وفيك بارك الله يا أبا الليثي،
-----------------
الحمدُ للهِ وَحْدَه وبعدُ:-
فما كنتُ أعلمُ أنَّ للشِّعْرِ مذاقاً كالطعامِ حتي قرأتُ منازعةً قلَّ أنْ تجدَ لها نظيراً علي المنتدياتِ العلميةِ، وهي للشيخِ المحققِ/ صالحٍ العَمْري - حَفِظَهُ اللهُ -، وإليكَ المنازعةَ يا صاحُِ :-
في الوَحشيَّات (المقطوعة 461):
"الكُمَيْتُ في خالدِ بنِ عبدِ اللهِ
1 - لا عَينُ نارِكَ عَنْ سارٍ مُغَمّضَةٌ ** ولا محِلَّتُكَ الطّاطَا ولا الدَّغَلُ
2 - تَحْيَى وُفودُكَ والنِّيرانُ مَيّتَةٌ ** إذا أنَاخَ بجنْح الليلةِ الطَّفَلُ
3 - لما عَبَأْتَ لِقَوْسِ المجد...."
كنتُ أقرأُ هذه المقطوعةَ دائماً وأستحسنُها فإذا بلغتُ البيتَ الثانيَ عِنْدَ الموضعِ الملونِ بالأحمرِ تحديداً وجدتُ في نفسي حرجاً وضيقاً، كرجلٍ كانَ يأكلُ طعاماً لذيذاً ثمَّ اعترضتْ فيه قطعةٌ فاسدةٌ بشعةُ المذاق، فكنتُ ربما أنشدتُ المقطوعةَ لنفسي أو لغيري فإذا بلغتُ البيتَ الثانيَ أسقطتُه ولم أُنْشِدْه.
وما توقفتُ يوماً عنده وتأملته لأرى سببَ هذه الغُصَّةِ التي أَجِدُها في هذا الموضع، إنما هو شيءٌ نكِره قلبي واشمأزَّ منه، ثم أصبحت يوماً نشيطاً صافيَ الذِّهْنِ فأنشدت هذه المقطوعة، فما بلغت هذا الموضعَ حتى تبدَّى لي الصوابُ كأنني أقرأه في كتاب، وكأني أسمعُ صوتاً من داخلي يقول: "
لا معنى لقوله: تحيى وُفودك، وصوابُه بلا شك ولا ريب: يحيى وَقُودك".
فاستحسنت هذا الكلام، وجعلت أبحثُ عن البيتِ فما وجدته إلا في ديوان الكميت تحقيق الدكتور محمد نبيل طريفي، فوجدت هذا الموضع في الديوان كما جاء في الوحشيات، ثم قال في الحاشية:
"
في الديوان: (تحبس وفودك والنيران مغمضة)، ....، وأناخ: حط الرحال وأبرك الإبل"
أما قوله: في الديوان، فإنه يعني النشرة السابقة للديوان، ويقال إنه سرق عمله منها، انظر هذا الرابط:
http://majles.alukah.net/showthread.php?t=53593
وأما روايةُ الدِّيوانِ التي أشار إليها فلا معنى لها، و"
تحبس" هذه لا يستقيمُ الوزنُ إلا بجزمها وليست هي في موضعِ جزمٍ، وأما "
مغمضة" فخطأ أحسب مرده إلى انتقال النظر من البيت الأول إلى البيت الثاني، فانظر إلى البيتين:
لا عين نارك عن سارٍ
مغمضة ** ولا محلتك الطاطا ولا الدَّغَلُ
تَحْيَى وُفودُكَ والنيران
ميتة ** إذا أناخ بجنح الليلة الطَّفَلُ
وأما قوله: "
وأناخ: حط الرحال وأبرك الإبل" فهذا أصل المعنى، وأنا أخشى أنَّ هؤلاءِ القومَ ينظرون في المعاجمِ ويَنْقُلُون أوَّلَ شيءِ تقعُ عليه أعينُهم، والصحيحُ أنه ليس هنا حط رحال ولا إبراك إبل، بل معنى أناخ الطفلُ هنا: وقع وثبت وأقام.
فالحاصلُ أنَّ صوابَ البيتِ إن شاء الله:
يَحْيَى وَقودُك والنيران ميتة
والوَقود بفتح الواو: يجوز أن يكون الحطب، ويجوز أن يكون لهب النار، قال في اللسان: "
الليث: الوَقود ما ترى من لهبها".
وبهذا يصحُ الطِّباقُ والمقابلةُ في البيت، فالكميت يقول: تحيى نارك إذا ماتت النيران، يريد بذلك أنه كريمٌ لا تنطفئُ نارُه، بل لا تزالُ موقدةً للعُفَاةِ والطُّرَّاق، أما الوُفود فلا معنى لذكرهم هنا ألبتة، ولا وجهَ للمقابلةِ بين حياةِ الوُفود عنده وموتِ النيران عند غيره.
والله أعلم