بيان أن الرقية توقيفية ولا يجوز الاجتهاد فيها .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه
الأخوة والأخوات الكرام :
عرفنا في الجزء الأول من سلسلة بيان وشرح مقال (السحر والمس والعين بين هدي السنة وعقول البشر ) حقيقة الرقية وحكمها وأنها سنة نبوية من خلال قوله وفعله وتقريره عليه الصلاة والسلام .
وتعرفنا أيضا على الفرق بينها وبين الدعاء المطلق .
وفيما يلي سنتعرف على حكم شرعي آخر وهو أن الرقية توقيفية أي أن الرقية يجب أن تكون بما ثبت في السنة الصحيحة من الرقى ولا يجوز الزيادة عليها أو النقصان أو تغيير كيفيتها أو الاجتهاد برقى جديدة لم تكن معروفة على عهد النبي عليه الصلاة والسلام .
وسيتناول البحث عدة مباحث منها :
1 : أول حكم للرقى ( الاجتهادية ) الجاهلية في الإسلام .
2 : مناقشة أحاديث استئذان الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام للرقية برقاهم في الجاهلية وأمر النبي لهم بعرضها عليه .
3 : مناقشة حديث رقية الصحابي للَّديغ بالفاتحة وقول النبي له
" وما يدريك أنها رقية "
4 : مناقشة حديث اجتهاد الصحابي برقية المعتوه بالفاتحة وحكم النبي على رقيته بأنها رقية حق .
5 : ذكر الإجماع على شروط جواز الرقية .
6 :ذكر أقوال العلماء في بيانهم لشروط جواز الرقية .
7 : ذكر أقوال العلماء في أن الرقية بغير القرآن والسنة حرام وأن عامة علماء الأمة على كراهة الرقية بغير القرآن .
وهو خلاف ما يدعيه البعض ومنهم ( من اتخذ الرقية مهنة في هذا الزمان ) أن أغلب علماء الأمة يقولون بأن الرقى اجتهادية ما لم تكن شركا .
8 : ذكر أقوال العلماء في أن الرقية هي قراءة القرآن أو الأذكار المأثورة في السنة .
9 : موعظة نبوية عظيمة .
وإليكم البيان :
أولا :
أول حكم للرقية ( الاجتهادية ) في الإسلام .
إن أول حكم شرعي صدر عن الشارع الحكيم في الرقى التي هي ليست من الكتاب والسنة هو المنع و التحريم .
ذكر الأحاديث في ذلك :
فعن جابر رضي الله عنه قال
" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب وأنت نهيت عن الرقى فعرضوها عليه فقال ما أرى بها بأسا من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه "
[ رواه مسلم ]
.
وعن جابر قال :
" كان أهل بيت من الأنصار يقال لهم آل عمرو بن حزم يرقون من الحمةوكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الرقيفأتوه فقالوا يا رسول الله إنك قد نهيت عن الرقي وإنا نرقي من الحمة فقال لهم اعرضوا على فعرضوها عليه فقال لا بأس بهذه هذه مواثيق "
قال الشيخ الألباني : صحيح [ابن ماجة ].
و سُئلت عائشة عن الرقية ؟ فقالت :
" رخصرسول الله صلى الله عليه وسلم ،لأهل بيت من الأنصار في الرقية من كل ذي حمة "
[ مسلم ]
وعن أنس ، قال :
" رخصرسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين ، والحمة ، والنملة "
[ مسلم ]
قال أبو العباس القرطبي ( 578-656 ) في المفهم في شرح صحيح مسلم ج4
:
" قول عائشة رضي الله عنها :(( رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرُّقية من الحمة )).
وقول أنس : (( رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرُّقية من العين، والحمة، والنملة )) ؛
دليلٌ على أن الأصل في الرُّقي كان ممنوعًا ، كما قد صرَّح به حيث قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرُّقى . "
وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى مستدلا بالحديث التالي :
" وفي رواية لمسلم وأحمد ( 3 / 302 - 315 ) من طريق أبي سفيان عن جابر قال :" كان لي خال يرقي من العقرب، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، قال : فأتاه، فقال : يارسول الله إنك نهيت عن الرقى، وأنا أرقي من العقرب، فقال :
" من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل "
بل إن الحديث
بروايته الثانية من طريق أبي سفيان نص في المنع مما لا يعرف من الرقى، لأنه
صلى الله عليه وسلم نهى نهيا عاما أول الأمر، ثم رخص فيما تبين أنه لا بأس به من الرقى، "
[ الألباني في " السلسلة الصحيحة" 1 / 764 ]
ثانيا :
مناقشة أحاديث استئذان الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام للرقية برقاهم في الجاهلية وأمر النبي لهم بعرضها عليه :
الأخوة والأخوات الكرام المباركون :
كيف تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع الرقى التي كانت عند بعض الصحابة والتي كانوا يرقون بها قبل الإسلام .
وماذا فهم الصحابة رضي الله عنهم وكيف تعاملوا مع شروط النبي عليه الصلاة والسلام .
1 :
نهى عن كل الرقى وكما علمنا بما ثبت من الأحاديث السابقة . والنهي عن كل الرقى كحال أي نهي إنما يكون لوجود محاذير شرعية في الشيء المنهي عنه وسنتعرف على هذه المحاذير من خلال الشروط التي اشترطها النبي عليه الصلاة والسلام استأذنه الصحابة للرقية برقاهم في الجاهلية .
2 :
وحينما أراد بعض الصحابة الرقية بما كان قد جربوه من الرقى وانتفعوا به في الجاهلية لم يرقوا به إلا أن جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام واستأذنوه في أن يرقوا برقاهم لأنهم علموا أن كل الرقى التي هي ليست من الإسلام منهيٌّ عنها وحرام فما الذي اشترطه عليهم النبي .
هل بين لهم أن العلة والمحذور الشرعي الوحيد الذي من أجله نهى عن الرقى هو خشية أن يكون فيها شرك .
الجواب هو جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم عندما استأذنوه .
فعن عوف بن مالك الأشجعي ، قال :
" كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك فقال : "اعرضوا عليرقاكم ، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك "
[ مسلم ]
وعن جابر قال ( كان أهل بيت من الأنصار يقال لهم آل عمرو بن حزم يرقون من الحمة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الرقي فأتوه فقالوا يا رسول الله إنك قد نهيت عن الرقي وإنا نرقي من الحمة فقال لهم " اعرضوا على فعرضوها عليه فقال لا بأس بهذه هذه مواثيق ")
قال الشيخ الألباني : صحيح [ابن ماجة ].
فالأحاديث فيها قيدان .
الأول هو العرض عليه من أجل أن يرخص لهم فيها لأن الأصل أنها منهي عنها كلها .
والثاني هو خلو الرقية المعروضة عليه من الشرك .
ففي الحديث الأول كان سؤال الصحابة رضي الله عنهم عن عامة رقاهم في الجاهلية فأجابهم عليه الصلاة والسلام بأن أمرهم أمرا عاما بأن المطلوب من الذي عنده رقية هو عرضها عليه صلوات ربي وسلامه عليه وذلك بقوله
" اعرضوا علي رقاكم, لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك "
فأمره عليه الصلاة والسلام هو أمرٌ بعرض جميع الرقى التي كانت عندهم في الجاهلية .
فبدأ الصحابة بتنفيذ هذا الأمر النبوي .
وفي الحديث الثاني كان السؤال عن رقية معينة لآل عمرو بن حزم يعالجون بها مرضا معينا وهو اللدغة من ذوات السموم .
فكان جوابه عليه الصلاة والسلام كما في السؤال العام
" اعرضوا على "
فقام الصحابة بعرضها عليه " فعرضوها عليه "
فقال
" لا بأس بهذه هذه مواثيق"
وكما هو واضح وجلي أن النبي عليه الصلاة والسلام لما سألوه عن جميع رقاهم التي في الجاهلية جاء الجواب عام بأن يعرضوا عليه جميعها .
ولما سألوه عن رقية آل حزم بعينها لم يكتف بالأمر العام وبيانه لهم بجواز الرقية الخالية من الشرك .
بل أمرهم بعرضها عليه وأجازها إجازة خاصة بقوله
" لا بأس بهذه هذه مواثيق"
لذلك قال الإمام الألباني رحمه الله تعالى في الصحيحة ج 4 ص 565 :
" [ من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل ] . ( صحيح ) .
أخبرني أبو الزبير انه سمع جابر بن عبدالله يقول " أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في رقية الحية لبني عمرو .
قال أبو الزبير سمعت جابر بن عبد الله يقول لدغت رجلا منا عقرب ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل يا رسول الله أرقي قال ( فذكره ) .
وفي الكتاب روايات أخرى عديدة عن الرقيةوأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمح لآل عمرو بن حزم بأن يرقي إلا بعد أن اطلع على صفة الرقية ورآها مما لا بأس به ".
أيها الأحبة المباركون :
لقد تكرر أمر النبي للصحابة بعرض رقاهم التي في الجاهلية عليه في أكثر من واقعة .
وفيما يلي واقعة أخرى يأمر فيها النبي عليه الصلاة والسلام صحابية رضي الله عنها بعرض رقيتها عليه صلوات ربي وسلامه عليه .
فالمسألة إذن ليست حديثا واحدا قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام " اعرضوا علي رقاكم " وعقبه بقوله " لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " فانتهت المسألة وعرف الصحابة بأن علة النهي أو العرض هي الخشية من وجود الشرك فقط .
فما دامت الرقية خالية من الشرك فهي جائزة .
لا .
ليس الأمر كذلك .
فهذه الأحاديث والوقائع الكثيرة نقلت لنا وهي بين أيدينا .
تدل بشكل قاطع أن العلة ليست فقط خلو الرقية من الشرك بل إن العرض عليه وموافقته عليها .
شرط في جواز الرقية الخالية من الشرك .
وهذه هي الواقعة الأخرى والتي يأمر فيها النبي عليه الصلاة والسلام الصحابية الشفاء بنت عبد الله بعرض رقيتها عليه قبل أن يجيزها لها .
فقد أخرج الحاكم في مستدركه على الصحيحين ( 4 / 56 - 57 )
" أن رجلا من الأنصار خرجت به نملة فدل أن الشفاء بنت عبد الله ترقي من النملة ،فجاءها فسألها أن ترقيه ، فقالت : والله ما رقيت منذ أسلمت ، فذهب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي قالت الشفاء ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفاء .
فقال : " اعرضي علي "
فعرضتها عليه ،
فقال : " أرقيه وعلميها حفصة كما علمتيها الكتاب"
[ صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1 / 289 وقال : قال الحاكم : " صحيح على شرط الشيخين ".
ووافقه الذهبي ]
ولو كان شرط جواز الرقية الجاهلية هي عدم وجود الشرك فيها لاكتفى النبي ببيان ذلك للأنصاري الذي أتاه ولأخبره بأن ينظر في الرقية هل فيها شرك أم أنها خالية منه فيرقى بها .
لماذا دعا عليه الصلاة والسلام الشفاء ولما جاءته أمرها بأن تعرض رقيتها عليه ؟!!!
والذي يتتبع ويستقرأ الأحاديث الصحيحة التي تتحدث عن رقى الصحابة التي ليست من الكتاب والسنة سيعلم أن الصحابة كانوا يعرضون على النبي المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم رقاهم .
وأن هذا العرض تكرر في وقائع متعددة وفي أوقات متباعدة .
سأذكر منها واقعتين أخرتين عدا الوقائع الأخرى التي أمرهم فيها بالعرض عليه أمرا عاما كما مر علينا في الأحاديث الآنفة الذكر وأمرا خاصا كما في حديث آل عمرو بن حزم وكذلك حديث الشفاء رضي الله عنهم أجمعين .
فمن الوقائع الأخرى ما يلي :
الأولى :
عن جابر بن عبد الله ، يقول (رخص النبي صلى الله عليه وسلم لآل حزم في رقية الحية ،
وقال لأسماء بنت عميس : " ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة تصيبهم الحاجة "
قالت : لا ، ولكن العين تسرع إليهم ، قال : " ارقيهم " قالت: فعرضت عليه ، فقال: " ارقيهم " )
[ مسلم ]
ومن المعلوم أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها تزوجت من جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قبل الهجرة للحبشة بقليل وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة ومكثا هناك حتى سنة سبع هجرية .
وولدت أسماء أولادها من جعفر رضي الله عنه في الحبشة .
ثم قدما رضي الله عنهم المدينة المنورة في سنة سبع هجرية مما يعني أن كلام النبي عليه الصلاة والسلام مع أسماء حول أولاد جعفر رضي الله عنهم كان على أقل تقدير في سنة سبع هجرية أو بعدها والله أعلم .
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى :
" كانت أسماء بنت عميس من المهاجرات الى أرض الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فولدت له هناك محمد أو عبد الله وعونا ثم هاجرت الى المدينة ".
[ الاستيعاب ج4/ص1784 ]
والسؤال الذي يُطرح هنا :
لماذا عرضت أسماء رضي الله عنها رقيتها على النبي عليه الصلاة والسلام ؟
والنهي إنما كان في بداية هجرتهم إلى المدينة !
قال ابن عبد البر ( متوفى في463 ) في الاستذكارج8/ص406 :
" روى ابن وهب عن يونس عن بن شهاب قال بلغني عن رجال من أهل العلم أنهم كانوا يقولون : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الرقى حين قدم المدينة، وكانت الرقى في ذلك الزمان فيها كثير من كلام الشرك ، فانتهى الناس عنها حين نهاهم رسول الله عليه السلام ...
"
أي أن عرض أسماء رضي الله عنها كان بعد سبع سنين أو أكثر من استقرار الصحابة في المدينة ومن إذن النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة بالرقية بما ليس فيه شرك على قول من يقول أن شرط الرقية هو خلوها من الشرك فقط وليس العرض على النبي شرط لها .
ولماذا لم تكتف أسماء بخلو رقيتها من الشرك ؟!
لماذا هذا العرض عليه صلى الله عليه وآله وسلم وفي هذا الزمن المتأخر من الهجرة النبوية ؟!.
الواقعة الثانية :
ولقد ثبت في حديث آخر أن الصحابة كانوا يعرضون على رسول الله عليه الصلاة والسلام رقاهم ولزمن متأخر من الهجرة النبوية وهو السنة السابعة للهجرة أيضا وبعد معركة خيبر بالذات .
فعن عمير مولى أبي اللحم قال : " شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلموه أني مملوك قال فأمرني فقلدت السيف فإذا أنا أجره فأمر لي بشيء من خرتي المتاع وعرضت عليه رقيةكنت أرقي بها المجانين فأمرني بطرح بعضها وحبس بعضها "
قال الترمذي : حسن صحيح
قال الشيخ الألباني : صحيح
والأمر واضح جدا فلو أن الصحابة فهموا من الحديث أن الممنوع من الرقى هو ما كان فيه شرك فقط فإن كانت الرقية ليس فيها شرك فلا حاجة لعرض رقاهم عليه صلوات ربي وسلامه عليه ولما استمروا يعرضون عليه الرقى إلى هذا الزمن المتأخر أي بعد سبع سنين أو أكثر من استقرارهم في المدينة وتثبيت أركان التوحيد .
وقال أبو العباس القرطبي ( 578ه -656 ه ) في المفهم في شرح صحيح مسلم ج 4
:
. وإنَّما نهى عنه مطلقًا ؛لأنَّهم كانوا يرقون في الجاهلية بِرُقًى هو شركٌ، وبما لا يفهم، وكانوا يعتقدون : أن ذلك الرُّقى يؤثر .
ثم : إنهم لما أسلموا وزال ذلك عنهم نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك عمومًا ،
ليكون أبلغ في المنع وأسدُّ للذريعة . ثم : إنهم لما سألوه، وأخبروه : أنهم ينتفعون بذلك؛ رخص لهم في بعض ذلك، وقال : (( اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك)) . "
وكلام الإمام أبو العباس القرطبي واضح جدا في أن رخصة النبي كانت مقيدة بالعرض عليه وبما يرخص لهم من رقى معينة وأنه لم يرخص بكل الرقى الجاهلية بل ببعض الرقى التي عرضت عليه وأجازها .
وكما هو معلوم يقينا أن كلام النبي عليه الصلاة والسلام هو وحيٌ من الله فهو إذن مُنزهٌ من اللغو والحشو .
فقوله عليه الصلاة والسلام " اعرضوا علي رقاكم " هو أمر للصحابة بعرض كل ما عندهم من الرقى وكما جاء في حديث عوف بن مالك الأشجعي ، قال : كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك فقال : " اعرضوا علي رقاكم ، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك "
[ مسلم ]
والأمر يقتضي الوجوب كما في قواعد أصول الفقه .
فالأمر بالعرض عليه في الحديث يتناول جميع رقاهم وليست رقية آل عمرو بن حزم فحسب أو رقية الشفاء رضي الله عنهم أجمعين ونحو ذلك .
والسؤال الذي يوجه هنا لمن يقول بجواز الرقى بشرط أن تكون خالية من الشرك فقط ولا اعتبار للعرض عليه صلى الله عليه وآله وسلم هو .
ماذا نفعل بقوله عليه الصلاة والسلام "اعرضوا " خصوصا وأنه تكرر منه عليه الصلاة والسلام في أكثر من واقعة ؟!
ولوكان الحكم في قوله عليه الصلاة والسلام " لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " ناسخا للحكم في قوله " اعرضوا علي رقاكم " فلماذا تكرار الأمر بالعرض عليه صلوات ربي وسلامه عليه في وقائع متعددة ؟!.
ولماذا استمر الصحابة يعرضون ما عندهم من الرقى لوقت متأخر من الهجرة النبوية ؟!
ومن غير أن يطلب منهم النبي ذلك ابتداءا كما في ظاهر بعض الوقائع التي بينَتْها الأحاديث الأخرى التي أوردتها وهي حديث أسماء بنت عميس وحديث عمير رضي الله عنهما .
الأخوة الكرام :
ربما يسأل سائل فيقول : أليس طلب النبي عليه الصلاة والسلام من الصحابة عرض رقاهم التي كانوا يرقون بها في الجاهلية وهي ليست من الإسلام هو إقرار لهم على الاجتهاد في الرقية .
وأن الرقى التي أقرها النبي هي ليست من الكتاب والسنة ولكنها خالية من الشرك .
فكل رقية خالية من الشرك هي جائزة وإن لم تكن من الكتاب والسنة .
الجواب :
1 : لو كان السبب في منع الرقى الجاهلية هو الشرك فقط لاكتفى النبي عليه الصلاة والسلام بنهيهم عن الشرك فيها وذلك بقوله "لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " ولم يأمرهم بالعرض عليه ولمرات عديدة .
2 : إنّ عرض الرقية التي ليست من الكتاب والسنة على النبي عليه الصلاة والسلام وموافقته عليها أو على بعضها يعني أنها أصبحت سنة قولية بإقراره عليه الصلاة والسلام لها بقوله .
وهذا الحكم يعرفه كل طالب علم درس أصول الفقه .
والدليل على مثل هذا الإقرار لاجتهاد الصحابة في العبادات ليس في الرقية وإنما في أهم العبادات العملية وهي الصلاة هو إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لأحد الصحابة ممن كانوا يصلون خلفه والحديث في مسلم .
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة
باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة - حديث : 9754847
عن ابن عمر ، قال :
" بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من القائل كلمة كذا وكذا ؟
" قال رجل من القوم : أنا ، يا رسول الله .
قال : " عجبت لها ، فتحت لها أبواب السماء "
قال ابن عمر : " فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك "
وفي رواية أخرى
عن أنس ،
" أن رجلا جاء فدخل الصف وقد حفزه النفس ، فقال : الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال : " أيكم المتكلم بالكلمات ؟ "
فأرَمَّ القوم،
فقال : " أيكم المتكلم بها ؟ فإنه لم يقل بأسا " .
فقال رجل : جئت وقد حفزني النفس فقلتها ،
فقال : " لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها ، أيهم يرفعها "
رواه مسلم
حفزه النفس : قال الخطابي يريد أنه قد جهده النفس وأعجله من شدة السعي إلى الصلاة
[ عون المعبود ج2/ص332 ]
أرم القوم : سكت القوم .
وانظر إلى قول ابن عمر رضي الله عنه
" فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك "
لأنه بموافقة النبي عليه الصلاة والسلام على الذكر الذي هو من اجتهاد الصحابي نفسه وليس من الكتاب والسنة أصلا أصبح الذكر الاجتهادي سنة نبوية يتأسى بها الصحابة ومن بعدهم من الأمة إلى يوم الدين ويتعبدون الله بها.
لذلك قال الألباني رحمه الله تعالى في كتابه صفة صلاة النبي تحت باب أدعية الاستفتاح في الصلاة :
7- " الله أكبر كبيراً, والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً " ؛
استفتح به رجل من الصحابة، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عجبت لها ! فتحت لها أبواب السماء " .
8- " الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه " ؛
استفتح به رجل آخر، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها ؛ أيهم يرفعها " .
[ من كتاب صفة صلاة النبي للألباني ]
والدليل الآخر على اجتهاد الصحابة في الأذكار المقيدة وإقرار النبي لهم بقوله فتصبح اجتهاداتهم سنة نبوية :
عنْ رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ الزُّرَقِي قالَ :
" كُنَّا يَوْما نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ قالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدا كَثِيرا طَيِّبا مُبَارَكا فِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قالَ مَن المُتَكَلِّمُ قال أنا قال رَأَيْتُ بِضْعَةً وثَلاَثِينَ ملَكا يَبْتَدِرُونَهَ ا أيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أوَّلُ " البخاري
وفي رواية أخرى أخرجها الألباني في أصل صفة صلاة النبي فقال :
عن رفاعة قال :
" صليت خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فعطست ؛ فقلت : الحمد لله ؛ حمداً كثيراً طيباً مباركاً
فيه ، مباركاً عليه ؛ كما يحب ربنا ويرضى .
فلما صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ انصرف فقال :
" من المتكلم في الصلاة ؟ " .
فلم يتكلم أحد .
ثم قالها الثانية :
" من المتكلم في الصلاة ؟ " .
فلم يتكلم أحد .
ثم قالها الثالثة :
" من المتكلم في الصلاة ؟ " .
فقال رفاعة بن رافعِ ابن عفراء : أنا يا رسول الله ! ... الحديث . والباقي نحوه .
وقال الترمذي :
" حديث حسن " .
وهو كما قال .
وفيه زيادات ليست في الأول ،
كما أن في هذا أن
ذلك كان بعد العطاس ، وفي ذاك أنه كان بعد الركوع ، وقد جمع الحافظ بينهما بأن العطاس كان وقع بعد الرفع من الركوع ".
قال الزرقاني في شرحه لموطأ مالك ج2/ص43 :
" واستشكل تأخير رفاعة إجابة النبي حتى كرر سؤاله ثلاثا مع أن إجابته واجبة بل وعلى من سمع رفاعة فإنه لم يسأل المتكلم وحده وأجيب بأنه لما لم يعين واحدا بعينه لم تتعين المبادرة بالجواب من المتكلم ولا من واحد بعينه فكأنهم انتظروا بعضهم ليجيب .
وحملهم على ذلك خشية أن يبدو في حقه شيء ظنا منهم أنه أخطأ فيما فعل ورجوا أن يعفى عنه .
ففهم ذلك ( النبي ) فقال : من القائل الكلمة فإنه لم يقل بأسا .
فقال ( رفاعة ) :أنا قلتها لم أرد بها إلا خيرا .
كما في أبي داود عن عامر بن ربيعة
وعند ابن قانع قال رفاعة : فوددت أني خرجت من مالي وأني لم أشهد مع رسول الله تلك الصلاة
وللطبراني عن أبي أيوب : فسكت الرجل ورأى أنه قد هجم من رسول الله على شيء كرهه .
فقال : من هو فإنه لم يقل إلا صوابا .
قال الرجل : أنا يا رسول الله قلتها أرجو بها الخير "
وهذه الأذكار كما هو معلوم يقينا أنها في داخل الصلاة وهي أعظم عبادة عملية يؤديها المسلم في ديننا .
فهل يصح أن يقال مادام أن بعض الصحابة اجتهد في الصلاة
ببعض الأذكار وأقره النبي على ذلك بقوله "فإنه لم يقل بأسا "
فإنه يجوز الاجتهاد لكل مسلم بعد وفاة النبي في أذكار الصلاة مادام الذكر فيه كلام طيب وخير و ليس به بأس .
ولا عبرة بموافقة النبي عليه بل العبرة بكونه ليس به بأس !!!
لأن النبي قال لرفاعة " فإنه لم يقل بأسا "
وانظر إلى خوف الصحابة من عدم مشروعية ما اجتهدوا به في الصلاة هل يختلف عن خوفهم لما اجتهدوا في الرقية بفاتحة الكتاب لعلاج اللديغ أو المعتوه الذي في القيود ؟!.
مع العلم أن كلامهم في الصلاة معلوم أنه لا بأس به ففيه التكبير والتحميد وليس فيه شرك ولا حرام باستثناء الاجتهاد بقوله في الصلاة في موضع معين من غير إذن الشارع الحكيم .
والأمر واضح ولله الحمد والمنة .