ليلة النصف من شعبان


الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر

إن الله -جل وعلا- له الحكمة البالغة في خلقه وشرعه، والله -جل وعلا- يختص برحمته من يشاء فضلاً وشرفا سواء ذلك مما يتعلق بالأشخاص أم الأزمنة أم الأمكنة كما قال الله -عزوجل-: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (القصص:68)، ومما يدخل في ذلكم ما خص الله -جل وعلا- به شهر شعبان شهرنا هذا؛ فكان نبينا -عليه الصلاة والسلام- يصوم أكثر شعبان كما ثبت بذلكم الحديث عنه -عليه الصلاة والسلام.

ويخبر -صلوات الله وسلامه عليه- عن غفلة كثير من الناس عنه، كما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -َ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ».

هدي النبي - صلى الله عليه وسلم

إن المسلم إذا سمع بهدي النبي -الكريم عليه الصلاة والسلام- وسنته الصحيحة المأثورة عنه يحرص على الإقبال عليها إدراكاً لأجرها وفوزاً بثوابها، ومن لم ينشط لذلك ولم يتحقق له فعل ذلك؛ فإنه يفوته أجر تلك السنن المستحبات ولا إثم عليه، أما أن يتحول الحال في المسلم إلى رغبة عن السنة وإعراض عنها وإهمال للعمل بها وتفريط فيها، وفي الوقت نفسه يشتد تمسكه وتعظم عنايته بأمور محدثات وأعمال مبتدعات لا أصل لها في شرع الله، ولا في هدي رسوله -الكريم صلى الله عليه وسلم، فإن حال المرء حينئذ حال تنذر بخطر لإعراضه عن السنة وعدم رغبته فيها مع إقبال شديد منه على أمور محدثات، وأعمال لا أصل لها في شرع الله -تبارك وتعالى.

بدعة الاحتفال بليلة النصف

وفي هذا المقام يقول الإمام العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- في رسالة له مختصرة، أفردها فيما يتعلق بالبدع المحدثات في ليلة النصف من شعبان، يقول -رحمه الله -تعالى-: ومن البدع التي أحدثها بعض الناس بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان وتخصيص يومها بالصيام، وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه، وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، أما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع، كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم، وورد فيها أيضًا آثار عن بعض السلف من أهل الشام وغيرهم، الذي أجمع عليه جمهور العلماء: أن الاحتفال بها بدعة، وأن الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة وبعضها موضوع.

نقول عديدة

ثم ساق -رحمه الله تعالى- نقولاً عديدة في ذلك ثم قال: ومما تقدم من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم يتضح لطالب الحق: أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهر، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله -عز وجل-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3) وما جاء في معناها من الآيات، وقول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» وما جاء في معناه من الأحاديث». انتهى المقصود نقله من كلامه -رحمه الله تعالى.

واقع بعض الناس

وعندما يتأمل المتأمل في واقع بعض الناس في تلك الليلة يرى أعمالاً متنوعة يحرص عليها، ثم إذا فتش المفتش ونظر الناظر في الدليل على ذلك لا يجد عليها شيئاً ثابتاً في هدي نبينا -صلوات الله وسلامه عليه- وهذه مصيبة عظمى عندما يُعرض المرء عن السنن الثابتات وينخرط انخراطاً شديداً وراء أعمال محدثات لا أصل لها في شرع الله ولا دليل عليها في سنة نبيه -عليه الصلاة والسلام.

اعتقاد خطأ

ومن ذلك اعتقاد بعض الناس أن ليلة النصف من شعبان هي المعنية بقول -الله تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان:3-4) وأنها التي يُقدَّر فيها الآجال والأرزاق، وهذا خطأ بين كما نبه على ذلك أهل العلم ومن ذلكم قول الإمام ابن كثير -رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية: «من قال إنها ليلة النصف من شعبان فقد أبعد؛ فإن نص القرآن أنها في رمضان أي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم».

تخصيصها بالصلاة والقيام

- ومن ذلكم: تخصيص بعض الناس ليلة النصف من شعبان بالصلاة وقيام الليل دون سائر الأيام وإحياء تلك الليلة بالذكر والدعاء ؛ فهذا عمل محدث لم يفعله النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا الصحابة الكرام ولو فعلوا ذلك لنقل إلينا بالأسانيد الصحيحة وهو مردود على عامله؛ لعموم قول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». أما ما يروى في الترغيب بصيام يومها وقيام ليلها من حديث علي -رضي الله عنه- فهو حديث باطلٌ مكذوبٌ على رسول -الله صلوات الله وسلامه عليه- فلا يحل العمل به؛ ولذلك قال زيد بن أسلم -رحمه الله تعالى-: «ما أدركنا أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان، ولا يرون لها فضلًا على ما سواها»، إلا أنه يستثنى من ذلك من كان له صيام اعتاده كمن اعتاد صيام الخميس أو صيام البيض أو نحو ذلك؛ فإنه يمضي على ما اعتاده من صيام.

صنع أطعمة مخصوصة

ومن ذلك صنع أطعمة مخصوصة في ليلة النصف من شعبان وتوزيعها بزعم أن لها مزية على غيرها، أو أن في ذلك أجراً وثواباً أو نحو ذلك؛ فهذا مما لا أصل له في شرع الله.

التوسيع على الأهل

- وكذلك: الاحتفال في هذه الليلة بالتوسيع على الأهل والأولاد ونحوهم من القرابات في المطعم والمشرب والملبس ونحو ذلك تحت مسميات متنوعات، وهو عمل لا أصل له في شرع الله المطهر، والقول بأنها من العادات أو التقاليد أو من إحياء التراث، وأنها لا دخل لها في الدين هذه دعوى غير صحيحة والواقع يكذبها؛ لأنها تعمل على وجه التدين، ويصنع فيها أعمال من أنواع القربات التي يتقرب بها إلى الله -عز وجل.

حديث عظيم

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول -الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ»؛ لنتأمل هذا الحديث متذكرين فضل يوم الجمعة وفضل ليلتها، ومع ذلك قال نبينا -عليه الصلاة والسلام- ما قال من نهي عن تخصيص ليلتها بقيام وتخصيص يومها بصيام؛ فيستفاد من هذا أنه لو كان تخصيص شيء من الليالي بشيء من العبادات جائزاً لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها؛ لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس بنص الأحاديث الصحيحة عن رسول الله -صلى عليه وسلم- فلما حذّر النبي -عليه الصلاة والسلام- من تخصيصها بقيام من بين الليالي دل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى، لا يجوز تخصيصها بشيء من العبادات إلا بدليل صحيح ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدل على التخصيص.

الواجب على المسلم

إن الواجب على المسلم أن يتقي الله -جل وعلا- وأن يحرص على سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- وأن يعرض عن البدع وإن زُيِّنت له فإن جميع البدع مردودة على أصحابها كما قال نبينا -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب الناس يوم الجمعة قال: «أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ».