
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحنبلي الدمشقي
المجلد الثانى
الحلقة (158)
صـ 545 إلى صـ 551
والدليل إنما دل على أن الممكنات لها مبدع واجب بنفسه خارج عنها، أما كون ذلك المبدع مستلزما لصفاته، أو لا يوجد إلا متصفا بصفات الكمال، فهذا لم تنفه حجة أصلا (1) ، ولا هذا التلازم - سواء سمي فقرا أو لم يسم - مما ينفي كون المجموع واجبا قديما أزليا لا يقبل العدم بحال.
وأيضا، فتسمية الصفات القائمة بالموصوف جزءا له ليس هو من اللغة المعروفة وإنما (2) هو اصطلاح لهم، كما سموا (3) الموصوف مركبا، (4 بخلاف تسمية الجزء صفة، فإن هذا موجود في كلام كثير من الأئمة والنظار كالإمام أحمد وابن كلاب وغيرهما 4) (4) ، وإلا فحقيقة الأمر أن الذات المستلزمة للصفة لا توجد إلا وهي متصفة بالصفة، وهذا حق. وإذا تنزل إلى اصطلاحهم المحدث وسمى هذا جزءا، فالمجموع لا يوجد إلا بوجود جزئه الذي هو بعضه.
وإذ قيل: هو مفتقر إلى بعضه، لم يكن هذا إلا دون قول القائل: هو مفتقر إلى نفسه الذي هو المجموع، وإذا كان لا محذور فيه فهذا أولى.
وإذا قيل: جزؤه (5) غيره، والواجب لا يفتقر إلى غيره.
قيل: إن أردت أن جزأه مباين له وأنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر بوجه من الوجوه، فهذا باطل، فليس جزؤه غيره (6) بهذا التفسير، وإن أردت
**_________
(1) ب، أ: فهذا لم ينف حجة أصلا.
(2) ب، أ: إنما.
(3) ب: يسمون ; أ: يسموا، وهو تحريف.
(4) : (4 - 4) ساقط من (ب) ، (أ) .
(5) أ، ب: أجزاؤه.
(6) ع: غيرا له
============================== ==
أنه يمكن العلم بأحدهما دون العلم بالآخر، كما نعلم (1) أنه قادر قبل العلم بأنه عالم، ونعلم الذات قبل العلم بصفاتها، فهو غيره بهذا التفسير. وقد علم بصريح العقل أنه لا بد من إثبات معان هي أغيار (2) بهذا التفسير، وإلا فكونه قائما بنفسه ليس هو كونه عالما، وكونه عالما ليس هو (3) كونه حيا، وكونه حيا ليس هو (4) كونه قادرا، ومن جعل هذه الصفة هي الأخرى، وجعل الصفات كلها هي الموصوف، فقد انتهى في السفسطة إلى الغاية، وليس هذا إلا كمن قال: السواد هو البياض، والسواد والبياض هو الأسود والأبيض.
ثم هؤلاء الذين نفوا المعاني التي يتصف بها كلهم متناقضون يجمعون في قولهم بين النفي والإثبات، وقد جعلوا هذا أساس التعطيل والتكذيب بما علم بصريح المعقول وصحيح المنقول.
فالذين ينفون علمه بالأشياء يقولون: لئلا يلزم التكثر (5) . والذين ينفون علمه بالجزئيات يقولون: لئلا يلزم التغير، فيذكرون لفظ " التكثر " و " التغير " وهما لفظان مجملان: يتوهم السامع أنه تتكثر الآلهة، أو أن (6) الرب يتغير ويستحيل من حال إلى حال، كما يتغير الإنسان إما بمرض وإما بغيره، وكما تتغير الشمس إذا اصفر لونها، ولا يدري أنه عندهم (7)
**_________
(1) ع: يعلم.
(2) ب، أ: أعيان.
(3) هو: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(4) هو: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(5) ع: التكثير.
(6) ب، أ: وأن.
(7) عندهم: ساقطة من (ع)
============================== =======
إذا أحدث ما لم يكن محدثا سموه تغيرا، وإذا سمع دعاء عباده (1) سموه تغيرا، وإذا رأى ما خلقه سموه تغيرا، وإذا كلم موسى بن عمران سموه تغيرا، وإذا رضي عمن أطاعه وسخط على من عصاه سموه تغيرا، إلى أمثال (2) هذه الأمور.
ثم إنهم ينفون ذلك من غير دليل (3) أصلا، فإن الفلاسفة يجوزون أن يكون القديم محلا للحوادث، (لكن) من نفى منهم ما (نفاه) (4) فإنما هو لنفيه الصفات مطلقا، وكذلك المعتزلة. ولهذا كان الحاذق (5) من هؤلاء وهؤلاء كأبي الحسين البصري وأبي البركات صاحب " المعتبر " وغيرهما قد خالفوهم في ذلك، وبينوا أنه ليس لهم دليل عقلي ينفي ذلك، وأن الأدلة العقلية والشرعية توجب ثبوت ذلك، وهذا كله قد بسط في موضع آخر.
والمقصود هنا أن من نفى الجسم وأراد به نفي التركيب من الجواهر المفردة (6) أو من المادة والصورة فقد أصاب في المعنى، ولكن منازعوه يقولون: هذا الذي قلته ليس هو مسمى الجسم في اللغة، ولا هو أيضا حقيقة الجسم الاصطلاحي، (7 فإن الجسم ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا، وهو يقول: هذا حقيقة الجسم الاصطلاحي 7) (7) .
**_________
(1) ع: عبده.
(2) ب، أ: مثل.
(3) ع: بغير دليل.
(4) أ: من نفى منهم من نفاه، وهو تحريف ; ب: ومن نفاه منهم.
(5) ب (فقط) : الحذاق.
(6) ب: الفردة.
(7) (7 - 7) : في (ع) فقط
==============================
وإذا كان منازعوه من (لا) ينفي (1) التركيب من هذا وهذا، فالفريقان متفقان على تنزيه الرب عن ذلك، لكن أحدهما يقول: نفي لفظ (2) الجسم لا يفيد هذا التنزيه، وإنما يفيده لفظ التركيب ونحوه (3) ، والآخر يقول: بل (نفي) (4) لفظ الجسم يفيد هذا التنزيه.
ومن قال: هو جسم، فالمشهور عن نظار الكرامية وغيرهم ممن يقول: هو جسم، أنه يفسر ذلك بأنه الموجود أو القائم بنفسه، لا بمعنى المركب.
وقد اتفق الناس على أن من قال: إنه جسم، وأراد هذا المعنى، فقد أصاب في المعنى، لكن إنما يخطئه من يخطئه في اللفظ.
أما من يقول: الجسم هو المركب، فيقول: أخطأت (حيث) (5) استعملت لفظ " الجسم " في القائم بنفسه أو الموجود.
وأما من (لا) (6) يقول بأن كل جسم مركب، فيقول: تسميتك لكل موجود أو قائم بنفسه جسما ليس هو موافقا للغة العرب المعروفة، ولا تكلم بهذا اللفظ أحد من السلف والأئمة، ولا قالوا (7) : إن الله جسم،
**_________
(1) ب، أ: ممن ينفي، والصواب ما في (ع) ، والمقصود هنا من أثبت الجواهر الفردة مثل الأشاعرة، أو المادة والصورة مثل الفلاسفة فإنهم جميعا متفقون على تنزيه الرب عن الجسمية.
(2) لفظ: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(3) ب، أ: وإنما يفيده لفظ هذا التركيب ونحوه ; ع: وإنما يفيد لفظ التركيب ونحوه. ورجحت أن يكون الصواب ما أثبته.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ب) ، (أ) .
(5) ما بين القوسين ساقط من (ب) ، (أ) .
(6) ما بين القوسين ساقط من (ب) ، (أ) .
(7) ع: وقالوا
==============================
فأنت مخطئ في اللغة والشرع، وإن كان المعنى الذي أردته صحيحا.
فيقول: أنا تكلمت (1) بالاصطلاح الكلامي، فإن الجسم عند النظار من المتكلمين والفلاسفة هو ما يشار إليه، ثم ادعى طائفة منهم أن كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة، ونازعهم طائفة أخرى في هذا المعنى، وقالوا: ليس كل ما يشار إليه هو مركب لا (2) من هذا ولا من هذا، فإذا أقام صاحب هذا القول دليلا عقليا على نفي تركيب المشار إليه خصم منازعيه، إلا من يقول: إن أسماء الله تعالى توقيفية فيقول له: ليس لك أن تسميه بذلك.
وأما أهل السنة المتبعون للسلف فيقولون: كلكم مبتدعون في اللغة والشرع حيث سميتم كل ما يشار إليه جسما، فهذا اصطلاح لا يوافق اللغة، ولم يتكلم به أحد من سلف الأمة.
قال المدعون أن الجسم هو المركب: بل قولنا موافق للغة، والجسم في اللغة هو المؤلف المركب، والدليل (3) على ذلك أن العرب تقول: هذا أجسم من هذا عند زيادة الأجزاء، والتفضيل إنما يقع بعد الاشتراك في الأصل، فعلم أن لفظ الجسم عندهم هو المركب، وكلما (4) زاد التركيب قالوا: أجسم.
**[بطلان القول بأن العرب أطلقوا اسم الجنس على المركب من الأجزاء من وجوه]
فيقال: لهم أما كون العرب تقول لما كان أغلظ من غيره أجسم فهذا
**_________
(1) ع: فإن كان المعنى الذي أردته صحيحا، فنقول: إنما تكلمت. . إلخ.
(2) لا: في (ع) فقط.
(3) ب، أ: فالدليل.
(4) ب، أ: فكلما
============================== ==
صحيح، (مع أن بعض أهل اللغة أنكروا هذا) (1) . وأما دعواكم أنهم يقولون هذا (2) لأن الجسم مركب من الأجزاء المفردة، وكل ما يشار إليه فهو مركب فيسمونه جسما، فهذه دعوى باطلة عليهم من وجوه: أحدها: أنه قد علم (3) بنقل الثقات عنهم والاستعمال الموجود في كلامهم أنهم لا يسمون كل ما يشار إليه جسما، ولا يقولون للهواء اللطيف جسما، (4) وإنما يستعملون لفظ " الجسم " كما يستعملون لفظ الجسد، وهكذا نقل عنهم أهل العلم بلسانهم كالأصمعي وأبي زيد الأنصاري وغيرهما، كما (5) نقله الجوهري في " صحاحه " وغير الجوهري، (6) فلفظ " الجسم " عندهم يتضمن معنى الغلظ والكثافة، لا معنى كونه يشار إليه.
الوجه الثاني: أنهم لم يقصدوا بذلك كونه مركبا من الجواهر المفردة (7) أو من المادة والصورة، بل لم يخطر هذا بقلوبهم، بل إنما قصدوا معنى الكثافة والغلظ. وأما كون الكثافة والغلظ تكون بسبب كثرة الجواهر المفردة، (8) أو بسبب كون الشيء في نفسه غليظا كثيفا، كما يكون حارا وباردا وإن لم تكن حرارته وبرودته (9) بسبب كونه مركبا من
**_________
(1) ما بين القوسين في (ع) فقط.
(2) هذا: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(3) ب، أ: أنه قد علم من وجوه. . . إلخ.
(4) ب (فقط) : جسم، وهو خطأ.
(5) كما: ساقطة من (ب) ، (أ) .
(6) انظر ما سبق 2/525 (ت 3، 4) .
(7) ب (فقط) : الفردة.
(8) ب (فقط) : الفردة.
(9) وبرودته: ساقطة من (أ) ، (ب)
============================== =====
الجواهر الفردة، فالجسم له قدر وصفات، وليست صفاته لأجل الجواهر، فكذلك قدره. فهذا ونحوه من البحوث العقلية الدقيقة لم تخطر ببال عامة من تكلم بلفظ " الجسم " من العرب وغيرهم.
الوجه الثالث: أنه من المعلوم أن اللفظ المشهور في اللغة الذي يتكلم به الخاص والعام ويقصدون معناه لا يجوز أن يكون معناه مما يخفى تصوره على أكثر الناس، ويقف (1) العلم بصحة ذلك المعنى (2) على أدلة دقيقة عقلية، ويتنازع فيها العقلاء، فإن الناطقين به جميعهم متفقون على إرادة المعنى الذي يدل اللفظ عليه في اللغة، (وما كان دقيقا لا يفهمه أكثر الناس لا يكون مراد الناطقين به وكذلك ما كان متنازعا فيه. ولهذا قال من قال من الأصوليين: اللفظ المشهور لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى خفي لا يعلمه إلا خواص الناس، كلفظ " الحركة " ونحوه. ومعلوم أن لفظ " الجسم " مشهور في لغة العرب) (3) ، مع عدم تصور أكثرهم للتركيب، وعدم علمهم بدليل التركيب، وإنكار كثير منهم للتركيب من الجواهر الفردة والمادة والصورة. وهذا مما يعلم به قطعا أنه ليس موضوعه في اللغة ما تنازع فيه النظار، ومعرفته تتوقف (4) على النظر والأدلة الخفية.
**_________
(1) ب (فقط) : ويتوقف.
(2) المعنى: ساقطة من (أ) ، (ب) .
(3) ما بين القوسين في (ع) فقط.
(4) ع، أ: تقف
============================== ====