وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في تدهور استخدام اللغة العربية
حسن أجمولة
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وعلى آله وصحبه ومَن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فإنَّ العـالَم المعاصـر يشهد مجموعـةً مـن التحوُّلات المتسـارعة في مجـال الاتصـال وتقنيـة المعلومـات؛ مـا جعـل العالَمَ "قريةً صغيرةً"، تضمحل فيها المسافاتُ والحدود، وتنتقل فيها المعلومات إلى سائر أنحاء المعمورة في لمح البصر.
ولا شك أنَّ هذه التغيُّراتِ لها تأثيرٌ مباشـر في اللغة العربية، سلبًا وإيجابًا، فلا يُنكِرُ أحد ما أَسْدَتْه التكنولوجيا الحديثة من خدمات جمَّة للغة العربية على صعيدِ توفير أدوات وتطبيقاتٍ إلكترونية حافَظَت على فكرة تعليم العربية بالاعتماد على المبنى العربيِّ الفصيح، سواءً في الدروس التي تُقدِّمها، أو في النصوصِ التي تتضمَّنها، والتي اهتمَّت بالقواعدِ اللُّغوية السليمة، وطُرُق الكتابة الإملائية الصحيحة[1].
مِن هنا تأتي هذه المقالة المركَّزة لتسليط الضوء على الدور السلبيِّ الذي تضطلع به هذه الوسائلُ فيما يخصُّ استخدامَ اللغة العربية، مبيِّنةً بعض تجلِّياته، وبعضَ الأسباب الكامنة مِن ورائه، ومقترحةً بعضَ الحلول.
المحور الأول: وسائل التواصل الاجتماعي وتدهور استخدام اللغة العربية: المظاهر والأسباب:
تنتشر اليوم في مختلف مناطق العالَم مواقعُ تُعرَف باسم وسائلِ التواصل الاجتماعيِّ، أو الإعلام الجديد كما يحلو للبعض تسميتُها، ونذكر منها: الفيسبوك (facebook)، والتويتر (twitter)، والواتس أب (whatsapp)، واللينكد إن (linkedin)، والأنستغرام (instagram)، والفايبر (viber)، والسكايب (Skybe)... وغيرها، وهي في معظمها منظومةٌ من الشبكات الإلكترونيَّة التي تسمح للمشتركين بإنشاءِ مواقعَ خاصةٍ بهم، ومِن ثَمَّ ربطهم من خلال نظام اجتماعيٍّ إلكترونيٍّ بأعضاء آخرين لديهم الهوايات والاهتمامات نفسُها.
ولا يخفى علينا ما أَحْدَثَتْه هذه الشبكات التفاعليَّة مِن نقلات نوعية في حياة الناس، فأصبحوا مهووسين بها، ويجدون صعوبةً في الإقلاع عنها؛ بسببِ ما وفَّرَتْه لهم من إمكانات.
ولا يمكن أنْ ننكرَ تأثيرَ هذه المواقعِ في استخدام اللغة العربية، ومِن تجليَّات ذلك - مثلًا - ابتداعُها كلماتٍ تثير الاستغراب، عزَّزت الهوة بين الجيل الجديد مِن مستخدمي هذه الوسائل ولغة الضاد.
وقد تناول الباحث عبدالعزيز بن عثمان التويجري هذه الإشكاليةَ في كتابه "مستقبل اللغة العربية"[2]، مبيِّنًا أنَّ العلاقة بين اللغة والإعلام لا تسير دائمًا في مسارٍ متوازٍ؛ ذلك أنَّ الطرفين لا يتبادلان التأثيرَ؛ نظرًا لانعدام التكافؤِ بينهما؛ لأنَّ الإعلام هو الطرف الأقوى؛ ولذلك يكون تأثيرُه في اللغة بالغًا للدرجةِ التي تُضعِف الخصائصَ المميزةَ للغة، وتلحق بها أضرارًا تصل أحيانًا إلى تشوُّهات تُفسِد جمالها[3]، واسْتنتَج في هذا الجانب أنَّ اللغة صارت تابعًا للإعلام.
وعدَّ التويجري اللغةَ كائنًا حيًّا يعتريه ما يعتري أيَّ كائنٍ مِن عوارض المرض والشيخوخة والموت، وكذلك هي خاضعة لتقلُّبات الزمن نتيجةً للتطوُّرات والمستجدَّات التي تطرأ[4].
ووجد أكثر مِن سببٍ أدَّى إلى ضمور اللغةِ العربية الفصحى، وسيادة العاميِّ والغريب، والمفردات الأجنبيَّة الدخيلة، ووقوع الدارسين والمتعلِّمين في الأخطاء اللغويَّة الشنيعة.
وأشار هذا الباحث إلى تحذيرات الغيورين على لغة الضاد في القرن الماضي عند ظهور الصحافة في البلاد العربية في القرن التاسع عشر لأول مرَّة، وتنبيههم إلى انحدارها إلى مستويات متدنِّية، وتَعَالَت صيحات الأدباء والكتَّاب بضرورةِ الحرص على صحة اللغة العربية وسلامتها، وظهرت عدَّة كتب تُعنَى بما اصطلح عليه لغةُ الجرائد؛ لتصحِّح الخطأ، وتقوِّم المعوجَّ من أساليب الكتابة، وترُدَّ الاعتبار للغة العربية، وتمَّ تكليف أدباء كبار ولغويين لتحرير المقالات وتصحيح المعروض على النشر، وكان عليهم ابتكارُ لغةٍ وسيطة، سمِّيت بـ"اللغة السيَّارة" نسبةً للصحف السيَّارة التي ظَهَرَت حينئذٍ[5].
لكنَّ الظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية التي شهدتها البلاد العربيَّة تَمَخَّض عنها ضعفُ اللغة العربية، وهيمنةُ اللهجات العامية، وأصبَحَت اللغة العربية عند الكثيرين من الناس هي لغةَ الإعلام والصحافة اليوميَّة.
وسأقف عند بحثٍ عن اللغة العربية وأثرها في وسائل التواصل الاجتماعيِّ الحديثة، قدَّمَتْه الطالبةُ ظافرة سعيد آل زيان الأحمري[6] من كلية العلوم والآداب بمدينة عسير السعودية (قسم نظم المعلومات)، عزَّزته بعملِ استطلاعٍ للرأي شارَكَ فيه (460) شخصًا.
لقد أوضَحَت الأحمري أنَّ هذه البرامج والتطبيقات تتيح لمستخدميها إمكانيةَ التواصل بشكلٍ دائم ومستمرٍّ مع أصدقائهم ومتابعيهم، إلا أنها أَثَّرَت في جوانبَ عدَّة مِن حياتنا بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، سواء كان هذا التأثير إيجابيًّا أو سلبيًّا، وقالت: "ركَّزْت من خلال هذا البحث على الجانب السلبيِّ والتأثير البالغ في اللغة العربية مِن قِبَل مستخدمي تلك الوسائل الحديثة".
وأشارت إلى أنها قامت بعمل استطلاعٍ للرأي شارَكَ فيه (460) شخصًا مِن مستخدمي وسائل التواصل الحديثة، تراوَحَت أعمارهم من 40 سنة إلى 66 سنة؛ حيث أوضَحَت النتائج أن 45% منهم يرون أنَّ هذه الوسائل أثَّرت بشكلٍ سلبيٍّ في اللغة العربيَّة، كما لاحظت أنَّ هناك إهمالًا كبيرًا في الكتابة باللغة العربية الصحيحة في وسائل التواصل الحديثة، حتى مِن قِبَل المتلقِّين لتعليمٍ جيدٍ، والملمِّين بقواعدِ اللغة العربية الصحيحة وإملائها.
وأضافت الأحمري أنَّ أبرز ما يقع فيه المستخدمون مِن أخطاء يكمن في الاختصارات غير المفيدة للكلمات، أو إدخال حروف الجرِّ في الكلمات مع تَكرار حروف المدِّ في الكلمة دون فائدة، أو كتابة الكلمات والجمل بدون مسافة بينها نظرًا لقلَّة مساحة الأحرف المسموح بها في بعض التطبيقات، كذلك بعض أساليب الكتابة في وسائل الكتابة بما يسمَّى لغة "العربيزي أو الفرانكو أرب"، التي أصبحت شائعةً، وكَثُر استخدامُها بين الشباب والأطفال؛ حيث تحتوي العديد من الرسائل النصية على الهواتف الخلوية والفيس بوك وتويتر على كلماتٍ لا يمكن للآباء والأمَّهات قراءتُها أو فَهم معناها، حتى أصبحت اللغةُ العربية عند هؤلاء ركيكةً وضعيفةً إلى حدٍّ بعيدٍ، رغم أنهم نتاج آباء وأمَّهات عَرَب.
ولتقريب الصورة أكثر من هذه الظاهرة، فإنَّه يتمُّ كتابةُ رقم "2" بدلًا من الهمزة، و"3" بدلًا من العين، و"5" بدلًا من الخاء، و"6" بدلًا من الطاء، و"7" بدلًا من الحاء، و"8" بدلًا من القاف، و"9" بدلًا من الصاد[7].
بالإضافة إلى انتشار المصطلحات المختصرة عن كلمات أجنبية، مثلًا: brb برب، وهي اختصار لجملة Be Right Back معناها: سأذهب وأعود، tyt تيت، وهي اختصار لكلمة Take Your Time ومعناها: خذ وقتك، sms، وهي تعني رسالة نصية قصيرة...[8] وb8، وهي اختصار bonne nuit التي تعني ليلةً سعيدةً، وdr1: de rein التي تعني في الدردشة الفيسبوكيَّة عفوًا.
ويضاف إلى ما ذُكِر انتشارُ الأخطاء الإملائية؛ فمِن ذلك: استبدال كتابةِ همزةِ القطع بهمزة الوصل وحرف المدِّ، والتاء المربوطة بالهاء المربوطة.
وقد قمت عبر حسابي الخاص على الفايسبوك بإعداد استبيان لجمع معطيات عن الموضوع بطريقة علميَّة؛ حيث وجَّهت ثلاثةَ أسئلة إلى تسعة وعشرين شخصًا، عدد كبير منهم يدرسون معي في سلك الماستر[9]، وكانت حول الأسباب التي تدفع المستعمل العربيَّ إلى استخدام الحروف اللاتينية عوض العربية، ولماذا يفضل العامية على الفصحى؟ وما هي المقترحات الممكنة لتجاوزِ هذا الوضع؟
يتبع