{صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً}

د.أحمد الجسار




قال الله -تعالى- في كتابه المبين: {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (البقرة 138)، أي: الزموا دينَ الله، حتى يكون لكم صفةً، فتنقادوا لأوامره، وتتخلقوا بأخلاقه، وتنصبغوا بصِبغة الله، فتكونوا عبادًا لله، ظاهرا وباطنا. وهذه أفضلُ نعمةٍ أن يهديكَ الله لهذا الدين، فتكونَ من أتباعِ خاتَمِ المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، الذي أتم اللهُ به النعمةَ المُسداة، فأنزل عليه يومَ الجمعةِ في عرفات: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة 3). قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: فإنها نزلت في يومِ عيدين: في يومِ الجمعةِ، ويومِ عرفةَ، نعم، إنها أحسنُ شريعةٍ من ربكم، فاتبعوها كما أمركم: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الزمر 55).

النعمة العظيمة

فعليكم أن تشكروا اللهَ -تعالى- على هذه النعمة العظيمة، التي اجتباكم لها، وضَلَّ غيرُكم عنها، قال -تعالى- ممتنا عليكم أيها المسلمون: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} (الحج 78)، فاختار اللهُ لكم هذه الصِّبغةَ، فسماكم بها في الكتبِ السابقة، وفي هذا القرآنِ العظيم، فسماكم مسلمين، فاعتزوا بها، فقد اصطفاكم اللهُ واجتباكم لها، قال -تعالى-: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج 78).

الانتساب إلى الله -تعالى

فأعظمُ العزِّ أن تنتسبَ لله، فتكونَ مسلمًا لله، عبدًا لله، لا تطلبُ العِزةَ من دونه جل في علاه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران 26). قال أميرُ المؤمنينَ عُمَرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه -: «أَنْتُمْ كُنْتُمْ أَقَلَّ النَّاسِ فَأَعَزَّكُمُ اللهُ بِالْإِسْلَامِ، فَمَهْمَا تَطْلُبُوا الْعِزَّةَ بِغَيْرِهِ يُذُلَّكُمُ اللهُ -تعالى» (رواهُ الحَاكِمُ).

الانتساب إلى الإسلام

فاعتزوا بِإِسْلَامِكُمْ ، واتَّخِذوهُ شِرْعَةً ومِنْهَاجًا، ولُغَةً وسُلُوكًا وآدَابًا، واحذروا أن تتخلوا عن صِبغَتِكم، فتتداعى الأممُ عليكم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟، قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ» (رواهُ أبُودَاوُدَ).

احذروا التخلي عن صبغتكم

فاحذروا التخليَ عن صِبغَتِكم، التي أكرمكم بها ربكم، فلا تتشبهوا بالعاداتِ الممِيِّزَةِ لغير المسلمين، لأن التَّشَبُّهَ بِعَادَاتِ الكافرين، يُورِثُ الإِنْسَانَ ذُلًّا وانْهِزَامِيَّة ً، ثُمَّ يَأْلَفُ التَّبَعِيَّةَ، في كُلِّ شَيْءٍ وإن خالفَ دينَهُ وصِبغَتَه الإسلامية، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم» (رواه الإمامُ أحمد). وكما حذر - صلى الله عليه وسلم - من حالٍ يكونُ بعضُ المسلمينَ فيه كما قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ ». قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ! الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟» (متفق عليه).

لـمَّا خرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبرَ مرَّ بشجرةٍ للمُشرِكينَ يقالُ لَها ذاتُ أنواط، يعلِّقونَ عليْها أسلحتَهم، وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا، فقال بعضُ الناس: يا رسولَ اللهِ! اجعَل لنا ذاتَ أنواطٍ كما لَهم ذاتُ أنواطٍ. فقالَ النَّبيُّ- صلى الله عليه وسلم -: «سبحانَ اللهِ! هذا كما قالَ قومُ موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف 138). والَّذي نفسي بيدِهِ لترْكبُنَّ سُنَّةَ مَن كانَ قبلَكم» (رواه الترمذي).

الثبات على الصبغة الإسلامية

واعلموا أنَّ مِمَّا يُثَبِّتُ الصِّبغةَ الإِسْلَامِيَّة ِ: العِنَايَةَ بِاللغةِ العربية، لُغَةِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ النبوية، الَّتِي نَزَلَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ الإسلامية، فَارْتِبَاطُ الأُمَّةِ بِالْقُرْآنِ والسُّنَّةِ مَشْرُوطٌ بِبَقَاءِ لغةِ القرآنِ حَيَّةً بَيْنَ أَبْنَاءِ المـُسْلِمِينَ. إنها لسانُ النبيِّ الكريم - صلى الله عليه وسلم -، بها تُفهمُ سُنَّتُه، وهي التي نزل بها القرآنُ العظيم، فبها تُعقَلُ آياتُه. قالَ -سبحانهُ-: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف 1-2). فحافظوا على لغتكم، فهي من مظاهر اعتزازِكم بصِبغَةِ ربكم.

التمسك بالقرآن والسنة


وتمسكوا بكتاب ربكم، واتبعوا سنةَ نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، واعتزوا بـصِبغَتِكُم، فإِنَّ أَعْدَاءَ الأُمَّةِ يريدون لها أن تبتعد عن صِبغتها، فالواجب علينا أن نزداد تمسكًا بها، ولا نستحييَ مِنْ إِظْهَارِها، فإنَّ تمسُّكَنا بكِتَابِنا وبسُّنَّةِ نبينا وبلغتِنا لا يعارض تقدمَنا، فالتوفيقُ والنعمةُ والبركةُ من الله -تعالى-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (الأعراف 96). ففي الفترة الزمنية التي كان الناسُ في الغربِ يسمونها «العصورَ المظلمة»، مَلَكَ المسلمون مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، وازدهرت عندهم العلومُ الشرعيةُ والحياتية، وكانت لغةُ العلمِ حينئذٍ العربية، ولم يمنعْهم من ذلك تمسكُهم بدينهم، واعتزازُهم بصِبغَتِهِم الإسلامية.

فاحمدوا اللهَ -تعالى- أن جعلكم مسلمين، من أتباع خاتَمِ المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، الذي أسلم وجهه لرب العالمين: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام 162-163).