تجارب شخصية في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
مريم عبد الله النعيمي .. كاتبة وباحثة إماراتية
مجلة العصر
من تجاربي في تغيير بعض الأخطاء
قد يكون هذا المقال نوعا من سرد أحداث شخصية مجردة. وقد يظن القارئ للوهلة الأولى أنها استعراض عضلات أو ذكر مآثر شخصية أريد تسجيلها عبر هذه المساحة المكتوبة، لكن الأمر جد مختلف، وما سيعرض من تجارب بسيطة في طبيعتها عميقة في دلالاتها، الهدف منها ترسيخ قيمة رفض الأخطاء ،والدعوة للتحرر من التفكير الضيق، الذي يحرمنا في كثير من الأحيان من ممارسة حقنا المشروع في التعبير عن آرائنا!!
فيما سأسرد من تجارب بسيطة في طبيعتها مؤثرة في نتائجها يعكس قيمة حضارية علينا نحن كمسلمين أن لا نفرط بها وسلوكا متفوقا للمسلم الذي أراده الله عز وجل أن يكون شاهدا على البشرية ومبلغا عن رب العالمين.
القصص والتجارب في إنكار الخطأ، تحفز على التغيير وتعكس نتائجه النقلة الإيجابية الممكنة، فيما لو تقدمنا للأمام وأعلنا الرفض عما نعتقد أنه مسيء للمجتمع ومتجاوز للخطوط الحمراء.
قبل أكثر من عام، نشرت صحيفة كبرى في الإمارات، وفي ملحقها اليومي وعلى صفحتها الأولى إعلانا عن حذاء نسائي، وكان الإعلان مثيرا وفيه ما يصدم ذوق القارئ، ويجرح مشاعره، الأمر الذي كان يستدعي التعبير عن الرفض لمنع تكرار تلك المحاولة.
كانت الساعة الثانية ظهرا حين اتصلت بقسم الإعلان بالصحيفة، ولم أنتظر إلا لحظات لأستمع لصوت امرأة مثقلة بالحزن والاستياء تجيب على الهاتف، وبعد أن طلبت منها المسئول عن قسم الإعلانات بالصحيفة، سألتني بخصوص ماذا؟ فقلت لها بخصوص إعلان عرض على صحيفتكم اليوم.
فتنهدت بمرارة، وقالت لي نعم الإعلان الذي ظهر في الجزء الثاني من الصحيفة عن أحد الأحذية، فأبديت لها دهشتي، فقالت لا تستغربي فمنذ الصباح الباكر، ونحن نتلقى اتصالات والمسئول قد أغلق الباب على نفسه وهو في حالة تثير الرثاء والشفقة!
علمت حينها مدى حيوية مجتمعاتنا، ومدى أهمية أن نتحرك للتعبير عن غضبنا، وبما أن المسئول قد انهار خلال ساعات من تلقي المكالمات الغاضبة، فماذا لو حوصر هو أو غيره على مدى الأيام والأسابيع؟أعتقد أن الصورة سوف تكون لصالح تحسين أداء وسائلنا الإعلامية، وإجبارها على عدم الاندفاع وراء التسطيح والإسفاف.
في تجربة ثانية في التعبير عن الرفض لأداء الإعلام، حين يتجاوز خطوطه الحمراء، كانت النتائج إيجابية أيضا.
قبل مدة، قامت إحدى أكبر قنواتنا الفضائية بعرض لقطة من برنامج شبابي، قدم فيها الضيف إجابة صادمة على سؤال عن رأيه في سلوك معين يمارسه بعض الشباب غير المتزوجين، ورغم أن الشرع كان له حكمه الصريح، إلا أن الضيف لم يكتف فقط بإباحة أمر محرم، بل وأخذ يزين ذلك السلوك في أعين الشباب، ويربطه بالرجولة والنضج والقوة!!
ورغم أن البرنامج كما ذكرت كان إسلامي الطابع، إلا أن الرجل أساء في عرض فكرته، وكان فجا واستخدم ألفاظا لا أخلاقية، بل حتى رؤيته، كانت تصطدم اصطداما واضحا مع الدين، الذي أمر بالعفة والاستعفاف!!
لقد تم عرض وتكرار تلك الحلقة على مدى عدة أيام، تجاوزت الأسبوع والأسبوعين، حيث كان يبث الإعلان في الموسم الصيفي، الذي تكثر فيه إعادة الحلقات!!
لم يكن من الصعب اتخاذ قرار بالاتصال الهاتفي بتلك المحطة الكبيرة، والمحمول اليوم يفعل الكثير ويساعد على الاتصال من أي مكان.
بعد محاولة أو اثنتين أتاني صوت موظف في العلاقات العامة، يسأل عن سبب الاتصال، فأجبته تقديم رسالة احتجاج واضحة وصريحة لما تبثه القناة منذ عدة أيام وفي أوقات الذروة يوميا حول لقطة إعلانية ممجوجة لبرنامج إسلامي الطابع.
أبديت حينها غضبا كبيرا لاستهتار القناة وعدم قدرتها على التمييز بين المناسب وغير المناسب لعرضه أمام الناس، المهم أني وجدت تفاعلا واهتماما كبيرين بالملاحظات التي عرضتها، وأخذ موظف العلاقات العامة اسمي ورقم هاتفي، ودّون الملاحظات وأعاد قراءتها من جديد.
بعد يوم واحد فقط من إجراء المكالمة اختفى الإعلان عن الحلقة، واختفت العبارات المخلة بالأدب مع ذلك الإعلان، ما سبب لي ارتياحا وزادني ثقة أن المطلوب منا أن نبذل ما نستطيع والباقي على الله.
ولو أن كل فرد فكر في تغيير خطأ يراه ويقلقه وضع أمام نفسه العوائق الذهنية، وبدا يفكر بأسلوب مهزوم، فلن يغير ذلك أي خلل ولن يصلح ذلك التفكير أي عطب!
المطلوب فقط أن نطلق لإرادتنا العنان، وأن لا نكبل تلك الإرادة بوهم الشعور بالضعف والعجز وقلة الحيلة، فالعاجز لا ينجز، والذي يرى نفسه غير قادر على التغيير، ولو في إنكار منكر، بأسلوب شفوي وبالكلمة المجردة، فمعنى ذلك أن هذا المسلم بعيد كل البعد عن فهم أبجديات تحقيق الإيمان وتحويله لمصدر قوة وطاقة، لا يمكن إيقافها متى ما توفرت الثقة بالنفس والغيرة على الخير والفضيلة.
استدعاء ذكريات النجاح في تغيير الخطأ أو الحد من عنفوانه وشدته، لا شك أنه يمنح المرء حافزا للمواصلة طالما أن هناك من يمضي في هذا الطريق ويواصل حتى النهاية.
قبل عام أو أكثر، ونتيجة لتغيير الإدارة في إحدى صحفنا المحلية، لاحظ القراء أن الملحق الطبي لتلك الصحيفة اليومية تخلى عن وقاره، وارتدى ثوبا يكشف أكثر مما يستر من عورة وعيب!!
فعلى مدى أسابيع عدة، فوجئت كما فوجئ غيري بعدد كبير من القراء، بالجرأة التي تصل إلى حد الوقاحة والإسفاف على غلاف ذلك الملحق الأسبوعي التابع للصحيفة المحلية.
وفي الأسبوع الأول، حدثت نفسي كغيري، بأنه ربما حدث خطأ وتجاوز غير مقصودين، وسرعان ما سيتم الإصلاح والتدارك، فالموضوعات الطبية لا علاقة لها برجال ونساء وأطفال شبه عراة على شاطئ البحر، أو نساء يرتدين ملابس فاضحة، تسيء لقيم المجتمع وتصدم القارئ دون ذنب!!
بعد مرور عدة أسابيع، كان الوضع قد ازداد سوء، وصارت المجلة الطبية كأنها مجلة للاستعراض والمجون!! لم يكن الصمت قرارا صائبا، ولا السكوت أكثر أمام هذا الانفلات، فقد بدا واضحا أن هناك قرارا خفيا بالخروج عن ضوابط المجتمع، والدخول في المناطق المحظورة وكان الجوال قريبا فرفعت سماعة الهاتف واتصلت على رقم الهاتف المذكور في الصفحة الداخلية بالمجلة.
لم يطل بي الانتظار، وجاءني صوت رجل في الستين عمره، وبعد الاستفهام، وجدته أحد المؤسسين للقسم الطبي بتلك الصحيفة. وأطلعته على أن سبب الاتصال، تقديم رسالة احتجاج على المسار الجديد للصحيفة اليومية، وتحديدا ما يعرض من صور في المجلة الطبية، التي تدخل منذ الصباح الباكر لبيوتنا ومؤسساتنا دون استئذان!!
في البداية، حاول التهرب وإبداء اللامبالاة، وأظهر حججا واهية، لكنه في أثناء المكالمة، بدا شخصا مختلفا تماما، وانقلب على كثير من تبريراته التي قدمها في بداية حديثه.
أذكر أني قلت له أنت تعلم أن النظرية التسويقية التي يقف وراءها مصممو هذه المجلة، نظرية متهالكة، والدليل على ذلك أن هناك رسائل احتجاج وصلتكم كما أعتقد طيلة الأسابيع الفائتة. فأجاب نعم تلقينا الكثير من المكالمات، وكلها كانت تحتج على المسار الجديد للمجلة الطبية، فقلت له إذن نظرية "الجمهور عاوز كده"، ليست نظرية صحيحة يا سيدي، ألا ترى أن من اتصل بك هم رجال ونساء لديهم أسر ويحرجهم إلى أبعد حد وجود هذه الصور كل أسبوع في بيوتهم؟!!
إن الجمهور يا أستاذ يتضمن شريحة ما زالت قابضة على قيمها ومبادئها بقوة، وهي ليست على استعداد للتضحية بتلك المبادئ ومن أخبرك أن الصور شبه العارية ستزيد من أرقام المبيعات هو واهم ولاشك فأغلب الأسر ترغب في إنتاج إعلامي نظيف. أما تجاوز الخطوط الحمراء رغبة في مضاعفة الأرباح، فتلك خسارة وطنية وأخلاقية واجتماعية لا يمكن القبول بها!!
بعد قرابة 15 دقيقة وأكثر من الأخذ والرد، بدا الرجل غير قادر على الدفاع أكثر عن خط الصحيفة الجديد، خاصة وأنه يؤكد أن هناك رسائل احتجاج وصلته على مدى الأسابيع الفائتة، ورغم شعوره باليأس وتأكيده على أنه سينقل هذا الكلام حرفيا إلى الإدارة، إلا أنه أظهر عدم اقتناعه بإمكانية إحداث تغيير في موقف الإدارة العليا بالصحيفة يعمل بها!!
السؤال الجديد ماذا كانت نتيجة الرسائل الاحتجاجية التي تقدم بها القراء؟!! كانت النتائج مذهلة، وبعد مرور أسبوع واحد فقط من تلك المكالمة، اعتدل مسار الصحيفة بشكل جذري، واختفت تلك الصور، ومنذ ذلك اليوم وإلى لحظة كتابة هذه السطور لم تعد تلك اللقطات المخلة بالآداب تظهر في الملحق الطبي للصحيفة.
والسؤال: ما هو الجهد الذي بذله كل من اتصل هاتفيا، وأبدى احتجاجه وغضبه؟
بصراحة لم يكن هناك جهد على الإطلاق، فالاتصال وبذل دقائق محدودة للتعبير عن الغضب، لا يعد جهدا كبيرا مقارنة بالحصول على تلك النتائج المذهلة، التي أزاحت العبء الثقيل عن كاهل آلاف الأسر التي يسيء إليها أن تقع أبصار بناتها وأولادها منذ الصباح الباكر على صور مسيئة وتحمل رسائل سلبية.
تجربة أخرى في التغيير، ولكنها أبسط كثيرا، وإن كنت قد تعلمت منها الكثير، واستفدت على المستوى الشخصي، حدثت معي حين قبلت عن غير طيب خاطر إحضار مجلة أسرية إلى المنزل، ولكن مضمونها من الوزن الخفيف كعادة أغلب مجلاتنا، التي ترفع شعار الأسرة، ولا يتجاوز مضمونها الأزياء والديكور وتلقف أخبار الفنانين.
لمدة من الزمن، كنت كلما انتهيت من زيارة المطبعة التي اعتدت طباعة كتبي عندها، كان مدير المطبعة يصر على إهدائي الصحيفة اليومية، والمجلة الأسبوعية الصادرة من تلك المؤسسة الإعلامية.
ورغم الاعتذار عن قبول المجلة، بل وإظهار ملاحظاتي عليها، كنت أفاجئ بأن الموظف الآسيوي يحضرها إلى السيارة، ولم يكن هناك بد من القبول بها.
لاحظت ابنتي الوسطى دخول المجلة إلى المنزل أكثر من مرة، وسألتني عنها، فقلت لها دون اكتراث لا عليك منها، ضعيها في أي درج داخلي، فلا وقت لدينا لقراءة هذا النوع من المجلات.
فوجئت بأني أعاتب على خطأ لم أقترفه، فقلت لها لم أدفع نقودا لشراء هذه المجلة، بل أرغمت على القبول بها، حيث وصلتني للسيارة ولا تشغلي نفسك بها كثيرا. ثم شرحت لها وجهة نظري، بأنه الشعور بالخجل الذي منعني من الإصرار على رفض المجلة من مدير المطبعة والذي هو شخص وقور ومحترم. ومن غير اللائق النزول من السيارة، وإعادتها إلى مكانها في مكتب مدير المطبعة.
لكن جوابي لم يكن مقنعا، ولم يكن تبريري منطقيا على الإطلاق. وتكرر الأمر مرات، وفي بعض الأحيان كانت المجلة تصل للسيارة قبل انصرافي من المكتب، ورغم إبداء عدم الرغبة لمدير المطبعة في اقتناء هذه المجلة التي ترفع شعار الأسرة، إلا أن الرجل كان كعادته يؤمن بأن من حسن الضيافة إهداء زبائنه نسخة من مجلتهم الذائعة الصيت، والتي حققت انتشارا واسعا في الخليج.
مع توالي ردود الفعل الغاضة من ابنتي ومع عتابها لي، فهمت أن علي أن أكون أكثر وضوحا مع مدير المطبعة، فقلت له يا أستاذ لقد أظهرت لك أن أفراد أسرتي وأنا معهم لا نكترث بهذا النوع من الصحافة، وقد عوتبت من قبل ابنتي التي أظهرت غضبا مستمرا، فما رأيك لو تتوقف عن إرسال المجلة التي رغم أنها تباع بآلاف النسخ أسبوعيا، إلا أن هناك فئة من الفتيات تحتج عليكم ولا تقبل باقتناء مطبوعتكم حتى ولو مجانا!!
فقال إذن هذا موقف نهائي، فقلت له نعم، ولو تكرمت أخبر رئيسة تحرير هذه المجلة أن هناك فتاة لا يتجاوز عمرها الستة عشر عاما، تحاسب أمها على إحضار المجلة للمنزل، فلعل رئيسة التحرير تتأثر، وتفهم أن هناك فئة من فتيات اليوم يبحثن عن المضمون الجيد، والمحتوى الذي يحترم عقولهن ويضيف لهن الكثير!!
ومنذ ذلك اليوم، سواء ذهبت بنفسي للمطبعة لمتابعة كتبي، أو أرسلت بديلا عني، اختفت المجلة من البيت، وازددت يقينا أن المجاملات، حتى ولو كانت شخصية وفي إطار ضيق، ينبغي أن لا تكون إلا عن اقتناع تام، ومهما كان التعبير الواضح والصريح سيزعج احد الأطراف، فلا بأس، طالما أنه في حدود الأدب، ويصب على انتقاد العمل ولا يجرح الأشخاص!!
نعم الوضوح مطلوب والصراحة أفضل من الاكتفاء بالرفض البسيط أو الامتناع عن تقديم الرأي كاملا، ولعلي هنا استحضر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إني لأعجب من جلد الفاجر وعجز الثقة".
لعل الصفة التي نحتاج إليها في هذا الزمن، الذي كثر فيه تجاوز الخطوط الحمراء، والقفز فوق الثوابت أكثر من أي صفة أخرى، هو التعبير الواضح والصريح للمتسببين في الفوضى، بأن يصلحوا ما أفسدوا، أو أن يقللوا على الأقل من مساحة الاختراق لكل ما هو أصيل وثمين من قيمنا وعاداتنا. هذا وإلا المزيد من الفوضى والخراب دون شعور بالخجل أو وازع من ضمير.
منــقول