحدة
    إن قصص القرآن الكريم مليء بالعظات والعبر، وله وظائف قِيَمِيَّة كثيرة في الدعوة والتشريع والتربية والأخلاق والاجتماع، وغير ذلك، فما شأن من شؤون الإنسان كان للقرآن فيه توجيه، إلا وكان للقصص دور في التمهيد إليه، ولقد ألمح الله -تعالى- إلى بعض أهداف ذلك القصص، ولا سيما قصص الأنبياء، في آيات بينات من سورة يوسف -عليه السلام.
    آيات جامعات
    قال -سبحانه-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. (يوسف: 109-111)، فهو -سبحانه- قد حدد الهدف من إيراد ذلك القصص في كتابه وعينه في نقاط:
    أولاً: (أخذ العبرة)
    حتى نعلم أن السلوك البشري على مدار التاريخ يتشابه، وأن حُججَ الباطل مع تسلسل وتتابع الأنبياء وإن اختلفت أزمانهم وأوطانهم، واحدة، فلكأنها تتطابق، تطابقاً يشعرك بأن الإنسان في مجال الكفر تتوقف ملكاته العقلية عن التطور، ويتجمد فهمه وإدراكه، فلا يَقبل إلا بالمألوف مهما كان انحطاطه.
    ثانيًا: (الله -تعالى- لم يرسل إلا بشرا رجالا)
    لقد تعلمنا ذلك من قصص الأنبياء في القرآن الكريم، فالله -تبارك وتعالى- لم يرسل ملائكة يهدون الناس، وقد كان ذلك من أهم أسباب تكذيب الكفار للمرسلين، وكانت هذه الحجة متكررة على ألسن الكافرين من زمن نوح إلى زمن محمد -صلى الله وسلم عليهم جميعاً.
    ثالثًا: (عاقبة التكذيب لمنهج السماء لا تكون إلا إلى الهلاك)
    فالهلاك هو عاقبة التكذيب، لكننا إذا تأملنا قصص الهالكين من الأمم في القرآن، لوجدناهم قد رفضوا هداية الله لهم جملة وتفصيلاً؛ فقد انضم إلى الكفر سببٌ آخرٌ في قصة لوط، وفي قصة شعيب، وفي قصة ثمود، وفي قصة فرعون، فلم يكن مجرد التكذيب بالتوحيد هو سبب الهلاك، ولكن انضم أيضاً إلى جوار تكذيبهم بالتوحيد ذاته، كمبدأ، تكذيبهم بمقتضيات ذلك التوحيد، فكان من أهم أسباب هلاكهم أنهم توغلوا وتطرفوا في هدم القيم الأخلاقية، واسترسلوا في طغيان الشهوة؛ مما كان سبباً رئيساً في نزول العذاب على أولئك الهالكين، سبب الشهوة الجنسية في قصتي لوط وثمود، وبسبب شهوة المال في قصتي شعيب وثمود أيضاً، وبسبب شهوة السُلطة في قصة فرعون.
    رابعًا: (الله -تعالى- لا يتخلى عن رسله ولا عن أتباعهم)
    فعاقبتهم إلى النجاة، والنصر، ولكن قد يتأخر النصر عنهم لأسباب، هي في الغالب راجعة إلى فساد أتباع الرسل أو عدم اكتمال مقومات النصر عندهم، أو عند أكثرهم، فيكون ما يتعرض له مجموعهم من الشدة سببه ما عليه أكثرهم من الفساد، وإن ذلك يظهر بقوة فيما ورد في القرآن من قصص بني إسرائيل، ولذلك يكثر ذكرهم في القرآن لأخذ الحذر من الوقوع فيما وقعوا فيه، فيصيب المسلمين ما أصابهم.
    خامسًا: (تأكيد ما جاء في كتب أهل الكتاب وتصحيح ما جاء فيها من أخطاء)
    ولا سيما ما يتعلق من ذلك بالأنبياء -عليهم السلام-؛ فأكثر الأنبياء في القرآن هم الأنبياء الوارد ذكرهم عند أهل الكتاب، لكن القرآن يحفظ للأنبياء عصمتهم، ويصون مكانتهم، من التقولات الفاسدة التي تنسب إليهم الفسق والعصيان، فإنَّ ما نسب إلى نوح ولوط وسليمان من مقولات فاسدة، واتهامات باطلة عند غير المسلمين في كتبهم، إنما سببه رغبة المُحرِّفِين لتلك الكتب في تسويغ الفجور، وفي فعلِ المنكرات، حتى إذا ما فعلوا هم شيئاً منها قالوا قد فعل ذلك الأنبياء قبلنا -حاشاهم-؛ فجاء قصص القرآن لتكون أحد أهم أهدافه تصحيح سيرة هؤلاء المرسلين -عليهم السلام.
    سادساً: (بيان وجه الحق فيما التبس على أهل الكتاب في شأن بعض العقائد والشرائع)
    قال -تعالى-: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، فالقرآن يؤيد ما كانوا عليه من الحق عقيدة أو شريعة، ويصحح لهم ما يحتاج من ذلك إلى تصحيح، كما كان في شأن مسألة رجم الزاني التي كانوا يُخفون حكمها، فلما احتكموا إلى نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- في شأن رجل وامرأة منهما قد زنيا رفض -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يتابعهم على الباطل، وألزمهم إظهار الحكم الصحيح من كتابهم. ففي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: «أتي النبي -صلى الله عليه وسلم - برجل وامرأة من اليهود قد زنيا، فقال لليهود: «ما تصنعون بهما؟»، قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، قال: {فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} (آل عمران: 93)، فجاؤوا، فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور، اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، قال: «ارفع يدك»، فرفع يده فإذا فيه آية الرجم تلوح، فقال: يا محمد، إن عليهما الرجم، ولكنا نكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما .. الحديث».
    سابعاً: (العلم بما كان للاستفادة منه فيما يكون)
    ولذلك قال -سبحانه-: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، فإذا حذر الله من أخطاء السابقين، التي كانت سبباً في فشلهم وفي تخلف عناية الله عنهم، فعلى المسلمين أن يفهموا ذلك عن الله، وأن يحذروا الوقوع فيما وقعوا فيه، وإذا أثنى -سبحانه- على قوم في القرآن وبين رشادهم، وحسن فِعَالِهم، واتباعهم، فعلى المسلمين أن يطبقوا ذلك في سلوكهم مع نبيهم، ومع تعاليم ربهم.
    ثامناً: (تثبيت المؤمنين)
    ولذلك قال -سبحانه-: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، أي أن هذا القصص إنما نزل لهم ليعلموا أن ما يصيبهم من شدائد دنيوية ليس خاصاً بهم إنما هو سنة جارية على أصحاب الحق في كل زمان ومكان، فقد وصلت الشدة بالأنبياء السابقين إلى حد استيئاس أتباعهم منهم والظن بهم أن الله قد تخلى عنهم، فإذا كان الأنبياء والرسل وهم صفوة الله من خلقه وأحبهم إليه قد أصابهم ذلك في سبيل دعوة الحق فلم تكن حياتهم رغدا، ولا نعيمًا، وإنما كانت جهاداً وصبراً واستبسالاً وتحملاً لكل ألوان العذاب والتنكيل، فإنَّ هذا إن جرى على المرسلين، فما عسى أن يكون في حق من دونهم ممن يسير على نهجهم؟
    ملمح مهم ودرس عميق
    وهنا ملمح مهم ودرس عميق، مفاده أن الشدة التي تلحق أتباع المرسلين قد لا تكون بسبب التقصير، كما بينا في السبب الرابع، ولكن لحِكَمٍ أخرى، قد يصعب فهما عند الجيل الذي يتعرض للتعذيب والتنكيل، ولا تتكشف لهم إلا بعد حين، كأن يكون في جانب أهل الباطل ناسٌ هم في علم الله سيكونون من خيرة أهل الحق، فيكون الصبر على الشدة التي يتعرض لها المؤمنون في الحاضر سبيلا في المستقبل لاكتمال الدين وقوة شأنه وتعظيم انتشاره، يظهر ذلك في قصة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مبثوثة في جميع القرآن الكريم، فما كل سورة من سور القرآن إلا فصل من فصول حياته -عليه الصلاة والسلام-، فإنك تجد مصداق ذلك واضحاً غاية الوضوح حين تجد أن أهم فرسان الإسلام الذين فتحت بهم العراق ومصر والشام وفارس وغير ذلك من البلاد هم الذين تأخر إسلامهم، وكانوا هم أو آباؤهم في عداد المشركين السامدين في الشرك المحاربين للدين المعذبين للمسلمين.
    أهم غايات القصص القرآني
    لذلك كان من أهم غايات القصص في القرآن الكريم التأنيس والتثبيت للنبي -صلى الله عليه وسلم -، وللمؤمنين حتى يعلموا أن ما هم فيه من شدة، هو سنة الله الجارية في السابقين، وأن لهذه الشدة حكماً وأسبابًا، في علم الله -تعالى-، ومن هنا وعلى هذا النهج وفي ذلك السياق جاء القصص في القرآن الكريم، لا لمجرد القصص، ولكن لإعمال الفهم والتدبر والعلم والاعتبار، والتثبيت، وهكذا يتعين علينا حين نقرأ القرآن أن ندرك رسائله، فهي ليست لجيل دون جيل، بل هي رسائل الله للناس جميعاً في كل مكان وزمان.

    اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,308

    افتراضي رد: دروس من قصص القرآن الكريم

    دروس من قصص القرآن الكريم – قصة آدم عليه السلام



    الله تعالى يقبل توبة عباده إذا عصوه وخالفوا أمره ثم عادوا إليه تائبين نادمين مستغفرين
    من أهم الدروس التي علمها الله للملائكة أن المعيار الذي ينبغي ألا يزاحمه غيره في التفاضل بين الناس هو معيار العلم
    بذور الكبر التي نبتت في نفس إبليس أثمرت قطيعة دائمة مع الله تعالى وقد استتبع ذلك هبوطه عن المنزلة التي كان فيها والمكانة التي تبوأها سابقًا
    إنَّ أول ما جاء من القصص في القرآن الكريم، ما جاء في سورة البقرة، عن قصة خلق آدم -عليه السلام-، وهي قصة مليئة بالعبر والعظات والإرشادات، والدروس المستفادة، فقد اشتملت الآيات على مجموعتين من الإرشادات والعبر والعظات، تمثلت المجموعة الأولى في ذلك الحوار الماتع بين الله -تعالى- وملائكته وآدم، وتعليمه إياه للأسماء كلها، وأما المجموعة الثانية فتمثلت في قضية الأمر بالسجود لآدم وما تبع ذلك من أحداث، قال الله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، (البقرة: 30- 33).
    الدرس الأول: أهمية وضوح الرؤية والهدف
    فإن الله -سبحانه- قد أخبر الملائكة بأنه {جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، ولما كان -سبحانه- قد جعل للملائكة وظائفَ تتعلق بآدم وذريته، في خلقهم ورزقهم وحفظهم وحفظ أعمالهم، ونفخ أرواحهم وقبضها، والاستغفار لهم، وغير ذلك مما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة من وظائف لهم، ذات تعلق بالبشر. فقد كان من جليل حكمة الخالق -سبحانه- أن يُشرك الملائكة في حوار يتعلق بالإنسان الذي سيكون موضوع عملهم في الزمن اللاحق، وهذا الحوار من الله -تعالى- الخالق -سبحانه- لملائكته، يعلمنا أهمية الحوار، وأنه في غاية الأهمية؛ لجعل جسور التواصل ممدودة فيسهل تنفيذ المهام والأعمال عن حب ورضا وعرفان، -وهذا من الخالق -سبحانه- فما بالك بمن دونه من الخلق! سواء رؤساء أو قيادات في مختلف مجالات الحياة- فحين سأل الملائكةُ اللهَ -تعالى-: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، كان ذلك سؤالا منهم عن حكمة خلق آدم، وسببه، فبادرهم الله -تعالى- بالحقيقة التي يعلمونها جيدًا، وهي أنه -سبحانه- يعلم ما لا يعلمون؛ حتى تظل هذه الحقيقة ماثلة أمامهم في قابل أيامهم وسني أعمالهم مع كل ما يستوجب الحنق والاستنكار من المخلوق الجديد وذريته، لقد سمح الله -تعالى- للملائكة بالسؤال وأجابهم قولا وأثبت لهم عملاً صحة قوله لهم، ولم يكن -سبحانه- بحاجة إلى شيء من ذلك؛ لأنهم مفطورون على الطاعة أصلاً، لكي يتعلم كل قائد -مهما كان قدر ثقة مرؤوسيه فيه- أن الأعمال الملتبسة والأوامر الشائكة لابد من توضيح لها، وتفسير -بشكل أو بآخر- لحكمتها ومغزاها.
    الدرس الثاني: العلم ميزان التفاضل
    نبه الله تعالى-من أول خلق آدم- على أن المعيار الذي ينبغي ألا يزاحمه غيره هو معيار العلم، فقد كان هذا هو أهم درس علمه الله إلى ملائكته، فلم يكن الأمر بالسجود لآدم مجردًا عن الغاية، ولا هو تكريمًا عن تحيز أو اصطفاء بغير تأهيل وجدارة؛ بل لأجل العلم الذي ميز الله به آدم عن سائر خلقه، ودليل ذلك أن الله -تعالى- ما أمر الملائكة بالسجود لآدم بمجرد خلقه له، إنما جاء ذلك عقب حدثين علميين، هما تعلم الأسماء، ثم تعليمها، فقد عَلَّمَ الله آدم أولاً، ثم أمره أن يُعلِّم الملائكة، {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ }، فلو كان المقصود تكريم آدم لشخصه، لمجرد أنه مخلوق مميز عند الله بما أودع فيه من أسرار الخلق، ومُيز به عن سائر المخلوقات من خصائص، لكان الله -تعالى- قد أمر ملائكته بالسجود له بمجرد أن نفخ فيه الروح، فصار بشراً كاملاً يتحرك، لكن ذلك لم يحدث، إنما جاء الأمر بالسجود له بعد أن علَّمهُ اللهُ الأسماءَ كلَّهَا، ثم علمها للملائكة، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن العلم هو المعيار الذي يجب أن يتم التفاضل بين الخلق على أساسه في الظاهر.
    الدرس الثالث: التقوى معيار التفاضل في الباطن
    أدى تخلي إبليس عن مفهوم الطاعة لله -تعالى-، واعتراضه على الآمر -سبحانه-، إلى تحول شخصيته من حال الوداعة إلى حال التآمر وتدبير المكائد، فحين ترك طاعة الله، بذرت بذور الإجرام في شخصيته، كما أن بذور الكبر التي نبتت في شخصيته يومئذ أثمرت قطيعة دائمة مع الله -تعالى-، قال -تعالى- {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} . وقد استتبع ذلك هبوطه عن المنزلة التي كان فيها، والمكانة التي كان قد تبوأها في السابق، وهذا درس مهم من دروس قصة آدم -عليه السلام-، بل هو لب الخلاف بين ما يراه إبليس من أسباب أفضليته، وما قرره الله -تعالى- من أفضلية آدم، فآدم ليس الأفضل بالعلم فقط، ولكن بسرعة توبته واعترافه بخطئه، ومن ثم استعادته لما كان فقده بالمعصية من أسباب التقوى، وهنا يأتي درس آخر.
    الدرس الرابع: توبة الله -تعالى- على من تاب من عباده
    فمع أول معصية عصاها الإنسان لله -تعالى-، فتح الله له باب التوبة، قال -تعالى-: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، (البقرة: 37)، فالله -تعالى- يقبل توبة عباده، إذا عصوه وخالفوا أمره ثم عادوا إليه تائبين نادمين مستغفرين، {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، (الأعراف: 23)، وقد بين الله -تعالى- في آيات أخرى بخصوص قصص آخر أن هناك ضوابط لقبول تلك التوبة، فباب التوبة المفتوح منذ آدم -عليه السلام-، يظل مفتوحاً لكل عبد من أبنائه إلا في أحوال أربعة، أولها: مالم يغرغر، فيصبح الموت متحققًا لا محالة، كما كان شأن فرعون حين أعلن توبته وهو يغرق، فإن ذلك لم يفده؛ لأنه ما تاب إلا بعد أن عاين الموت وصار غرقه محققاً، ومن هنا قال النبي - صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عند الترمذي وابن ماجة-: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) يعني مالم تبلغ الروح الحلقوم، وأما الأحوال الثلاثة الأخرى التي لا تنفع فيها التوبة فقد جاء بها حديث في سنن الترمذي بإسناد صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ( ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أو كسبت في إيمانها خيرا} (سورة الأنعام، آية: 158)، الدَّجَّالُ، وَالدَّابَّةُ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ».
    الدرس الخامس: الكفر قد لا يكون بإنكار العقائد فقط
    فقد يوصف العبد بالكفر مع أنه لا ينكر شيئًا من العقائد فقط، وإنما إنكاره لشيء من الشرائع الثابتة المحكمة، قد يُلزمه ذلك الوصف، فيكون كافرًا، بإنكاره لوجوب الصلاة مثلاً أو حرمة الخمر، أو نحو ذلك، مع أنه موحد لله مؤمن به، وهنا يظهر أن نكوص العبد عن القيام ببعض الواجبات العملية إذا كان عن إنكار لوجوبها، فإنه ينقله من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر، ويكون شأنه في ذلك شأن إبليس الذي أُمر بالسجود فأبى واستكبر، مع أن إبليس حين وصفه الله بالكفر كان مؤمناً بالله وملائكته واليوم الآخر، لكنه رفض الاعتراف بواجب واحد من الوجبات المفروضة عليه، فكان بإنكاره له من الكافرين، ومن هنا وبناء على ذلك أجمع العلماء على أن من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة، والزكاة والصوم والحج وحرمة الخمر والزنا والقذف، أنه يكون كافرا بهذا، قال النووي -رحمه الله تعالى-: «من جحد مجمَعًا عليه فيه نَصٌّ، وهو من أمورِ الإسلامِ الظَّاهرةِ التي يشترِكُ في مَعرِفتِها الخواصُّ والعوامُّ؛ كالصَّلاةِ، أو الزكاةِ، أو الحَجِّ، أو تحريمِ الخَمرِ أو الزِّنا، ونحوِ ذلك فهو كافِرٌ» (روضة الطالبين، 146/2).

    اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,308

    افتراضي رد: دروس من قصص القرآن الكريم

    دروس من قصص القرآن الكريم – قصة نبأ ابني آدم عليه السلام



    الفعل السيء حين ينتشر ويُقتدى به فإنه يعود على الفاعل الأول له بالسيئات مثله في ذلك مثل من يعمل شيئاً حسناً فيُقتدي به فيه فإن صاحب العمل الأول يجني من الحسنات بقدر من يعمل بذلك العمل كلما عُمل به
    الطمع وعدم الرضا بالمقسوم هو أساس كل شر فهو الذي يدفع إلى التعدي بأنواعه وإلى الفساد والظلم
    ليس كل القصص في القرآن يتعلق بجهاد المرسلين وعناد الكافرين، ولكن بعض ذلك القصص قد تكون له علاقة بالتشريع، وبيان أسبابه، فقد كانت جريمة قتل كبرى قد ارتكبت في المدينة النبوية، ارتكبها الوفد العرنيون الذين جاؤوا فتظاهروا بالإسلام، ثم سطوا على إبل الصدقة فانتهبوها وقتلوا رعاتها وسملوا أعينهم وارتدوا عن الإسلام، فكان فعلهم له وقع سيء بما فيه من القسوة والخيانة والغدر مع القتل والسرقة؛ مما استلزم -من باب المناسبة عند تشريع العقوبة الخاصة بهم- أن يُسبق ذلك بذكر شيء من تاريخ جريمة القتل؛ من حيث بيان أول من سنها للبشر، وهو ابن آدم الأول، وأقبح وأفظع من ارتكبها وهم بنو إسرائيل، ثم ذكر عقوبة قطع الطريق فقال الله -تعالى-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة:33- 34).
    لقد سميت سورة المائدة التي نزلت فيها قصة ابني آدم، بسورة العقود، وهي من آخر ما نزل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن، فقد جاء في المسند بإسناد صحيح إلى جبير بن نفير، قال دخلتُ على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: قلت: نعم. قالت: «فإنها آخر سورة نزلت؛ فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه».
    أحكام متعددة
    وقد وردت في السورة أحكام تتعلق بالمأكل والمشرب، والدماء والأموال والحدود، والأيمان، والصيد، ومعاملة الأعداء، والوضوء والتيمم، والوصية، والموقف من أهل الكتاب من حيث التعامل والعقيدة؛ ولذلك ابتدأت السورة بقول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وهي عقود الإيمان، فكل ما شرعه الله لنا بأمر أو نهي من فعل أو ترك، فإنه عقد يجب الوفاء به، روى ابن جرير بسنده إلى عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى- {أوفوا بالعقود}، يعني: ما أحل الله وما حرم، وما فرض، وما حد في القرآن كله، فلا تغدروا ولا تنكثوا.
    القصة والتشريع
    بينما هي الآيات تتوالى في السورة الكريمة تبين الأحكام، وتشرع الشرائع، وتحذر من سلوك سبيل أهل الكتاب في تبديلهم لشرعهم وتغييرهم لدينهم، وبيان ما هم عليه من ضلال، إذا بالحق -سبحانه- يقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، (المائدة: 27). ولم تكن هذه النقلة من سياق التشريع والأحكام إلى سياق القصص، إلا لأن لهذا القصص وظيفة في بيان ضرورة تحقيق تلك الشرائع والوصية بعناية النفوس بها وبتطبيقها، فقد جاءت قصة ابني آدم لتحذر من التحايل على الشرائع، وتسويف أحكام الله والتباطؤ عن تطبيقها، تحت سطوة الشهوة، أو الطمع؛ فإن استرسال الإنسان مع شهواته، يؤدي به إلى الهلاك، وإلى الظلم والخسران والندم.
    الخبر اليقين
    لقد قال الله -تعالى-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}، قال {بالحق}؛ لأن بعض ما جاء في كتب أهل الكتاب وما تداوله القُصَّاصُ من شأن ابني آدم لا صحة له؛ فلذلك أعرض القرآن عن ذكرها، ليس فقط لكونها غير صحيحة؛ إذ في الإمكان تصحيحها، لكن لما كان المنهج القرآني في شأن القصص أنه لا يعرض التفاصيل، ولا يحتفي بذكر الأسماء غالباً، فإنَّ من أهداف ذلك، تركيز العناية بالأهداف الرئيسة لذلك القصص؛ لأن ذكر التفاصيل غالباً لا يفيد في شيء؛ فلذلك لم يرد في القرآن ولا في السنة اسم ابني آدم الذين ذُكر شأنهما في تلك الآيات، لكن الثابت قطعاً أن القاتل في هذه القصة هو ابنُ آدم الأول، فهو أول مولود ولد لآدم -عليه السلام-، وإنه قَتَلَ أخاه الذي ولد في البطن الثانية بعده، وقد جاء في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ما يؤيد ذلك، ففي الحديث المتفق عليه عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «لا تُقتلُ نفسٌ ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل».
    الكفل العظيم
    في ذلك الحديث النبوي السابق بيان مهم: بأن الفعل السيء حين ينتشر ويُقتدى به، فإنه يعود على الفاعل الأول له بالسيئات، مثله في ذلك مثل من يعمل شيئاً حسناً فيُقتدي به فيه، فإن صاحب العمل الأول يجني من الحسنات بقدر من يعمل بذلك العمل كلما عُمل به؛ فإن ابن آدم الأول حين قتل أخاه فجاء بعده من فعل مثل فعله فإنه يكون قد تسبب في انتشار ذلك الذنب، ومن ثم فإنه يلحقه إثم بكل جريمة قتل ترتكب على الأرض بعده؛ لأنها وقعت بسببه، وبدلالته، وقد قال الله -تعالى بعد ذلك مؤيداً لذلك المعنى-: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}، (المائدة: 32)، فمن أجل جريرة ذلك القاتل الأول ولأن من جاء بعده اقتدى به في القتل ففعل مثل فعله، غُلِّظ على بني إسرائيل حكم القتل بغير حق، فمن فعل ذلك منهم فإن قتله لواحد يعدل في الجرم قتل الناس جميعاً، وكذلك من استبقى نفساً معصومة وحافظ عليها من الهلاك فهو في الأجر كمن استحيا الناس جميعاً، فإن الحسنة تتضاعف والسيئة تتضاعف.
    الانتقال السريع
    لقد انتقلت بنا الآيات هنا نقلة واسعة من الحديث عن ابني آدم إلى الحديث عن بني إسرائيل، مع أن الذي بين هؤلاء وهؤلاء زمن طويل، كانت فيه أمم كثيرة، وكان القتل فيهم أيضاً محرماً، لكن جاء ذلك الانتقال من ذكر خبر ابني آدم إلى ذكر حال بني إسرائيل؛ لأن هؤلاء الأخيرين هم شر من ارتكب ذلك الجرم، كونهم قتلة الأنبياء، غلاظ القلوب، كثيرٌ فيهم الطغيانُ وسفكُ دماء الأبرياء، فناسب ذلك ذكرهم بعد ابني آدم وتذكيرهم بما أُخذ وأُكد وغُلظ عليهم في شأن الدماء.
    التقوى أهم الدروس
    إن من أهم الدروس المستفادة من قصة ابني آدم في سورة المائدة، أن الوقوف عند حدود الله فيه السلامة والخير، وأن قبول الله لطاعاتنا لابد معه من التقوى، فمن فعل الطاعة ليتوصل بها إلى معصية فليس من المتقين، ولا يتقبل الله طاعته أيا كانت تلك الطاعة.
    الطمع أساس كل شر
    من الدروس كذلك: أن الطمع وعدم الرضا بالمقسوم هو أساس كل شر، فهو الذي يحرك إلى التعدي بكل أنواعه، وإلى الفساد والظلم، بل وهو الذي ينفي العلم من صدور الرجال، فأصحاب المطامع الذين يلهثون خلف شهواتهم وأطماعهم يفقدون من العلم بقدر ما يتملك نفوسهم من الحرص والطمع، روى الدارمي بإسناد صحيح أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ لِعبداللَّهِ بْنِ سَلامٍ - رضي الله عنه -: مَنْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ؟ قَالَ «الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ»، قَالَ: فَمَا يَنْفِي الْعِلْمَ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ؟ قَالَ: «الطَّمَعُ».
    ليس كل الندم يفيد
    من الدروس المهمة أيضًا أن الندم بعد المعصية ليس كله ينفع، فما ينفع منه إنما الذي يكون عن توبة، وأما الندم لانكشاف الجرم، أو لعدم القدرة على إخفائه أو نحو ذلك فإنه لا يفيد، روى ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَكَثَ يَحْمِلُ أَخَاهُ فِي جِرَابٍ عَلَى رَقَبَتِهِ سَنَةً، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ -عزوجل- الْغُرَابَيْنِ، فَرَآهُمَا يَبْحَثَانِ, فَقَالَ: أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ؟ فَدَفَنَ أَخَاهُ»، فهو لم يندم لفعل القتل وإنما لعدم القدرة على الاهتداء لما اهتدى إليه الغراب، وإنما بعث الله -تعالى- له غراباً دون غيره من سائر الطيور والحيوانات، لأن الغراب أحد الفواسق فهو طائر مفسد، فكان من الملائم أن يقتدي فاسق بفاسق.

    اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,308

    افتراضي رد: دروس من قصص القرآن الكريم

    دروس من قصص القرآن الكريم – قصة نوح عليه السلا م



    ظل نوح عليه السلام يدعو إلى الله صابرًا محتسبًا تسعمائة وخمسين عاماً لذلك فهو بحق أول أولي العزم من الرسل

    الحق لا يُعرف بكثرة الأتباع ولا بقلتهم وإنما يُعرف الحق بنفسه ويعرف بالأدلة
    الغلو في الصالحين كان وما يزال هو أوسع أبواب الشرك بالله
    إن من أعظم ما جاء في القرآن الكريم من قصص، ما كان من قصة نوح -عليه السلام-، فقد ذُكرت قصته في إحدى عشرة سورة، في كل سورة منها ذكر جزء من المسيرة الدعوية لنوح -عليه السلام-، فهي مسيرة ثرية زاخرة بالأحداث والمواعظ والعبر؛ لأنها أطول فترة قضاها رسول في دعوة قومه، قال الله -تعالى-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} (العنكبوت: 14)، فكان هذا هو عمر دعوته في قومه قبل الطوفان على الراجح من أقوال العلماء، فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «بعث الله نوحا وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشو».
    التماثيل بريد الكفر
    لقد كان سبب بعثة نوح -عليه السلام-، أن الناس كانوا بين آدم ونوح -عليهما السلام- على التوحيد، ولكن قبل بعثة نوح انحرف الناس عن ذلك وعبدوا تماثيلَ لرجالٍ كانوا فيهم صالحين قال -تعالى-: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)} (نوح: 21- 22)، أي أغروا الناس بأذية نوح أبلغ أذية وأشدها فالكُبَّارُ هو ما كان أكبر من الكبير، فقد تمادوا في مكرهم به، وكانت الأجيال يوصي بعضهم بعضاً بالكفر، الآباء يوصون أبناءهم لا تتبعوا نوحاً فإنه كاذب ومجنون، {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح: 23). روى الطبري بسنده إلى عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال: «هذه أصنام كانت تُعبد في زمان نوح»، وبسنده إلى محمد بن قيس، -وهو تابعي ثقة- قال: «كانوا قومًا صالحين من بنى آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر فعبدوهم»، فكانت هذه التماثيل الخمسة (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر) أسماءً لرجال صالحين بين آدم ونوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى أتباعهم ومريديهم أن لو صنعوا لهم تماثيل فتكون عندهم، تذكرهم بهم، ومن باب مزيد التلبيس أوهمهم أنهم إذا رأوها فإن ذلك سيكون أنشط لهم على عبادة الله!، فلما فنى هذا الجيل، الذي صنع تلك التماثيل لذلك الغرض وجاء آخرون، نُسِيَ الغرض وبيقت التماثيل، فدب إبليس دبيبه فأوحى لأوليائه من البشر: إنما كان من قبلكم يعبدونهم وبهم كانوا يُسقون المطر، فعبدوهم. لذلك فبعث الله نوحاً ليرُدَّ الناس إلى دين الله.
    طعنات الأقربين
    لقد بلغ تكذيب الناس لنوح -عليه السلام- مبلغه في الأثر النفسي على نوح -عليه السلام-، حين كان أول الكافرين به، هم ناس من بيته، فهذه زوجه التي من المفترض أن تكون هي موضع السكن والطمأنينة وتخفيف أعباء الدعوة عنه، إذا بها بدلا من ذلك تكون أحد أهم الأعباء التي أثقلت كاهله وزادت من معاناته، قال -تعالى-: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثلاً للذين كَفَروا امرأةَ نُوحٍ وامرأةَ لُوطٍ كانتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادنا صالحْينِ فخانتاهما} (التحريم:10)، وإن خيانة امرأة نوح -عليه السلام- له تمثلت في أنها كانت تقول للناس عنه مجنونا، وإذا آمن أحدٌ بدعوته أخبرت قومها به ليعذبوه ويضطهدوه، (الطبري، 23/498).
    نشوء ابنه على الكفر
    ثم لا شك بعد ذلك أن كفرها به كان له أثر في نشوء واحد من أبنائه على الكفر، بل وإصراره على ذلك حتى وهو في أحلك الظروف حين كان مشرفاً على الغرق، فياله من ابتلاء عظيم! أن يصاب المرء في أعز الناس لديه، فيكون هو أول المكذبين له، وأشدهم زهداً فيه وكفراً به، يمد لهم يده بالنجاة في محنتهم فيُفضِّلُون الهلاك على صحبته، إن في ذلك الجو المملوء بالعذاب من الداخل والخارج وفي كل الأوقات والأماكن، ظل نوح -عليه السلام- يدعو إلى الله صابراً محتسباً تسعمائة وخمسين عاماً، لذلك فهو بحق أول أولي العزم من الرسل، يقول أهل التفسير مر عليه سبعة أجيال، كلهم على الكفر يوصي به السابق منهم اللاحق؛ لذلك شكا نوح إلى ربه ودعاه فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا}، (نوح: 26-27).
    الحصاد المر
    لم تسفر دعوة نوح -عليه السلام- لقومه وأهله، كل هذه السنين سوى عن عدد قليل من المؤمنين، قيل كانوا ثمانين رجلا وامرأة، منهم ثلاثة من أبنائه وهم يافث، وسام، وحام، أما كنعان وأمه فقد هلكا مع الهالكين، قال القرطبي -رحمه الله في تفسيره-: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) (هود: 42)، قيل كان كافراً واسمه كنعان وقيل يام، وقد كان نوح يصنع السفينة بأمر الله -تعالى- فيمر به قومه فيسخرون منه؛ لأنهم لم يروا شيئاً كهذا الذي يصنعه من قبل، قال -تعالى-: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)} (هود: 38-41).
    دروس مستفادة
    إن من أهم الدروس في قصة نوح -عليه السلام- أن نتعلم: تحقيق الأهداف يحتاج إلى صبر ومثابرة، وإن أعظم ما يعتمد عليه أصحاب الهمم العالية في تحقيق الأهداف هو التوكل على الله وطلب معيته وعونه، فلا نجاح إلا بمعونة ولا معونة إلا بدعاء. كذلك نتعلم أن الحق لا يُعرف بكثرة الأتباع، ولا بقلتهم، وإنما يُعرف الحق بنفسه، ويعرف بالأدلة وليس بالرجال. كذلك نتعلم الحذر من الغلو في الصالحين، فذلك هو أوسع أبواب الشرك بالله، كان وما يزال، روى مسلم في صحيحه: عن أمنا عائشة -رضي الله عنها-، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» فقلت: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } (التوبة:33) أن ذلك تاما قال: «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحا طيبة، فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم»، وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة» وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية. ونتعلم أيضًا أن الهداية من الله -تعالى-، لها أسباب وعوامل من أهمها على الإطلاق التربية، والبيئة المحيطة، فإذا جاءت التربية من أحد الأبوين فاسدة، صار الابن كما وصف الله -تعالى-: {عملٌ غير صالح} (هود: 46)، فهو عند ذلك لا يقبل الهداية ولو كانت بين عينيه، كما كان شأن كنعان الهالك؛ لذا فإنه لا يكفي لصلاح الابن أن يكون أحد الأبوين صالحا، بل يجب أن يكون كلا الأبوين صالحاً وكذلك البيئة المحيطة أيضاً. نسأل الله -تعالى- أن يربي لنا أبناءنا وأن يرزقنا وإياهم الهداية والرشاد.

    اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •