قاعدة عموم نفي المساواة وأثرها في الفقه الإسلامي (1-4)
تنبيهــــــات:
وههنا تنبيهات وفوائد تتعلق بهذا المبحث الأول، فمن ذلك:
أولاً: سبق في المطلب الأول ذكر (العامّ) و(العموم) فهل بينهما فرقٌ؟
والجواب: أن بينهما فرقاً أوضحه الزركشي بقوله: «الفرق بين العموم والعام: أن (العامّ) هو اللفظ المتناوِل، و(العموم) تناول اللفظ لما صلح له.
فالعموم مصدرٌ، والعام اسم فاعل مشتق من هذا المصدر، وهما متغايران لأنَّ المصدرَ الفعلُ، والفعل غير الفاعل» اهـ([108]).
وقال أبو البقـاء الكَفَوِي([109]): «العـام هو اللفظ المتناوِل، والعموم تناول اللفظ لما يصلح لـه. فالعام من جهة اللفظ، والعموم من جهة المعنى » اهـ([110]).
ثانياً: أن (العموم) يقع على شيئين:
أ*- عموم الشمول، وهو العام.
ب*- عموم الصلاحية، وهو المطلق. ويسمى أيضاً (عموم البدل)، وتسميته عموماً باعتبار أن موارده غير منحصرة، لا أنه في نفسه عامٌّ([111]).
والفرق بينهما: أن عموم الشمول يتناول كل الأفراد، وعموم الصلاحية يتناول فرداً غير معيَّن، فقول الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) ([112]) عامٌّ فلا يكون المأمور ممتثلاً إلا بالمحافظة على جميعها.
وقوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ([113]) مطلقٌ فيكفي امتثاله في صورة واحدة أي بإعتاق عبدٍ واحد.
ثالثاً: سبق في ألفاظ القاعدة كلمة (نَفْي)، وهو – من حيث الاصطلاح – بخلاف (التنافي)؛ فإن النفي سلبٌ محض([114])، والتنافي بين الشيئين هو: إثبات تمانعهما على وجه التضادّ أو التناقض([115])، فالنفي سلبٌ والتنافي إيجاب.
ولهذا فإن قول الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ([116]) جاء نفياً للمساواةِ والمِثْليةِ التي زعمها الكفار كما حكاه القرآن عنهم بقوله سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) ([117]) فجاء الجواب: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) فهذا إثبات للتنافي بينهما لأن البيع حلالٌ والربا حرام، فهو نفي للمساواة على سبيل التضاد، فلا يكون من مسألتنا.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الثيِّبُ أحقُّ بنفسها من وليِّها والبكرُ يستأذنها أبوها»([118]) هو من هذا القبيل.
وأمَّا ما نحن فيه فهو (النفي) الذي هو سلبٌ محض؛ فمن هنا عَبَّر بعض الأصوليين في مسألتنا بـ (السلب)([119])، وعَبَّر بعضهم بـ (العدم) حيث قال العَضُد الإيجي([120]): «... يدل على عدم جميع وجوه المساواة» اهـ([121]).
وحُمادَى القول: أن ما كان نفياً معنوياً للتساوي بين شيئين – أي لا تقتضيه الصيغة وإنما يُفْهَم من السياق أو من خارجي – لا تجري فيه القاعدة، وإنما تجري في النفي اللفظي، وهو دخول أداة النفي – صريحاً أو تقديراً – على المساواة ونحوها.
رابعاً: صَدَّر بعضهم كالرازي([122]) في كتابه (المحصول) ([123]) وأتباعه([124]) هذه المسألة الأصولية بآية ومسألة جزئية، أعني قول الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) ([125]) في دلالته على عدم قتل المسلم بالكافر الذمي، حتى ليخيَّل للناظر في (المحصول) ومختصراته أنهم يبحثون مسألة من الفقه أو من علم الخلاف، وقد نَبَّه على ذلك شهاب الدين القرافي([126]) حيث قال: «مسألةٌ وقعت في كتب الخلاف وكتب الأصول وهي في الحقيقة يليق ثبوتها في مسائل الخلاف؛ لأنها مسألة جزئية والأصل أن لا يثبت في أصول الفقه إلا القواعد الكلية، أمَّا نصُّ جزئي فإنما يبحث في الفقه والخلاف، لكن لمَّا عظمتْ شهرتها وانتشر البحث فيها تَوَلَّعَ([127]) الأصوليون بها، وهي أن الحنفية قالوا: إن المسلم يُقْتَل بالذمي، وقال غيرهم: لا يُقتل به، واستدلوا بقوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) ([128]) فلو ثبت القصاص بينهما وقُتل المسلم بالذمي كما يُقتل الذمي بالمسلم؛ استوى أصحاب النار وأصحاب الجنة، لكن النص دلَّ على نفي الاستواء، فلا يثبت القصاص.
فأثبت الأصوليون – صاحب المحصول وغيره – هذا النص في باب العمومات، وجعلوه مسألة مستقلة من مسائل العموم؛ لتوقف صحة هذا الاستدلال على عموم النفي في وجوه الاستواء من القصاص وغيره، حتى يندرج القصاص في تلك الوجوه المنفية» اهـ([129]).
خامساً: لم يخرج الأصوليون في أمثلة القاعدة من النصوص الشرعية – على ما رأيتُ – عن النص القرآني، ولعل البحث في كتب الخلاف والفقه وفي مدونات السُّنة وغير ذلك كفيلٌ بالعثور على أمثلة صحيحة من الحديث الشريف يجري فيها عموم نفي المساواة.
المبحـــث الثاني:
الخلاف في حكم المسألة
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول
أقوال الأصوليين في مدلول نفي المساواة:
اختلف أهل العلم بأصول الفقه فيما يقتضيه نفي المساواة بين الشيئين الوارد في نصٍّ شرعي، وكان خلافهم على قولين:
الأول: أن نفي المساواة بين الشيئين يدل على العموم، أي أنه يقتضي نفي جميع الوجوه الممكن نفيها.
وهذا مذهب المالكية([130]) والشافعية([131]) والحنابلة([132]) وبعض الزيدية([133]).
الثاني: أن نفي المساواة بين الشيئين لا يدل على العموم، فينصرف إلى الخاص وهو ما دلَّ عليه السياق، ويبقى فيما عداه كالمجمل يتوقف فيه إلى حين البيان.
وهذا مذهب الحنفية([134])، واختاره أبو الحسين([135]) البصري([136])، وقال بعضهم: إنه مذهب المعتزلة([137]).
وممـن قـال به الظاهـرية([138]) وأبــو حـامد([139]) الغـزالي([140]) وإِلْكِيَــا([141]) الطـبري([142]) وفخـر الديـن الـرازي([143]) وأتبـاعه([144])، وصـفي الديـن الهنـدي([145]) وابن رشيق([146]) المصري([147]) تبعاً للغزالي، وكثيرٌ من الزيدية([148])، واختار القرافي أيضاً عدم دلالته على العموم إلا أنه قال: يختص نفي المساواة بما سيق الكلام لأجله([149]).
المطلب الثاني:
تحرير محل النزاع:
لم أَرَ مَنْ تعرض لتحرير موضع الخلاف في مسالة عموم نفي المساواة سوى ابن الهمام([150])، وتابعه عليه البَدَخْشي([151]) وابن عبدالشكور([152]).
ويمكن تلخيص ما قالوه فيما يلي:
أولاً: أن الحنفية والجمهور لا يختلفون في أن نفي المساواة يدل على العموم من حيث أصل الوضع، كما أنَّ نفي كل فعل عامٌّ في وجوهه، مثل (لا آكل) عامٌّ في وجوه الأكل([153]).
ثانياً: كما أنهم لا يختلفون على عدم صحة إرادة العموم في نفي المساواة، وهي مسألتنا([154]).
وذلك أن الاستواء بين الشيئين بوجهٍ من الوجوه معلوم الصدق؛ لأن كل شيئين متشاركان في وصفٍ، وأقله الشيئية([155]) والوجود([156]).
وأَنَّ سلب الاستواء من جميع الوجوه معلوم البطلان؛ وذلك لتحقق نقيضه وهو الاستواء بوجهٍ ما.
وفي قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) ([157]) يتفق المذهبان – الجمهور والحنفية – أنه لا يراد به العموم؛ لاستواء الفريقين في الجسمية والحيوانية وغير ذلك، فهو عامٌّ مخصوص بقرينة العقل؛ إذْ لا يُجَوِّز عاقلٌ عموم سلب الاستواء([158]).
ثالثاً: وإنما يختلفون في أن المراد من عموم نفي المساواة بعد تخصيصه بالعقل هل هو أمر الآخرة فلا يعارض آيات القصاص العامة فيقتل المسلم بالذمي؟ أو المراد أمر الدنيا والآخرة فيعارضها فلا يقتل المسلم بالذمي؟
هذا هو محل النزاع، فذهب الحنفية إلى الأول، وذهب الجمهور إلى الثاني([159]).
* أقول: وعليك أن تلاحظ أموراً:
الأول: أن عدم اختلاف الفريقين في أن نفي المساواة دالٌّ على العموم أَقَرَّ به الحنفية من حيث الوضع، ولم يكن محل إجماع، حيث قال بعض موافقيهم في النتيجة كالرازي([160]) وأتباعه([161]) بأنه لا يقتضي العموم أصلاً، فالحنفية يمنعون إرادة التعميم، والرازي وغيره يمنع دلالته على التعميم، ثم إن النتيجة واحدة وهي: عدم صحة حمل النص على العموم.
الثاني: أن الجمهور قد نصّوا على أن المراد بالتعميم في مسألتنا هو في الأمور الممكنة، وقد سبق كلامهم في هذا عند ذكر ضوابط المسألة([162])، ولا شك أن السلب إنما يكون في الممكن، وأما غير الممكنات فلا يمكن أن تكون مرادة للشارع أصلاً، وإذا لم تكن مرادة أصلاً فإنَّ حَمْل اللفظ على ما عداها من الصُّور حملٌ للفظ على مقتضاه وجميع معناه، فهو إذاً ليس بعامٍّ مخصوص أو مرادٍ به الخصوص.
ولهذا فإن العطّار([163]) لما نقل عن البدخشي أنه أنكر على مَنْ بنى الخلاف بين الجمهور والحنفية في قتل المسلم بالذمي على الخلاف في القاعدة بقوله: «الحق أنه ليس كذلك؛ لأن الحنفية صرحوا بعمومها في نفي الاستواء، إلا أن حقيقة العموم متروكة بدلالة محل الكلام بعدم قبوله حكم الحقيقة؛ لوجود المساواة في كثير من الصفات» اهـ([164]) أقول: لما نقل العطار عنه هذا قال: أجاب بعض الفضلاء بأن المراد أن الحنفية لا يُجْرون الآية([165]) على عمومها وإن كانت عامة بحسب الأصل، والشافعية يُجْرونها على العموم فلا يُساوى المسلم بالذمي أصلاً عندهم فلا يقتل، وعند الحنفية يجوز أن يتساويا حيث لم تَجْرِ الآية على العموم فيجوز قتل المسلم بالذمي، بل يجب عند قيام الدليل، وحينئذ يجوز أن يكون الخلاف مبنياً على أن الآية مُجراة على العموم أَوْ لا([166]).
الثالث: أن المراد بحمل اللفظ على العموم في نفي المساواة عند الجمهور إنما هو في الأحكام الشرعية؛ لأن كلامنا في مسألة من أصول الفقه، وعلى هذا فلا معنى لما قاله ابن الهمام وابن عبدالشكور من استواء أصحاب النار وأصحاب الجنة في الحيوانية والجسمية وغير ذلك، وجعلهما ذلك مستنداً لعدم إرادة العموم.
قال بدر الدين التُّسْتَرِي([167]): «سلب الاستواء لا يستلزم السلب من كل وجهٍ لامتناعه، فإما أن يراد بالسلبِ سلبُ الأحكام الشرعية، أو غيرها.
والثاني باطلٌ؛ لوجوب حمل كلام الشارع على الحقيقة الشرعية؛ لدلالة بعثته صلى الله عليه وسلم على تعريفه للأحكام الشرعية لا غير، فتعيَّن الأول» اهـ([168]).
الرابع: ولو سُلِّم أنه قد خرجت صفات الحيوانية والجسمية والناطقية عن العموم بقرينة التخصيص، فإن ذلك لا يمنع التعميم؛ لأن دخول المخصِّص لا يعني تجريد اللفظ العام من وصف العموم؛ إذْ لا يكاد يوجد لفظٌ عام في الأحكام الشرعية إلا وقد دخله التخصيص، ولم يمنع ذلك من تسميته عامَّاً عند الفريقين.
ولذا قال أبو الحسين البصري في مسألتنا هذه: «ولقائلٍ أن يقول: إن سُلِّم لهم أن الآية تفيد نفي اشتراكهم في كل الصفات أجمع، لم يضرهم اشتراكهم في كثير من الصفات؛ لأن العموم إذا خرج بعضه لم يمنع من التعلق بباقيه» اهـ([169]).
الخامس: أنه قد يقال: ما ذكروه يقتضي حصر المسألة في نفي المساواة بين أصحاب النار وأصحاب الجنة، والمسألة جارية فيما هو أعم من خصوص الآية الكريمة المذكورة، مثل قوله تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) ([170]) وقوله سبحانه: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) ([171]) وغيرهما من النصوص، فكيف يقال فيها: إن محل النزاع هو أنه هل يختص بأمر الآخرة أو يعم الدارين؟!
وهذا عند التحقيق ليس وارداً عليهم؛ لأنهم إنما أرادوا تطبيق الخلاف الأصولي على نصّ جزئي ومسألة فرعية اشتهر فيها الخلاف، لا أنهم أرادوا حصر الخلاف في القاعدة في ذلك النص وتلك المسألة الفقهية، هذا لا يقول به أحد؛ ولذا قال ابن الهُمام رحمه الله في آخر تحريره للمسألة: «فظهر أن الخلاف في تطبيق كلٍّ من المذهبين على دليلٍ تفصيلي»اهـ([172]). وقد مَثَّل الأصوليون بأمثلة أخرى وصَرَّح الحنفية بردّ الخلاف فيها إلى الخلاف في قاعدة عموم نفي المساواة، كما ستراه في المبحث الأخير إن شاء الله تعالى.
* وخلاصة القول في محل النزاع هو: أن ورود النفي على المساواة ونحوها – كالمماثلة – في النص الشرعي هل يدل على عموم نفي التسوية بينهما فيما يمكن نفيه من الأحكام الشرعية؟ أَوْ لا يدل على ذلك؟
فذهب الجمهور للأول، والحنفية وموافقوهم للثاني، بعد اتفاق الفريقين على أن الصورة التي دل عليها السياق مرادةٌ، وإنما النزاع فيما عداها من الصور.
. يتبع