"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (93)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "النازعات": (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)

القول الصحيح أن الأرض دحيت قبل خلق السماء.
فإن آيتي البقرة وفصلت صريحتان في ذلك.

ومما يدل دلالة واضحة على أن قوله: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) أي: مع ذلك دحاها أن الله ذكر في آية فصلت أنه جعل الرواسي من فوقها فقال: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ) ثم ذكر خلق السماء بعد ذلك.
وفي آية النازعات ذكر خلق الجبال بعد خلق السماء فقال: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)
وهذا يعني بكل وضوح أن قوله: (بعد ذلك) أي: مع ذلك.

ومعنى (دحاها) بسطها. هذا هو المعروف في اللغة.
ولكن الله تباك وتعالى ذكر أنه مع بسطها أخرج منافعها من الماء والمرعى والأقوات وأرساها بالجبال.

قال الزمخشري: "فإن قلت: هلا أدخل حرف العطف على أخرج؟
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون معنى دحاها بسطها ومهدها للسكنى، ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها، من تسوية أمر المأكل والمشرب، وإمكان القرار عليها، والسكون بإخراج الماء والمرعى، وإرساء الجبال وإثباتها أوتاداً لها حتى تستقر ويستقر عليها".

قال ابن عاشور: وجملة (أخرج منها ماءها ومرعاها) بدل اشتمال من جملة (دحاها) لأن المقصد من دحوها بمقتضى ما يكمل تيسير الانتفاع بها.

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون هل كان دحو الارض قبل خلق السماء أم بعده على قولين:

القول الأول: أن الأرض دحيت بعد خلق السماء, حيث ذكر الله خلق السماء، ثم قال: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (رجحه ابن جرير*, وابن عطية*) (وذكره الماتريدي*) (واقتصر عليه ابن كثير*)
(وذكره القرطبي* عند تفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا)

القول الثاني: أن الأرض دحيت قبل خلق السماء.
(ذكر القولين البغوي*, والرازي*)
وهذا القول هو الصحيح.

لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)
فأخبر الله أنه سوى السماوات بعد أن خلق ما في الأرض جميعاً.

وقوله: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ)

فيكون معنى قوله: (بعد ذلك) مع ذلك, كقول الله عز وجل: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) أي: مع ذلك زنيم.
وكما يقال للرجل: أنت أحمق، وأنت بعد هذا لئيم.
فقلت لها عني إليك فإنني ... حرام وإني بعد ذاك لبيب

وقال تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ} إلى قوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } والمعنى: وكان مع هذا من أهل الإيمان بالله.

ومما يدل دلالة واضحة على أن قوله: (بعد ذلك) أي: مع ذلك أن الله ذكر في آية فصلت أنه جعل الرواسي من فوقها فقال: (وجعل لها رواسي) ثم ذكر خلق السماء بعد ذلك.
وفي آية النازعات ذكر خلق الجبال بعد خلق السماء فقال: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)
وهذا يعني بكل وضوح أن قوله: (بعد ذلك) أي: مع ذلك.

(والشنقيطي*) رحمه الله ذكر القولين عند تفسير آية فصلت.
وذكر أن الله هداه إلى قول ثالث.
فقال: "وقد مكثت زمناً طويلاً أفكر في حل هذا الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم، ففهمته من القرآن العظيم.
وإيضاحه: أن المراد بخلق ما في الأرض جميعاً قبل خلق السماء الخلق اللغوي الذي هو التقدير، لا الخلق بالفعل، الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود.
والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير أنه تعالى نص على ذلك في سورة «فصلت» حيث قال: (وقدر فيها أقواتها) ثم قال: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) الآية".

قلت ما ذهب اليه الشنقيطي ضعيف.
فإن التقدير سابق ومفروغ منه قبل خلق السموات والأرض كما هو معروف.

تنبيه:
يوجد في التفاسير قول منسوب لقتادة في أن السماء خلقت قبل الأرض, وهو قول ضعيف غريب.
فإن آيتي البقرة وفصلت صريحة جداً.

قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً):
"وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء.
كما قال في آية "فصلت": {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}
فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة: أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض".

ومن عجائب ابن عاشور غفر الله له أنه يقول بهذا القول الغريب.
فإنه قال: "وهذه الآية أظهر في الدلالة على أن الأرض خلقت بعد السماوات وهو قول قتادة ومقاتل والسدي، وهو الذي تؤيده أدلة علم الهيئة، وما ورد من الآيات مما ظاهره كظاهر آية سورة البقرة تأويله واضح".
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/