الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَجَبَتِ الْأَلْبَابَ بَدَائِعُ حِكَمِهِ، وَخَصَمَتِ الْعُقُولَ لَطَائِفُ حُجَجِهِ، وَقَطَعَتْ عُذْرَ الْمُلْحِدِينَ عَجَائِبُ صُنْعِهِ، وَهَتَفَ فِي أَسْمَاعِ الْعَالَمِينَ أَلْسُنُ أَدِلَّتِهِ، شَاهِدَةً أَنَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ..خُطْبَةُ الْكِتَابِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَبِهِ ثِقَتِي وَعَلَيْهِ اعْتِمَادِي
رَبِّ يَسِّرْ
الَّذِي لَا عِدْلَ لَهُ مُعَادِلٌ، وَلَا مِثْلَ لَهُ مُمَاثِلٌ، وَلَا شَرِيكَ لَهُ مُظَاهِرٌ، وَلَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَلَا كُفُوًا أَحَدٌ..
وَأَنَّهُ الْجَبَّارُ الَّذِي خَضَعَتْ لِجَبَرُوتِهِ الْجَبَابِرَةُ..
وَالْعَزِيزُ الَّذِي ذَلَّتْ لِعِزَّتِهِ الْمُلُوكُ الْأَعِزَّةُ، وَخَشَعَتْ لِمَهَابَةِ سَطْوَتِهِ ذَوُو الْمَهَابَةِ، وَأَذْعَنَ لَهُ جَمِيعُ الْخَلْقِ بِالطَّاعَةِ طَوْعًا وَكَرْهًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}..
فَكُلُّ مَوْجُودٍ إِلَى وَحْدَانِيَّتِه ِ دَاعٍ، وَكُلُّ مَحْسُوسٍ إِلَى رُبُوبِيَّتِهِ هَادٍ، بِمَا وَسَمَهُمْ بِهِ مِنْ آثَارِ الصَّنْعَةِ، مِنْ نَقْصٍ وَزِيَادَةٍ، وَعَجْزٍ وَحَاجَةٍ، وَتَصَرُّفٍ فِي عَاهَاتٍ عَارِضَةٍ، وَمُقَارَنَةِ أَحْدَاثٍ لَازِمَةٍ، لِتَكُونَ لَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ..
ثُمَّ أَرْدَفَ مَا شَهِدَتْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ أَدِلَّتُهُ، وَأَكَّدَ مَا اسْتَنَارَتْ فِي الْقُلُوبِ مِنْهُ بَهْجَتُهُ، بِرُسُلٍ ابْتَعَثَهُمْ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ..
دُعَاةً إِلَى مَا اتَّضَحَتْ لَدَيْهِمْ صِحَّتُهُ، وَثَبَتَتْ فِي الْعُقُولِ حُجَّتُهُ؛ {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء: 165]، وَلِيَذَّكَرَ أُولُو النُّهَى وَالْحُلُمِ..
فَأَمَدَّهُمْ بِعَوْنِهِ، وَأَبَانَهُمْ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ، بِمَا دَلَّ بِهِ عَلَى صِدْقِهِمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ الْبَالِغَةِ، وَالْآيِ الْمُعْجِزَةِ؛ لِئَلَّا يَقُولَ الْقَائِلُ فِيهِمْ: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}[المؤمنون: 34]. فَجَعَلَهُمْ سُفَرَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَأُمَنَاءَهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَاخْتَصَّهُمْ بِفَضْلِهِ، وَاصْطَفَاهُمْ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِيمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ مَوَاهِبِهِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ كَرَامَاتِهِ، مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةً، وَمَنَازِلَ مُتَفَرِّقَةً..
وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، مُتَفَاضِلَاتٍ مُتَبَايِنَاتٍ، فَكَرَّمَ بَعْضَهُمْ بِالتَّكْلِيمِ وَالنَّجْوَى، وَأَيَّدَ بَعْضَهُمْ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَخَصَّهُ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ أُولِي الْعَاهَةِ وَالْعَمَى..
وَفَضَّلَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدَّرَجَاتِ بِالْعُلْيَا، وَمِنَ الْمَرَاتِبِ بِالْعُظْمَى، فَحَبَاهُ مِنْ أَقْسَامِ كَرَامَتِهِ بِالْقِسْمِ الْأَفْضَلِ، وَخَصَّهُ مِنْ دَرَجَاتِ النُّبُوَّةِ بِالْحَظِّ الْأَجْزَلِ، وَمِنَ الْأَتْبَاعِ وَالْأَصْحَابِ بِالنَّصِيبِ الْأَوْفَرِ..
وَابْتَعَثَهُ بِالدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ، وَحَاطَهُ وَحِيدًا، وَعَصَمَهُ فَرِيدًا، مِنْ كُلِّ جَبَّارٍ عَانِدٍ، وَكُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ..
حَتَّى أَظْهَرَ بِهِ الدِّينَ، وَأَوْضَحَ بِهِ السَّبِيلَ، وَأَنْهَجَ بِهِ مَعَالِمَ الْحَقِّ، وَمَحَقَ بِهِ مَنَارَ الشِّرْكِ، وَزَهَقَ بِهِ الْبَاطِلُ، وَاضْمَحَلَّ بِهِ الضَّلَالُ وَخُدَعُ الشَّيْطَانِ، وَعِبَادَةُ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، مُؤَيَّدًا بِدَلَالَةٍ عَلَى الْأَيَّامِ بَاقِيَةٍ، وَعَلَى الدُّهُورِ وَالْأَزْمَانِ ثَابِتَةٍ، وَعَلَى مَمَرِّ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ دَائِمَةٍ، يَزْدَادُ ضِيَاؤُهَا عَلَى كَرِّ الدُّهُورِ إِشْرَاقًا، وَعَلَى مَرِّ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ ائْتِلَاقًا، تَخْصِيصًا مِنَ اللَّهِ لَهُ بِهَا، دُونَ سَائِرِ رُسُلِهِ، الَّذِينَ قَهَرَتْهُمُ الْجَبَابِرَةُ، وَاسْتَذَلَّتْه ُمُ الْأُمَمُ الْفَاجِرَةُ، فَعَفَتْ بَعْدَهُمْ مِنْهُمُ الْآثَارُ، وَأَخْمَلَتْ ذِكْرَهُمُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، وَدُونَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُرْسَلًا إِلَى أُمَّةٍ دُونَ أُمَّةً، وَخَاصَّةٍ دُونَ عَامَّةٍ، وَجَمَاعَةٍ دُونَ كَافَّةٍ..
فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَرَّمْنَا بِتَصْدِيقِهِ، وَشَرَّفَنَا بِاتِّبَاعِهِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَبِمَا دَعَا إِلَيْهِ وَجَاءَ بِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَزْكَى صَلَوَاتِهِ، وَأَفْضَلَ سَلَامِهِ، وَأَتَمَّ تَحِيَّاتِهِ.
........................يتب ع