أ.د. الشريف حاتم العوني
الجمعة 20/12/2013


الكلام الأدبي هو: الكلام الذي يُعبِّر عن عاطفة الأديب بنظرته الخاصة إلى أمرٍ ما، تعبيرًا يتجاوز قصدَ المعنى المباشر والرؤية العقلية المحضة، لا تَجاوُزَ الإهمال، ولكنه تَجاوُزُ الاستبطان، ليصل بهذا العمل الأدبي إلى أن يشاركه المتلقون لعمله في مشاعره ونظرته تجاه ذلك الأمر.
فالكلام الأدبي هو الكلام الذي يستدعي قراءته مرات، لا لفهمه فقط، وإنّما للتلذذ به أيضًا، كما تعيد النظر في الجمال، دون أن تكتفي بالنظرة الأولى.
لكن هذا التلذذ بالقراءة ليس يقتصر على التلذذ بالنغمة الكامنة في جرس الكلام ووزنه -إن كان شعرًا- ولا في طباقه وجناسه ومحسناته اللفظية البديعية -إن كان نثرًا- كما يحصل عند عموم الناس، ممّن لا يعرفون المعنى الحقيقي للتلذذ الأدبي، ولا يقدرون عليه.
وإنما التلذذ يكمن في الفهم العميق للكلام، الذي يصل إلى أغوار نفس المتكلم، لمعرفة بعيد مغازيه في كلامه، وليقرأ ما بين سطوره، وكي يعيش معه مشاعره، ويعلم دوافعه وأجواءه النفسية التي قادته ليقول ما قال.
والكلام كلما كان أبلغ، كلما بلغ بسامعه وقارئه أغوارًا أبعد في استنطاق خفي معانيه، وفي استنباط بعيد مراميه، وفي استفزاز مشاعر المتلقي لتعيش مشاعر المتكلم وحديثه النفسي.
والمتلقي كلما كان أكثر موهبة ومهارة وعلمًا في تذوق الكلام، كلما كان أقدر على الشعور بلذة الكلام من خلال هذا الغوص في معانيه.
ولهذا فيخطئ مَن يظن التذوق الأدبي مجرد لذة شعورية أو نفسية، بل هو لذة معرفية علمية أيضًا؛ لأنه يزيد من عمق فهمك للكلام.
ومن هنا تظهر أهمية التذوق الأدبي في فهم كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام أهل العلم، وأنه هو بوابة التعمق في الشريعة. وهذا هو أحد أهم ما كان لدى الصحابة -رضوان الله عليهم- ممّا أعانهم على عمق الفهم للشريعة وقوة فقههم فيها.
وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي (ت 790هـ) في الموافقات: "فإذا فرضنا مبتدئًا في فهم العربية: فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطًا: فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية: كان كذلك في الشريعة".
ومنذ أزمان متطاولة ابتعد أكثر المشتغلين بالعلوم الشرعية عن الأدب، وصاروا لا يتعاملون معه تعاملهم مع العلم، بل تعاملهم مع اللهو والمتعة، والتي تكتفي في كثير من الأحيان باللذة المغشوشة، التي لا تميز بين جيد الكلام ورديئه، وبليغه وبليده، فضلاً عن أن تنفذ إلى أعماق اللذة الأدبية القادرة على استلهام المعاني الخفية والمشاعر المصاحبة للكلام، من مُعمِّقات الفهم ومُوعِباتِ مراميه. وهذا ممّا أدّى إلى سطحية العلم، وكثرة الخطأ، وفحاشته في أحيان كثيرة.
إن سمو التذوق الأدبي ليس ترفًا علميًّا، وليس هو لغوًا لا أجر فيه. بل هو علم جليل، وحاسة نبيلة، تُعمّق الفهمَ، وتسمو بالمشاعر، فتزكو به الأخلاق. ولذلك نجد في الأدباء من سماحة الأخلاق، ومن رفيع الذوق الأخلاقي، ما نفقد كثيرًا منه عند كثير من المنتسبين للعلوم الشرعية.
بل إن سمو التذوق الأدبي كما هو باب الفهم العميق للوحيين ولكلام أهل العلم أيضًا، فهو باب الإيمان الراسخ، بالتذوق الحقيقي لبلاغة القرآن الكريم المعجزة، التي تكاد تصبح مجرد خبر يؤمن به المسلمون وعامة المشتغلين بالشريعة، إيمان تقليد أو تسليم، دون أن يكون لديهم منه شعور حقيقي به. وشتّان ما بين من يجد إعجاز القرآن الكريم في نفسه كما يجد ضرورة فرحه وحزنه وخوفه وطمأنينته، شعورًا ضررويًّا لا يقبل التشكيك، ومَن يؤمن بإعجاز القرآن خبرًا بغير شعور به! هو فرق كالفرق بين الخبر والمعاينة، "وليس الخبر كالمعاينة".
وهو علم يحتاجه القاضي الشرعي أيضًا، خاصة إذا أراد أن يحكم في كلام الأدباء، فعليه أن يُدرك اتِّساعَ كلامهم، ورمزيةَ خطابهم؛ وإلاّ فسوف يجور في الحكم عليهم، ويظلمهم في قضائه. ولذلك فقد تكلم الفقهاء عن اختصاص الشاعر بمزيد تسامح مع كلامه في الحكم بعدالته وقبول شهادته، كما قال الإمام النووي عن الشاعر في كتاب (روضة الطالبين): "وإن كان يَمدح الناسَ ويُطري: نُظر: إن أمكن حمله على ضرب مبالغة، جاز، وإن لم يمكن حمله على المبالغة، وكان كذبًا محضًا، فالصحيح الذي عليه الجمهور، وهو ظاهر نصه: أنه كسائر أنواع الكذب، فتُردُّ شهادته، إن كثُر منه. وقال القفال والصيدلاني: لا يُلحق بالكذب ؛ لأن الكاذب يُوهِم الكذبَ صدقًا، بخلاف الشاعر. فعلى هذا لا فرق بين قليله وكثيره، وهذا حسن بالغ".
فإلى أن يعود المشتغلون بالشريعة إلى الذوق الأدبي، ثقوا أن كثرة خوضهم في العلوم الشرعية لن يزيدنا إلاّ بعدًا عن نصوص الوحي، رغم أنه خوضٌ منهم باسم اتّباعها والتمسّك بها!!