تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 857 الى صـ 862
الحلقة (161)
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 61 ] فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين
فمن حاجك أي : جادلك من النصارى بإيراد حجة : فيه أي : في شأن عيسى ، زعما منهم أنه ليس على الشأن المتلو : من بعد ما جاءك من العلم أي : الذي أنزلناه إليك ، وقصصناه عليك في أمره . وللفاضل المهايمي في هذه الآية أسلوب لطيف في التأويل حيث قال : الحق أي : الثابت الذي لا يقبل التأويل جاء : من ربك الذي رباك بالإطلاع على الحقائق : فلا تكن من الممترين بما ورد في الإنجيل من إطلاق لفظ الأب على الله ، فإنه إطلاق مجازي ؛ لأنه لما حدث منه كان كأبيه . وإذا ظهر لك الحق من ربك بالبيان التام : فمن حاجك أي : جادلك : فيه لإثبات أبنيته بظواهر الإنجيل : من بعد ما جاءك من العلم القطعي الموجب لتأويله فقل لم يبق بيننا وبينكم مناظرة ، ولكن نرفع عنادكم بطريق المباهلة : تعالوا أي : أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر يعرف فيه علو الحق وسفول [ ص: 857 ] الباطل : ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم أي يدع كل منا ومنكم نفسه ، وأعزة أهله ، وألصقهم بقلبه ، ممن يخاطر الرجل بنفسه لهم ، ويحارب دونهم ، ويحملهم على المباهلة : ثم نبتهل أي : نتضرع إلى الله تعالى ونجتهد في دعاء اللعنة : فنجعل لعنت الله أي : إبعاده وطرده : على الكاذبين منا ومنكم ليهلكهم الله وينجي الصادقين ، فلا يبقى العناد الباقي عليكم بعد اتفاق الدلائل العقلية والنقلية .
تنبيهات :
الأول - قال القاشاني : إن لمباهلة الأنبياء تأثيرا عظيما ، سببه : اتصال نفوسهم بروح القدس ، وتأييد الله إياهم به ، وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصري ، فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه ، كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق ، وغير ذلك من تحرك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم ، وانفعال النفوس البشرية منه ، كانفعال حواسنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا ، فإذا اتصل نفس قدسي به كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي بتأثير ما يتصل به ، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد ، ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف ، وأحجمت عن المباهلة ، وطلبت الموادعة بقبول الجزية ! .
الثاني : قال ابن كثير : وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران لما قدموا المدينة ، فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية ، فأنزل الله صدر هذه السورة ردا عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق وغيره ، وكانوا ستين راكبا ، منهم ثلاثة نفر ، إليهم يؤول أمرهم : العاقب أمير القوم واسمه : عبد المسيح ، والسيد ثمالهم ، وصاحب رحلهم واسمه : الأيهم ، وأبو حارث بن علقمة أسقفهم وحبرهم . وفي القصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أتاه الخبر من الله - عز وجل - والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم ، إن ردوا ذلك عليه ، دعاهم إلى المباهلة ، فقالوا : يا أبا القاسم [ ص: 858 ] دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم إن محمدا لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط ، فبقي كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا أبا القاسم ! قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ، ونرجع على ديننا . فلم يلاعنهم - صلى الله عليه وسلم - وأقرهم على خراج يؤدونه إليه .
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن الشعبي عن جابر قال : قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - العاقب والطيب ، فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله ، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا ، وأقرا له بالخراج ، قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « والذي بعثني بالحق ، لو قالا : لا ، لأمطر عليهم الوادي نارا » . قال جابر : وفيهم نزلت : ندع أبناءنا الآية . قال جابر : أنفسنا وأنفسكم : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب ، وأبناؤنا الحسن والحسين ، ونساؤنا : فاطمة ، وهكذا - رواه الحاكم في مستدركه بمعناه ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . هكذا قال .
وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلا ، وهذا أصح .
وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك .
وروى البخاري عن حذيفة - رضي الله عنه - قال : جاء العاقب والسيد ، صاحبا نجران إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدان أن يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل ، فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معنا [ ص: 859 ] رجلا أمينا ، ولا تبعث معنا إلا أمينا . فقال : « لأبعثن معكم رجلا أمينا ، حق أمين » . فاستشرف لها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : قم يا أبا عبيدة بن الجراح ، فلما قام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « هذا أمين هذه الأمة » . ورواه مسلم والنسائي أيضا وغيرهم .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال أبو جهل قبحه الله - : إن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لآتينهحتى أطأ على رقبته ، قال : فقال : لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا .
قال ابن كثير : وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي . وقد ساق قصة وفد نجران الإمام ابن القيم عليه الرحمة في ( زاد المعاد ) وأعقبها بفصل مهم في فقهها ، فليراجع .
الثالث : قال الزمخشري : فإذا قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه . فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك . ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلم ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة ، وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثمت كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب . ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق . وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها . وفيه دليل ، لا شيء أقوى منه ، على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام . وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك .
[ ص: 860 ] الرابع : استنبط من الآية جواز المحاجة في أمر الدين ، وأن من جادل وأنكر شيئا من الشريعة جازت مباهلته اقتداء بما أمر به - صلى الله عليه وسلم - . والمباهلة : الملاعنة .
قال الكازروني في تفسيره : وقع البحث عند شيخنا العلامة الدواني قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار ، وكلام الأئمة ، وحاصل كلامه فيها : أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعا ، وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة ، فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة وتقديم النصح والإنذار وعدم نفع ذلك ، ومساس الضرورة إليها .
قال الإمام صديق خان في تفسيره : وقد دعا الحافظ ابن القيم ، رحمه الله ، من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه وإجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ، إلى المباهلة بين الركن والمقام ، فلم يجبه إلى ذلك ، وخاف سوء العاقبة . وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف بـ ( النونية ) - انتهى - وقد ذكر في ( زاد المعاد ) في فصل فقه قصة وفد نجران ما نصه : ومنها أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا ، بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة ، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله ، ولم يقل : إن ذلك ليس لأمتك من بعدك . ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع ، ولم ينكر عليه الصحابة ، ودعا إليه الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ، ولم ينكر عليه ذلك ، وهذا من تمام الحجة - انتهى - .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 62 ] إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم .
إن هذا أي : المتقدم من شأن عيسى عليه السلام : لهو القصص الحق الذي [ ص: 861 ] لا معدل عنه ، دون أقاصيص النصارى . والقصص تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئا بعد شيء على ترتيبها ، في معنى قص الأثر ، وهو اتباعه ، حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر - أفاده الحرالي - .
قال البقاعي : ولما بدأ سبحانه القصة أول السورة بالإخبار بوحدانيته مستدلا على ذلك بأنه الحي القيوم صريحا ، ختم ذلك إشارة وتلويحا فقال ، عاطفا على ما أنتجه ما تقدم من أن عيسى عبد الله ورسوله ، معمما للحكم : وما من إله إلا الله فصرح فيه بـ : من الاستغراقية ، تأكيدا للرد على النصارى في تثليثهم : وإن الله لهو العزيز الحكيم فلا يشاركه أحد في العزة والحكمة ، ليشاركه في الألوهية .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 63 ] فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين
فإن تولوا أي : أعرضوا عن قبول الحق الذي قص عليه بعدما عاينوا تلك الحجج النيرة : فإن الله عليم بالمفسدين أي : بهم ، فيجازيهم على إفسادهم . والتعبير عنهم بذلك إشارة إلى أنهم بتوليهم ، مفسدون اعتقادهم واعتقاد غيرهم في الله تعالى .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 64 ] قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أي : إلى قول معتدل لا يميل إلى التعطيل ولا إلى الشرك ، متفق عليها لا يختلف فيها الرسل والكتب ، وهي : ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا أي : لا نرى غيره مستحقا للعبادة فنشركه معه ، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له . وهذه دعوة جميع الرسل . قال الله تعالى : [ ص: 862 ] وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا أي : كعزير والمسيح والأحبار والرهبان الذين كانوا يحلون لهم ويحرمون . كما روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال : « إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه » .
قال الكيا الهراسي : فيه رد على من قال بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، وعلى من قال : يجب قبول قول الإمام في التحليل والتحريم ولو دون إبانة مستند شرعي .
قال البقاعي : ولما كان الرب قد يطلق على المعلم والمربي بنوع تربية ، نبه على أن المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد والاجتراء على ما يختص به الله فقال : من دون الله الذي اختص بالكمال : فإن تولوا أي : عن هذه الكلمة السواء المتفق عليها : فقولوا أي : تبعا لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال : أسلمت لرب العالمين . وامتثالا لوصيته إذ قال : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون اشهدوا بأنا مسلمون أي : لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب ، وسلم لي الغلبة . ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره . كذا قال ( الكشاف ) .