( رؤية واقعية حول مدى تطبيق الأمة لهدف التوحيد من خلال نصوص القرآن والسنة ومواقف السيرة المشرفة ) :
- تعلمنا من الآيات والمواقف السابق عرضها في الجزء السابق أن الله تعالى خلق الإنسان لحكمة ، هي : ( توحيده سبحانه ) .
- إذا عاش المرء دون أن يحقق ويقوم بما خلق له من توحيده سبحانه ، فإنه حقيق بوصف البهيمية ، كما قال سبحانه : ( والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ) ، هذا في الدنيا ، وفي الآخرة : ( والنار مثوى لهم ) ، فمن بعد عن تلك الغاية قرب بنفس المقدار من ذلك الوصف في الدنيا ، وتلك العاقبة في الآخرة ، فَمَن عاقلٌ يرضى بالدني والسوء ؟!
- الآن نستطيع أن نقول أن أصل كل أدواء الأمة أفرادا وجماعة هو ضياع ذلك الهدف من قلوبهم وأفكارهم وتصوراتهم وحسهم ومشاعرهم مما أدى إلى فساد السلوك ،
غاب عن القلوب والمشاعر والتصورات - إلا من رحم الله تعالى - أن الله تعالى خلقنا لنوحده ، لنصرف حياتنا له ، لتكون نياتنا ، وأعمال قلوبنا ، ومشاعرنا ، وأقوالنا ، وأعمالنا على اختلافها وفق منهاجه ، مريدين بها وجهه وحده ، أليس هذا هو معنى : ( إلا ليعبدون ) ؟ أليست هذه هي حقيقة التوحيد ؟
إنه امتثال وتَمَثُّلُ قول إبراهيم عليه السلام : ( إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) ،
( لا إله إلا الله ) التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إليها ما كانت دعوة لمجرد قولها باللسان ، بل إن ( لا إله إلا الله ) تعني : ( إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) ،
فعباداتي وتنسكاتي وذكري لها وبها ،
ومعاملاتي وعلاقاتي لها وبها ،
وإنفاقي وإمساكي ، وإقدامي وإحجامي لها وبها ،
يقظتي ومنامي ، وحركاتي وسكناتي لها وبها ،
أكلي وشربي وجبلاتي ، وتجارتي وبيعي وشرائي ، نكاحي وطلاقي لها وبها ،
نياتي وأقوالي وأفعالي وأخلاقي لها وبها ،
كل حياتي بل ومماتي لها وبها ، أي : على وفقها ، آتي بها على وجه الإخلاص لربي سبحانه ، غير مشرك معه غيره .
( لا إله إلا الله ) تنضبط بها أوقاتي وتنضبط عليها أحوالي وحالاتي ،
حبي وبغضي ، ولائي وبرائي على وفق منهاجها ،
( لا إله إلا الله ) على وفقها أحل ما أُحل الله تعالى ، وأحرم ما حرم وحده لا شريك له ،
( لا إله إلا الله ) تعني : التشريع له تعالى بلا شريك ،
( لا إله إلا الله ) تعني : الحكم له وحده بلا شريك ؛ لأن الخلق خلقه ، والملك ملكه ، والأمر أمره ،
( لا إله إلا الله ) تعني : النفس والمال له ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن فمن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) .
لقد شاع فينا أن التوحيد والإسلام مجرد تصديق أو كلمة لسان ، فأصبحت نسبتنا له نسبة فارغة لا حقيقة لها ، وهذا كما هو على مستوى الأفراد فكذلك على مستوى المجتمعات والأمة ، صرنا لا تحكمنا ( لا إله إلا الله ) ، وبعدنا عن منهجها وشرعتها ؛ فخربت الديار وبئست الأمة .
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في السنوات الثلاث الأخيرة من المرحلة المكية يفاوض القبائل إلا على الإسلام التام والشامل لكل الحياة دون قيد أو شرط ، ففي دعوته بني عامر بن أبي صعصعة - كما جاءت الروايات بذلك - ، بعدما عرض عليهم أمر الإسلام ، طلب منهم الإيواء والنصرة ، فقالوا له : أرأيت إن نصرناك وأظهرك الله على من خالفك ، أكنت تجعل الأمر لنا من بعدك ؟ ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم منهم ذلك وقال : ( إن الأمر لله يضعه حيث يشاء ) ، ولما تكلم مع وفد بني شيبان وقيدوا نصرتهم بأنها من قريش دون فارس ، قال لهم صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا الدين لا ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه ) ، فلا معنى للتوحيد والإسلام مع الاشتراط على الله تعالى أو أخذ جانب من شرعه دون آخر ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) ،
إن حقيقة ( لا إله إلا الله ) : الانقياد التام والإسلام الكامل الشامل لله رب العالمين وحده بلا شريك .
والسؤال : ما مدى تحقيق الأفراد والدول والمجتمعات المنتسبة للإسلام لذلك المعنى وتلك الحقيقة ؟!
هل تصطبغ الأفراد بصبغة الله تعالى باطنا وظاهرا في سائر أمورها ؟!
هل تصطبغ الدول في تشريعاتها وأحكامها في جميع شؤونها وسائر أحوالها بتلك الصبغة ؟!
معنى قيام بلاد الإسلام على ( لا إله إلا الله ) : أن تلتزم شرائعه سبحانه حكما ، وسياسة ، وقضاء ، وعسكريا ، واقتصاديا ، واجتماعيا ، وتربية ، وفنا ، وعلما ، ...
وإذا كان البيت نَواة المجتمع وأصل صلاحه بل صلاح الأمة ، فما الذي تحققه البيوت المنتسبة للإسلام من هذا المعنى ؟!
اعلموا أن ركائز البيت المسلم الموحد هي : الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وسائر الغيب ، إيمانا يجعلها خاضعة له بالتوحيد والإخلاص ، والمسارعة إلى رضوانه بالعمل بطاعته والتزام عبادته ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، كل ذلك على وجه الشوق والحب والرجاء ، والتعظيم والخوف منه تعالى ،
البيت المسلم الموحد بيت يسود فيه جو الانكفاف عن المعاصي ، لا أن يقوم على شرطها !
ذلك أنه بيت يقوم أساسه على المراقبة الدائمة لله تعالى .
البيت المسلم الموحد بيت يطبق أحكام الله المنزلة ،
وتقوم العلاقة بين الزوجين فيه على المودة والرحمة وتأدية الحقوق ووالفضل وحسن الخلق ،
البيت الموحد بيت تتعاون أفراده على البر والتقوى ،
بيوت قائمة على ذكر الله تعالى ،
بيوت تعرف دورها في إصلاح الذرية .
أين هدف التوحيد في حياتنا ؟!
لننظر إلى الأطفال والشباب والشابات والرجال والنساء والطرقات والنوادي والمعاهد والكليات والمنظمات والمناهج المتنوعة في ديار الإسلام لا نجد إلا مُسوخا وجاهليات وشرك وكفر وإلحاد وشهوات وشبهات تحت رعاية وحماية الدول والحكومات المنتسبة للإسلام .
لقد شاع في ديار الإسلام فصل الدين عن أمور الحياة ، وسرى ذلك في الشعوب سريانا ، ولاشك أنه هدم الدين ، والكفر البواح ، والشرك الأكبر ،
وإلا فلماذا شرع صلى الله عليه وسلم تلك التشريعات في خطبة الوداع في الحج الذي هو شعيرة تعبدية ؟!
ولماذ تنزل سورة البقرة بهذا الكم الهائل من التشريعات المتنوعة للدولة المسلمة ؟!وسورة آل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأنفال والتوبة والنور والحجرات ، وغيرها ؟!
للابد من إثارة ذلكم الهدف الذي خلقنا له في أنفسنا إثارة تبعث على البناء والتربية الصحيحة من جديد ،
لا مانع أبدا أن تكون لنا أهداف ومطلوبات أخرى وإن كانت دنيوية ، لكن بشرط أن تفضي إلى الهدف الأعظم والغاية الأكبر في نهاية الأمر.
وللحديث بقية إن شاء الله في الكلام على النقطة الثانية .