دراسة للخطب في الجاهلية (1)
د. إبراهيم عوض
يتناول الجاحظ في كتابه: "البيان والتبيين"، ضمن ما يتناول، الخطابة عند العرب في العصر الجاهلي، مبينًا أنهم كانوا بارعين في هذا الميدان براعة منقطعة النظير، حتى إنهم لم يكونوا عادة بحاجة إلى الاستعداد المسبق لمواجهة الجموع التي يتطلبها هذا الفن، بل كان الكلام في مثل تلك المواقف ينثال عليهم انثيالًا؛ إذ كانت قرائحهم خصبة ممتازة، وتفوُّقهم في ميدان الأحاديث العامة معروفًا لا يحتاج إلى برهان، وبخاصة أنهم كانوا يدربون أبناءهم عليها منذ وقت مبكر، بيد أن من الباحثين العرب المُحدَثين من يرى أنهم كانوا يعدون خطبهم ويهيئون أنفسهم لإلقائها مسبقًا؛ فهذه طبيعة الإبداع الأدبي كما يقول؛ (د. إحسان النص/ الخطابة العربية في عصرها الذهبي/ دار المعارف/ 1963م/ 16 - 17)، وهو ما تميل النفس إليه، وبخاصة أن من خطبهم التي تبعث على الثقة بصحتها ما كان يحليه السجع، مما يصعب تصور انثياله على لسان الخطيب ارتجالًا، وهو من الأسباب التي دفعتني للشك في بعض الخطب الجاهلية المثقلة بالتسجيع والمحسنات البديعية كما سيأتي لاحقًا، كما كانت لهم تقاليد مشهورة في إلقاء الخطب يحرصون عليها أشد الحرص، منها لُبس العمائم واتخاذ المخصرة؛ أي العصا، وفي كتاب الجاحظ المذكور آنفًا نماذج من الخُطب التي تركها لنا الجاهليون، ومعها أسماء عدد ممن اشتهروا بالتفوق في ذلك الباب، وهذا كله يبرهن أقوى برهان على أن العرب في ذلك العصر كانت لهم خطبهم وأحاديثهم، وأن هذه الخطب والأحاديث لم تَضِعْ، رغم أنهم كانوا أمة أمية في غالب أمرها؛ إذ كانت حافظتهم لاقطة شديدة الحساسية، كما أن اعتزازهم بكلامهم وتقاليدهم قد ضاعف من اهتمامهم بحفظ نصوص خطبهم المشهورة.
وبالمِثل يؤكد جرجي زيدان أن العرب في ذلك العصر كانوا خطباء مصاقِعَ بتأثير طبيعتهم النفسية وأوضاع حياتهم السياسية والاجتماعية؛ إذ كانوا ذوي نفوس حساسة أبيَّة تعشق الاستقلال وتبغَض العبودية أشد البغض، كما كثر فيهم الفرسان آنذاك، والخطابة، حسبما يقول، تناسب عصور الفروسية، حيث تغلِب الحماسة على النفوس، وتكون للكلمة البليغة المتلهبة مكانة عظيمة عالية، فضلًا عن أنهم كثيرًا ما كانوا يتنافرون ويتفاخرون بالأحساب والأنساب مواجهةً عن طريق المناظرات والخطب، إلى جانب كثرة وفودهم في المناسبات المختلفة، وبخاصة عند الملوك، مما كان يستلزم قيام الخطباء للحديث في تلك الظروف، وهم في العادة شيوخ القبائل ورؤساء الناس، كما ذكر أيضًا أنهم كانوا يدربون فتيانهم على إتقان هذا الفن منذ حداثتهم، وأنهم كانوا يحفظون خطبهم ويتوارثونها جيلًا بعد جيل، ومن هنا كانت عنايتهم الشديدة بها وبصياغتها؛ (جرجي زيدان/ تاريخ آداب اللغة العربية/ مراجعة وتعليق د. شوقي ضيف/ 1/ 167 - 169)، و"كان مفروضًا في الخطيب الجاهلي أن يعرف القبائل والأنساب والوقائع والتاريخ حتى تجتمع له من ذلك مادة الخُطبة حين ينافر أو يفاخر أو يهادن أو يحرض قومه على قتال أو يدافع عن أحساب قومه"؛ (محمد عبدالغني حسن/ الخطب والمواعظ/ دار المعارف/ 1955م/ 21).
هذا ما يقوله ثلاثة من كبار مؤرخي الأدب العربي قديمًا وحديثًا، بَيْدَ أن للدكتور طه حسين رأيًا مختلفًا تمامًا عما سمعناه منهم؛ إذ يؤكد أن العرب لم يتركوا لنا أية آثار أدبية نثرية البتة، لا خُطبًا ولا غير خُطب: فالنثر من جهة يحتاج إلى بيئة ثقافية متقدمة لم تكن متوفرة في جزيرة العرب قبل الإسلام، ومن جهة أخرى لم يصل إلينا عنهم شيء من ذلك مكتوب، فكيف نطمئن إذًا إلى ما يقال: إن العرب قد خلفوه لنا من خطب وحكم ووصايا وأسجاع كهنوتية؟ لكننا نراه، بعد أن أكد هذا في أسلوب حاسم قاطع، يرجع على عقبيه القهقرى مستثنيًا مِن شكه هذا بعضًا من النثر، وهو الأمثال، التي يعود فيقول: إنها أقرب إلى الأدب الشعبي منها إلى النثر الفني الذي يقصده، أما الخطابة فإنها تستلزم حياة خصبة جياشة، وحياة العرب قبل الإسلام لم تكن فيها سياسة قوية ولا نشاط ديني عملي، بل كانت قائمة على التجارة، وهي لا تحتاج إلى خطابة ولا تعين عليها، أو على الحروب والغزوات، وهذه إنما تحتاج إلى الحوار والجدل لا إلى الخطب؛ (طه حسين/ في الأدب الجاهلي/ دار المعارف/ 1964م/ 329 - 332)، ولعله لهذا السبب نبحث عبثًا، في كتاب "التوجيه الأدبي" الذي ألفه طه حسين مع أحمد أمين وعبدالوهاب عزام ومحمد عوض محمد، عن أي حديث يتعرض للخطابة في العصر الجاهلي؛ إذ كلما ورد ذكر الخطابة عند العرب وجدنا كاتب الفصل، وأغلب الظن أنه طه حسين نفسه، يقفز مباشرة إلى الحديث عنها بدءًا من العصر الإسلامي فهابطًا إلى العصر الحديث متجاهلًا تمام التجاهل أي كلام عنها فيما قبل الإسلام! (التوجيه الأدبي/ مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر/ 1359هـ - 1940م/ 41 وما بعدها، وكذلك 73 وما بعدها)، رغم تأكيد الكاتب أيضًا أن "تاريخ الخطابة يكاد يكون مقارنًا للتاريخ الإنساني: نشأ بنشأته، وارتقى برقيه"، وأنه "لهذا رُويت لنا الخطب منذ عُرف التاريخ"، وأنه متى توفر عاملَا الحرية وشعور الأمة بسوء حالتها وتطلعها إلى حالة أفضل انتعش هذا الفن انتعاشًا كبيرًا؛ (المرجع السابق/ 38 - 40)، وهو ما تحقق للعرب في ذلك العصر حسبما هو معلوم؛ إذ لم يكن لهم دولة تمارس سلطانها عليهم، وينزلون لها عن حظ مِن حريتهم واستقلالهم، كما أن السخط على الأوضاع كان منتشرًا بين كثير منهم آنذاك، هذا السخط الذي كان إحدى عُدَد الإسلام في مواجهة الجاهلية وأوضاعها الباطلة التي جاء ليغيِّرها إلى ما هو أفضل، ثم إنه من غير المنطقي أن يخترع العرب في عصور التدوين كل تلك الخطب وكل أولئك الخطباء من العدم ودون أن يقوم من بينهم من يفضح هذا التزييف، وكأن الأمة قد صارت كلها أمة من الكذابين أو من الكذابين والسذج المغفلين الذين يجوز عليهم مثل هذا الخداع دون أن يثير فيهم إنكارًا أو حتى دهشة واستغرابًا!
على كل حال، فطه حسين إنما يسير في إنكاره للنثر الجاهلي على ذات الدرب المتخبِّط الأهوج الذي سار عليه في نفيه للشعر الجاهلي كله تقريبًا مشايعًا المحترق مرجليوث في خُرقه وضلاله وعمى منطقه وبصيرته! وفوق ذلك فمن الصعب على العرب، كما يلاحظ بحق عبدالله عبدالجبار ود. محمد عبدالمنعم خفاجي، أن يرتقوا فجأة في ميدان الخطابة هذا الارتقاء الذي يقر هو به بعد الإسلام لو كانوا لا يعرفون الخطابة في الجاهلية، أو كانت خطابتهم على الأقل من التفاهة وعدم الغَناء بالموضع الذي يزعم طه حسين؛ (انظر كتابهما: "قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي"/ مكتبة الكليات الأزهرية/ 1400هـ - 1980م/ 202 - 203)، كذلك قد قفشه د. محمد عبدالعزيز الموافي قفشة بارعة بحق حين لفت الانتباه إلى أن طه حسين عندما أنكر وجود الخطابة الجاهلية إنما كان اعتماده في ذلك الإنكار على خلوِّ العصر الجاهلي من الحضارة والحياة المدنية الراقية، مع أنه سبق أن أقام إنكاره لصحة الشعر الجاهلي على القول بأن ذلك الشعر لا يمثل الحياة العقلية الراقية لدى الجاهليين؛ (د. محمد عبدالعزيز الموافي/ قراءة في الأدب الجاهلي/ ط7/ دار الثقافة العربية/ 1424هـ - 2003م/ 286 - 287)، ونضيف نحن أنه، رغم نفيه هنا أن يكون للجاهليين أي نشاط ديني عملي، كان قد أقام إنكاره للشعر الجاهلي على عدة أسس، من بينها: أن هذا الشعر لا يعكس حياتهم الدينية، فأي حياة دينية يعكسها إذا لم تكن لهم حياة دينية عملية أصلًا كما يقول هو بعظمة لسانه؟ أي إنه يقول بالشيء ونقيضه لتقرير ما يريد تقريره دون مبالاة باعتبارات المنطق أو حقائق التاريخ، مع الاستعانة بالسفسطة السخيفة التي لا تُحق حقًّا ولا تُبطِل باطلًا! ولقد فات د. طه أن هناك نصوصًا شِعرية جاهلية تذكر الخطابة والخطباء في ذلك العصر، وهو دليل آخر على وجود الخطابة والخطباء أوانئذ، ومن هذه الأشعار قول ربيعة بين مقروم الضبي:
ومتى تقُمْ عند اجتماعِ عشيرةٍ ♦♦♦ خطباؤُنا بين العشيرة يُفصَلِ
وقول أبي زبيد الطائي:
وخطيبٍ إذا تمعرت الأو ♦♦♦ جه يومًا في مأقط مشهود
وقول النجاشي الحارثي:
وخطيب إذا تمعرت الأو ♦♦♦ جه يشجى به الألدُّ الخصيم
وقول بلعاء بن قيس الكناني:
ألا أبلِغْ سراقةَ يا بن مال ♦♦♦ فبئس مقالةُ الرجلِ الخطيب
وقول ملاطم الفزاري:
ذكَرْت برؤيتي حَمَل بن بدر ♦♦♦ وصاحبَه الألدَّ على الخطيب
وقول أوس بن حجر:
أمْ مَنْ يكون خطيبَ القومِ إذ حفلوا ♦♦♦ لدى الملوكِ ذوي أَيْدٍ وأفضالِ؟
وقول عامر بن فضالة:
وهم يَدْعمون القولَ في كلِّ محفَلٍ ♦♦♦ بكلِّ خطيبٍ يترُكُ القومَ كُظَّمَا
وقول عامر المحاربي:
يقومُ فلا يَعْيَا الكلامَ خطيبُنا ♦♦♦ إذا الكربُ أنسى الجِبْسَ أن يتكلَّفا
وقول عمرو بن الإطنابة:
والقائلين فلا يُعابُ خطيبُهم ♦♦♦ يومَ المقالةِ بالكلامِ الفاصل
وقول عمرو بن كلثوم:
وأبي الذي حمَل المِئين وناطقُ الـ ♦♦♦ معروف إذ عيَّ الخطيبُ المِفصَلا
وقول أميمة بنت أمية:
وكم مِن ناطقٍ فيهم ♦♦♦ خطيبٍ مِصْقَعٍ مُعرِبِ
وقول زبان بن سيار الفزاري:
كلُّ خطيبٍ منهمُ مَؤُوفُ
ومعروف أن كل وفد من الوفود القَبلية التي قدمت على النبي عليه السلام في المدينة في العام التاسع للهجرة كان يضم بين أفراده خطباء يتكلمون باسم الوفد ويتبادلون الخطابة مع الرسول عليه السلام ومَن حوله من الصحابة، وهذا أيضًا من الأدلة التي لا يمكن نقضها مهما سفسط الدكتور طه، وقد تعرض لذلك د. جواد علي في المجلد الرابع من كتابه: "المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام"؛ (في الفصل الخاص بـ"النثر"، تحت عنوان "الخطابة")؛ إذ قال: "والخطابة عند الجاهليِّين حقيقة لا يستطيع أحد أن يجادل في وجودها، ودليل ذلك خطب الوفود التي وفدت على الرسول، وهي لا تختلف في أسلوب صياغتها وطريقة إلقائها عن أسلوب الجاهليين في الصياغة وفي طرق الإلقاء، ثم إن خطب الرسول عليه السلام في الوفود وفي الناس وأجوبته للخطباء هي دليل أيضًا على وجود الخطابة بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة عند الجاهليين"، وإن كان من رأيه أن هناك خطبًا جاهلية منحولة، وأن نصوص الخطب الصحيحة لم تصل إلينا كما قيلت، بل دخلها التغيير بفعل الزمن وضعف الذاكرة البشرية، وبخاصة أن الخُطب ليست كالشعر؛ أي: ليس فيها وزن وقافية يساعدان على حِفظها.
يتبع